مذكرتي اعتقال بحق مسؤولين صهيونيين: مجموعة السبع تؤكد التزامها بقرار المحكمة الجنائية الدولية    كرة القدم/رابطة أبطال إفريقيا : شباب بلوزداد ينهزم أمام اولاندو بيراتس (1-2)    بصمة الرئيس تبون بادية للرقي بالفلاحة والفلاحين    تصحيح مواضيع اختبارات الفصل الأول في الأقسام    الجزائر تطرد مجرمة الحرب ليفني من اجتماع أممي بالبرتغال    الفريق أول شنقريحة يزور معرض أحمد الجابر للنفط واللواء مبارك المدرع 15    الاحتلال الصهيوني يمسح 1410 عائلة فلسطينية من السجل المدني    الاتحاد الدولي للسكك الحديدية يشيد بمشاريع الجزائر    وزارة الصناعة : السيد غريب يشرف على تنصيب الأمين العام ورئيس الديوان    وزير الاتصال يعزّي عائلة الفقيد والأسرة الإعلامية    الفريق أول شنقريحة يواصل زيارته الرسمية إلى الكويت    رحيل صوت القضيتين الفلسطينية والصحراوية في المحاكم الدولية    الجيش الصحراوي يستهدف قوات الاحتلال المغربي المتمركزة بقطاع امكالا    مظاهرة أمام البيت الأبيض نُصرةً لفلسطين    هذا جديد بورصة الجزائر    متعامل الهاتف النقال "أوريدو" ينظم حفل توزيع جوائز الطبعة 17 لمسابقة نجمة الإعلام    الاجتماع الوزاري لمنتدى الأمم المتحدة لتحالف الحضارات: عطاف يعقد جلسة عمل مع نظيره البرتغالي    نظير جهوده للرقي بالقطاع..الاتحاد الوطني للفلاحين الجزائريين يكرم رئيس الجمهورية    لخضر رخروخ : إنشاء المجمع العمومي لبناء السكك الحديدية مكسب كبير    الصيد البحري وتربية المائيات.. فرص استثمار "واعدة"    مسح 1410 عائلات كاملة..إسرائيل ترتكب 7160 مجزرة في غزة    سوناطراك تفتح مسابقة وطنية لتوظيف خريجي الجامعات    محرز يحقق رقما مميزا في دوري أبطال آسيا    مازة لن يغادر هيرتا برلين قبل نهاية الموسم    مدرب مانشستر يونايتد يصر على ضم آيت نوري    حريق يأتي على ورشة نجارة    اكتشاف عيادة سرية للإجهاض    طالب جامعي متورط في سرقة    الإطاحة بشبكة إجرامية من 5 أشخاص بوهران    حرائق سنة 2024 مقبولة جدا    الجزائر استكملت بناء منظومة قضائية جمهورية محصنة بثقة الشعب    معرض لورشات الشباب الفنية    البحث في علاقة المسرح بالمقاومة    تسليط الضوء على أدب الطفل والتحديات الرقمية الراهنة    جائزة الشيخ عبد الكريم دالي : حفل تكريمي للفنان الراحل نور الدين سعودي    الأيام السينمائية الوطنية للفيلم القصير بتبسة: فيلم "القناع" للمخرج فيصل قادة يفتك المرتبة الأولى    الملتقى الدولي للمهرجان الثقافي للفن المعاصر : منصة للتبادل والتحاور في مواضيع الفن المعاصر    تطبيق مبتكر يحقق الأمن السيبراني    أيام توعوية حول مضادات الميكروبات    كابوس مرعب في موسم الشتاء    الفترة المكية.. دروس وعبر    العدوان الصهيوني على لبنان: الأمم المتحدة تجدد دعوتها لوقف إطلاق نار دائم وفوري لإنهاء خسارة الأرواح والدمار    معرض الحرمين الدولي للحج والعمرة والسياحة بوهران: استقطاب أكثر من 15 ألف زائر    وزير الصحة يشرف على اختتام أشغال الملتقى الدولي الثامن للجمعية الجزائرية للصيدلة الاستشفائية وصيدلة الأورام    تسيير الأرشيف في قطاع الصحة محور ملتقى    السيد سعداوي يترأس ندوة وطنية عبر تقنية التحاضر المرئي عن بعد    الفروسية : كأس الاتحادية للمسابقة الوطنية للقفز على الحواجز من 28 إلى 30 نوفمبر بتيبازة    سوناطراك: 19 شعبة معنية بمسابقة التوظيف القادمة    رقمنة القطاع التربوي: التأكيد على "الانجازات الملموسة" التي حققتها الجزائر    الدور الجهوي الغربي الأخير لكأس الجزائر لكرة القدم: جمعية وهران -اتحاد بلعباس في الواجهة    توقيف مُشعوذ إلكتروني    إعادة انتخاب دنيا حجّاب    ندوة بمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة    الابتلاء المفاجئ اختبار للصبر    وفاق سطيف يرتقي إلى المركز الخامس        هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطاهر بن عائشة: الذاكرة وخيبات الزمن المر!!
نشر في الحوار يوم 04 - 01 - 2016


ذاكرة العقد التاسع !
بقلم/ محمد بوعزارة
رغم أن الرجل لم يعد يفصله عن العقد التاسع من عمره سوى أقل من عام، ورغم ماعاناه في حياته من صعوبات ومتاعب وتقلبات، ورغم ما ناله من قسوة الحياة وأهوالها ومرها ومن تشريد عن بيته وزوجته وأبنائه خلال سنوات الإرهاب الأعمى في التسعينيات، حيث كان مهددا بالموت والقتل في كل لحظة مثله مثل كل الصحفيين والمثقفين المتميزين، ورغم أنه كان أول صحفي جزائري يُجْبر على التقاعد المسبق دون السن القانونية للتقاعد في الجزائر التي ناضل وجاهد من أجل استقلالها، رغم كل هذا ورغم السجن الذي عاناه زمن الاستعمار، فإن شيخ المجادلين اليساريين دون منازع الأستاذ الطاهر بن عائشة، مازال صامدا ضد ثقافة الجحود والنكران والنسيان وضد الانحرافات أيا كان شكلها، بل مازال صامدا ضد ثقوب الذاكرة التي بالرغم من خيبات الأمل التي اعترته عبر الزمن الصعب الذي كابده وتنكر الأصدقاء له والصدمات والإرهاق والقلق، رغم كل هذا فإن الطاهر بن عائشة، مازال يصارع ذاكرته لكي لا تكون شاهدة على خيانة تاريخه وتدوين ما عاشه في ماضيه مره وحلوه.
تختلف معه أو تتفق، لكن الرجل في كل الحالات يفرض عليك احترامه الكبير لثقافته الواسعة في الدين وفي الأدب، في التاريخ والفلسفة، في تاريخ الشخصيات البارزة وطنيا وعالميا وإسلاميا، فالرجل موسوعة متنقلة وذاكرة حية عن التاريخ في الوطن بل والتاريخ الإسلامي رغم اتهامه باليسارية، تحترمه أيضا لوطنيته المفرطة، ولتعففه عن المادة وعن المناصب أو الجري وراءها.
عرفتُ سي الطاهر، قبيل دخولي للجامعة بشهرين، أي منذ حوالي 42 عاما تقريبا، وكان ذلك منذ نهاية صائفة 1971، فقد التحقت بالقناة الرابعة للإذاعة التي انطلقت في البث في شهر أوت من ذلك العام، إثر مسابقة كان من بين الذين نجحوا فيها معي الدكتور عمر سعد الله شقيق الدكتور أبو القاسم سعد الله وعبد الرزاق جبالي وقاسم كبير أحد الأعضاء المؤسسين لاحقا للأرندي ومحمد الصالح ونيسي الكاتب المختص في التراث الشاوي.
كان سي الطاهر، منتجا لإحدى برامج تلك القناة التي كانت موجهة للمشرق العربي، ومنذ أن عرفته في تلك الأيام وجدته مجادلا مشاكسا لا يتخلى عن أفكاره ولا يجامل أيا كان إطلاقا حتى لو تعلق الأمر ب "خبزته"، كما يقال.
* الموقف والتقاعد المبكر..
كان مثلُ هذا الموقف هو الذي أحاله على التقاعد المبكر بل وحرمه من خبزته لفترة طويلة وحتى من دخول مؤسسة الإذاعة والتلفزيون بقرار وزاري، وهي المؤسسة التي انضم لها مبكرا في نوفمبر 1962.
زرتُه في بيته المتواضع بضواحي العاصمة مطلع الأسبوع المنقضي ورحت أستفزه على مدى ساعات ونحن وحيديْن على فتح بعض الدفاتر القديمة والنقش في الذاكرة التي لاحظتُ هذه المرة أنها لم تكن مقيدة كما كانت في الماضي، فقد اعتراها الصدأ ولوثتها خيبات الزمن المر، ومع ذلك فإن هذه الذاكرة ما تزال تتذكر كثيرا من الحقائق بشكل مذهل تظن أن صاحبها مازال في عقده الخامس أو أقل من ذلك إذا ما قارنت الرجل بمثقفين آخرين.
اعتدل سي الطاهر في جلسته وراح يردد علي ثلاثة أبيات شعرية لشاعر وطني مجهول، كان ذلك خلال شهر ماي 1945، فقد كان الطالب الطاهر بن عائشة، قد أنهى دراسته بجامع الزيتونة وركب القطار عائدا لبلدته بقمار بوادي سوف بعد أن عجلت هيئة جامع الزيتونة بإجراء امتحان الطلبة الجزائريينوطلبت منهم العودة إلى بلادهم فورا لتتبع أخبار عائلاتهم إثر مجازر ماي 1945 الرهيبة التي ارتكبت من قبل السلطات الاستعمارية في حق الشعب الجزائري.
قبل مواصلة الرحلة على متن إحدى الشاحنات من بسكرة نحو قمار استراح الطالب المتعب في إحدى المقاهي بعاصمة الزيبان بسكرة، ينتظر إقلاع الشاحنة عبر رحلة شاقة كانت تستغرق 48 ساعة في ذلك الزمن، كان حديث الناس في تلك الأيام لا يدور سوى عن تلك المجازر الشنيعة ضد الشعبالجزائري، وجلس الطالب الزيتوني بن عائشة ذو ال 21 عاما بالقرب منه في تلك المقهى خمسة رجال راح أحدهم يتلو الأبيات الشعرية التالية التي * * اختزنتها ذاكرة الشاب دفعة واحدة:
* تبسة الجميلة تشكو ما ألم بها فتجيبها بدموع الحزن وهرانُ
* من واد سوف إلى عنابة أفئدة قد جُرعت بكؤوس الظلم ألوانُ
* رب طفل صغير مسه ألم وشيخ كبير مات عطشانُ
وفجأة كما يذكر سي الطاهر وجد أحدهم يقول له إن الشاحنة ستنطلق نحو قمار الآن.
حز في نفس الطاهر عندها أن يُحْرم من مواصلة الاستماع لبقية القصيدة التي لا يعرف ناظمها لحد الآن، لكنه مازال يحفظ أبياتها منذ سمعها للمرة الأولى والأخيرة في ذلك اليوم من شهر ماي عام 1945!!..
من بين الرجالات الذين عرفهم سي الطاهر ويحكي عنهم بإعجاب وتقدير كبير مثله الأعلى في المواقف والجرأة والكتابة الراقية شعرا ونثرا الشيخ سعيد الزاهري.
يقول الطاهر بن عائشة: إن شخصية الشيخ السعيد الزاهري شخصية نادرة لن تتكرر، ويضيف إن هذا الرجل ذو المواقف الإصلاحية الجريئة لا يرقى إليه شخص آخر في الكتابة النثرية والشعرية والخطابة والفصاحة والمواقف، وربما تكون شخصيته القوية الآسرة واحدة من العوامل التي عجلت للأسف بتصفيته جسديا من قبل مَن ندم على ذلك أثناء الثورة.
عمل سي الطاهر صحفيا محررا مع أستاذه السعيد الزاهري في صحيفته "عصا موسى"، التي أصدرها عام 1950، وكان ينفق على إصدارها الشيخ الطيب العقبي رحمه الله.
ولكن السلطات الاستعمارية أوقفت هذه الصحيفة بعد صدور 16 عددا منها بسبب المواقف الجريئة التي كانت تتضمنها ضد الاستعمار وسياسته الاندماجية وضد أعوانه.
يذكر سي الطاهر للتاريخ من أن الشيخ السعيد الزاهري، كان في خلاف مع المرحوم توفيق المدني حتى أنه هجاه هجاء لاذعا في إحدى القصائد، لكن المرحوم توفيق المدني يقول مع ذلك في حق السعيد الزاهري مخاطبا الطاهر بن عائشة: إن السعيد الزاهري هو سيد من حمل القلم شعرا ونثرا دون منازع في هذا الوطن.
ويتحدث سي الطاهر كذلك بإعجاب كبير عن البطل الكبير الشهيد مصطفى بن بو العيد، الذي التقاه أكثر من مرة عندما أوفده حزب الشعب الجزائري للقيام بحملة انتخابية لصالح الحزب في انتخابات عام 1948 في الأوراس والزيبان، بقوله بأنه وطني كبير وعملاق أوراسي متزن وهادئ تنفذ كلماته إلى العقل كالرصاصة التي لا تخطيء الهدف.
* العملية التي سبقت ليلة أول نوفمبر..
قام الطاهر بن عائشة، صحبة رفيق دربه في حزب الشعب الجزائري عبد الكريم هالي، بعملية سبقت اندلاع شرارة أول نوفمبر، وكان ذلك يوم الثامن من أكتوبر 1954.
وتمثلت هذه العملية في إحراق متجر أحد اليهود المعروفين بمعاداتهم الكبيرة للجزائريين بقلب مدينة الجزائر.
ويذكر سي الطاهر، الذي يحتفظ بصورة كبيرة له في بيته مع الشهيد البطل عباس لغرور، أن هذا الأخير قال له مباشرة بعد هذه العملية خلال لقاء جمعهما بالجزائرالعاصمة أنه لو واصلنا عمليات من هذا القبيل ثم يأتي الأوروبيون لإطفاء النار فكأننا بذلك لم نقم بأي شيء.
ثم طلب منه لغرور، أن يذهب لفرنسا لجلب السلاح والمال من هناك للإعداد للعمل المسلح.
ولذلك شد الرجل الرحال نحو فرنسا رغم أنه لم يكن يحسن التكلم بالفرنسية، وفي باريس التقى بمصالي الحاج لأول مرة بوقت قليل قبيل اندلاع الثورة.
ويذكر الطاهر بن عائشة مستغربا، أنه كان يحمل صورة عن مصالي بأنه رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، لكنه فوجيء به يقرأ مقدمة ابن خلدون، وهو ما جعله يغير نظرته تماما عنه.
لكنه مع ذلك، يشير إلى أنه لم يجد لدى مصالي عندما تحدث له عن ضرورة العمل المسلح في الجزائر أي حماس لذلك بدعوى أن الوقت ليس مناسبا لذلك.
ويذكر سي الطاهر، أن أول من أخبره باندلاع الثورة هو المرحوم عبد الكريم سويسي، وقد قال له سي الطاهر عندها مستغربا: "بعثوني لفرنسا وهم دايرين حالة في الدزاير!!".
كان من بين من عرفهم أيضا العقيد محمدي السعيد والعقيد الشهيد عميروش، حيث مكث بصحبة هذا الأخير كما يقول شهرا ونصف الشهر على الحدود الجزائريةالتونسية، ولكنه لم يفصح عن رأيه فيه، واكتفى بالسكوت عندما سألته عنه، ولكنه قال عن العقيد محمدي السعيد بأنه كان معاديا لليساريين.
* نص مجهول يقوده للإذاعة!!
كانت قصة انضمام سي الطاهر، لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون في شهر نوفمبر عام 1962 غريبة حقا، فمع بداية الدخول الاجتماعي أرسل سي الطاهر طلبين للتوظيف لكل من وزارة العدل ووزارة التربية، وجاءته الموافقة من الوزارتين، الأولى ليكون قاضيا في واد الفضة بعين الدفلى، والثانية بالقبول معلما في حجوط قرب تيبازة، لكنه فضل التعليم لقرب حجوط من الجزائر العاصمة.
وأرسل المعلم سي الطاهر، نصا يتضمن ستا وثلاثين صفحة للإذاعة والتلفزيون آنذاك يتعرض فيه للتناقضات التي عرفتها الثورة.
لم يرفق الطاهر بن عائشة النص باسمه وبعثه باسم مجهول، وعندما وقع في أيدي أعضاء لجنة قراءة النصوص التي تم تنصيبها مباشرة بعد استعادة الإذاعة والتلفزيون قبيل ذلك بأيام، مباشرة بعد 28 أكتوبر تاريخ رفع العلم فوق مبنى الإذاعة والتلفزيون، أعجب الجميع بالنص الذي لم يعرفوا صاحبه، وراح الراحل عيسى مسعودي أول مدير عام للإذاعة والتلفزيون يحث الجميع على البحث عن صاحب النص المجهول، ولعل من حسن الصدف أن عبد العزيز شكيري، الذي رفع العلم الوطني فوق مبنى المؤسسة كان يعرف صاحب الخط ومكان عمله، فأسر لأعضاء اللجنة باسم صاحب النص، فما كان من المدير العام عيسى مسعودي، إلا أن طلب منه في تلك اللحظة بالذات التوجه حالا للطاهر بن عائشة لكي يدعوه ليباشر العمل بالإذاعة، قائلا:
هذا الرجل الذي أعرفه مهمته العمل في الإذاعة وليس التعليم!
وهكذا كانت بداية سي الطاهر مع الإذاعة التي انكب فيها بكل جد ومثابرة على إعداد وكتابة 4 برامج أسبوعية من بينها: صوت العمال، ومنك السؤال والجواب، ونافذة على إفريقيا.
ولم يكتف الطاهر بن عائشة بالعمل الإذاعي وحده، بل كان وراء تأسيس صحيفة الثورة والعمل الناطقة باسم الاتحاد العام للعمال الجزائريين، كما أسهم مع صديقه السابق المرحوم الطاهر وطار في إنشاء جريدة الجماهير.
* سي الطاهر اليسار والتوبة!
ويتوقف الطاهر بن عائشة لحظة ويقول لي بكل تأثر: هل أفشيك سرا إذا قلت لك بأنني أول مَنْ أقنع الطاهر وطار ليكون يساريا!!
وأساله ضاحكا: إذن أنت من أفسدت عليه إيمانه وإسلامه؟
فيرد، وهل تعتقد أن اليسار كفر وزندقة، ويضيف إن اليساري القويم الخادم للمجتمع والمتشبع بالقيم والمبادئ أحسن من المتأسلم الدجال المتاجر بالدين.
ثم يذكرني بأن أحد أصدقائه منذ مرحلة الشباب كان يساريا ومع ذلك فلم تكن سجادة الصلاة تبرحه أينما حل وارتحل.
وعندها ذكرته مداعبا بما قلتُهُ له عندما قدمني خلال محاضرة ألقيتُها بالمكتبة الوطنية في جانفي 2005، حيث رويتُ له على لسان شاه إيران السابق رضا بهلوي قوله للكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل: بأن من لم يتأثر بالشيوعية واليسار عموما قبل سن العشرين ليس بإنسان، ولكن من يبقى متأثرا بهما بعد سن العشرين فهو ليس كذلك بإنسان!!
* فقال لي إذ ذاك وهل تظن بأنني لست بإنسان؟
فقلت مداعبا: تأمل ذاتك لكي تحكم على نفسك بنفسك!!
وعندها راح سي الطاهر يبتسم بعفوية المثقف اليساري والمسلم المتفقه في الدين، الذي لا يتوقف عند ويل للمصلين.
قد يسألني بعضهم بعد كل هذا بقولهم: وماذا قدم هذا الطاهر بن عائشة للدين الإسلامي وهو المعروف لدى العديد من المثقفين خصوصا بيساريته؟
* ولا أجد من كلام سوى القول:
ألم يكن هو الذي جاب إفريقيا والعديد من الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى وإسبانيا، وأنتج للتلفزيون الجزائري عشرات الحلقات عن الإسلام في عصوره الزاهية وخاصة في الأندلس، وبيّن في تلك الحلقات أنه مدافع شرس عن الإسلام في بعده الحضاري والإنساني والاجتماعي وعن العدل الذي حققه خصوصا في ظل خلفاء من أمثال عمر بن الخطاب وعمر بن العزيز رضي الله عنهما، مما جعل الإسلام يعم بسرعة البرق عبر العالم وينتشر بفضل ما كان ينشره بين الناس من فضائل وتآخ، وما يزرعه من حكم راشد لا فرق فيه بين حاكم ومحكوم وما يقيمه من عدل ومحبة عبر حوار راق يشارك فيه علماء أجلاء إلى جانب الخليفة والأمير والسلطان، ويبينون للناس أوجه الصواب من الخطإ بالحجة والمنطق وبالتأويل القائم على استخدام العقل والخالي من الشعوذة والدجل، وليس عبر فتاوى مغلوطة تبرر قتل العلماء والأئمة والشعراء والحكماء وحتى قتل الرضع والنساء والشيوخ والأبرياء بغير حق مثلما يحدث اليوم، وهي فتاوى يزرعها دخلاء على الإسلام وجهلة لا صلة لهم لا بالعلم ولا بالإسلام.
ما يزال الكثير من المثقفين يتذكر أفكار سي الطاهر الجريئة التي طرحها في محاضرته الجريئة المعنونة ب "اليسار في الإسلام" التي ألقاها بالمركز الثقافي الإسلاميبالجزائر العاصمة في السبعينيات عندما كان المرحوم مولود قاسم على رأس وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية، وكان المرحوم أحمد حماني، على رأس المجلس الإسلامي الأعلى، وقد جند كلا الرجلين مولود قاسم وحماني عددا من الأئمة والعلماء للرد على أفكار بن عائشة.
ومع ذلك، فإن هذه المحاضرة التي استغرق إلقاؤها ساعتين، وتبعتها مناضرة على امتداد ثلاث ليال كاملة كان النقاش فيها خلال شهر رمضان حادا يبدأ بعد صلاة التراويح مباشرة ولا ينتهي إلا قبيل كل فجر، ومع ذلك، لم يستطع خلالها ذلك الجيش العرمرم بما فيه الوزير الموسوعي مولود قاسم والعالم الجليل أحمد حماني رحمهما الله من مغالبة اليساري الزيتوني الطاهر بن عائشة.
وعندها، صرخ المرحوم أحمد حماني في وجه الطاهر بن عائشة بشأن لقبه قائلا له: كل الناس يُنْسَبُون لآبائهم، إلا أنت يا بن عائشة فإنك تُنْسَبُ إلى أمك.
وعندها ابتسم الطاهر بن عائشة ورد على الشيخ حماني رحمه الله الذي يعترف له سي الطاهر بأنه واحد من عمالقة الفكر الإسلامي بكل أدب وهدوء وروية بقوله: إنه لشرف لي ذلك أن أكون ثاني اثنين يُنسبان لأمهما: عيسى بن مريم عليه السلام والطاهر بن عائشة!!
وقد كان رأي الحضور أن يتواصل النقاش المناظرة لليلة الرابعة على التوالي، لولا أن سفر سي الطاهر خارج الوطن حال دون ذلك!!
عندما عاد الطاهر بن عائشة من الحج في مطلع الثمانينيات، زاره عدد من أفراد عائلته ومن الأصدقاء، وكان من بين من زاره مهنئا ابن عمه عبد الرحمن بن عائشة، وهو رجل مثقف اغتيل رحمه الله عندما كان رئيسا لبلدية قمار خلال عملية إرهابية شنيعة.
ولما عاد المرحوم عبد الرحمن لقمار وكان الوقت شتاء التف حوله عدد من المعارف والأصدقاء يسألونه مستغربين: هل تاب سي الطاهر فعلا بعد أن حج؟
وبنباهة أهل وادي سوف وحدة ذكائهم قال عبد الرحمن:
بالله عليكم هل رأيتم في حياتكم شخصا ينهض مع صلاة كل فجر في مثل هذا الشتاء القارص للوضوء والصلاة ولا يكون كامل الإيمان؟
ثم أضاف لتأكيد إيمان سي الطاهر: هذا ما رأيتُه بعيني طيلة الأيام التي قضيتُها عند الحاج الطاهر!!
وضحك الجميع واعتبروا أن توبة الحاج الطاهر توبة لا شك فيها..
والآن وسي الطاهر في مثل هذه السن، فقد تدخل بعض الثقوب ذاكرة الرجل بفعل الزمن القاسي الذي عانى منه على امتداد ما يقرب من تسعين عاما في النضال في حزب الشعب ثم في جبهة التحرير الوطني قبل أن يهجرها في الثمانينيات بعد أن أدرك أنه جاء للنضال مع مَنْ كانوا مناضلين مثله، فإذا به يجد نفسه كما قال يناضل ضدهم وضد أنانيتهم وتصرفاتهم الانتهازية.
عمل سي الطاهر في الصحافة المكتوبة، وأنتج للمسرح، وأنتج العديد من البرامج والأشرطة للإذاعة والتلفزيون، ومارس السياسة قبل ذلك بمنطق المناضلين الشرفاء، بل وعمل في مهن أخرى من بينها التعليم الذي هربه منه الراحل عيسى مسعودي.
وبعد هذا العطاء الكبير والعمر الطويل، قد يعتري الرجل الآن بعض الضعف في الذاكرة ويصيب جسمه المنهك بعض الوهن بفعل الكبر والتعب وخيبات الزمن المر، لكن سي الطاهر مع ذلك يبقى مثقفا موسوعيا من طراز خاص قلما يجود به الزمن في المستقبل.
وإذا كنتُ لا أستطيع عتاب الرجل لكونه لم يطبع أي كتاب يحفظ به ما تركه للأجيال من أعمال، فإنني أناشد وزارة الثقافة ومختلف الهيئات الثقافية المتخصصة وعلى رأسها المكتبة الوطنية أن تبادر بطبع مختلف المقالات والمحاضرات وتفريغ مختلف البرامج الإذاعية والأشرطة والروبورتاجات التلفزيونية لتضعها أمام جمهور القراء كي لا يضيع مثل هذا العمل الجبار الذي أنجزه هذا الرجل الزيتوني، اليساري، المسلم على امتداد حوالي سبعين عاما.
نشر في الجزائر نيوز يوم 23 – 02 – 2013


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.