في 11 مارس عام 2006, أعلن في لاهاي عن موت الطاغية سلوبودان ميلوسيفيتش, في وقت كانت فيه محاكمته قد أوشكت على الانتهاء, وكان الجميع في انتظار القصاص العادل لمحكمة العدل الدولية من أحد أكثر طواغيت التاريخ دموية, والملقب بجزار البلقان, ومجرم الحرب الصربي, وألقاب كثيرة خلعها عليه العالم, الذي لطالما وقف مصدوما أمام جبروته, ووحشيته, وبشاعته. وهكذا انتقل ملف السفاح الذي سفك دماء المسلمين… انتقل ملفه من محكمة وضعية عدالتها نسبية, إلى محكمة إلهية تتوفر فيها العدالة المطلقة. ورغم ذلك, فقد انفجرت عائلات جميع ضحايا هذا الجزار غضبا عند إعلان نبأ موته, لأنهم كانوا ينتظرون أن يدفع ثمن خطاياه في حياته, فأعداد ضحايا ميلوسيفيتش كانت تفوق قدرة الجميع على التخيل. فقد قتل هذا المجرم أكثر من مائتي ألف مسلم في حملات الإبادة, التي مارسها نظامه, وقواته العسكرية, وأجهزة استخباراته, وعصاباته الهمجية, والتي كان من ضحاياها أكثر من 30 ألف امرأة مسلمة تم اغتصابها في البوسنة, وأكثر من 350 ألف مسلم مروا عبر معتقلات جماعية, بالإضافة لتهجير نحو مليونين ونصف المليون مسلم, منهم مليون ونصف المليون خارج البوسنة, ونحو مليون داخلها. وقد طالت يد هذا الديكتاتور عددا كبيرا من المهجرين داخل البوسنة, مثل سراييفو التي قتل فيها 12 ألف نسمة, خلال 4 سنوات, دون أن يحرك ذلك ما يسمى بالعالم الحر, ودوائر حقوق الإنسان والحريات, ثم "سريبرينتسا" الجريحة التي قضى فيها في جويلية 1995 على ما يزيد عن 10 آلاف نسمة, خلال ثلاثة أيام, ومقابرها الجماعية التي لا يزال يعثر على الكثير منها, بعد أن بلغ عدد من تم العثور عليهم أكثر من 25 ألف ضحية, ومازال البحث جاريا. كان من المحزن حقا أن يموت ميلوسيفيتش قبل أن تنتهي محاكمته عن جرائمه في ضوء الأدلة التي قدمت ضده طيلة فترة محاكمته وهي 4 سنوات و8 أشهر, وكانت كافية لإدانته بالجرائم التي ثبت أنه ارتكبها وعددها 66 تهمة تتعلق بجرائم حرب, وجرائم إبادة, وجرائم ضد الإنسانية, وهي التصنيفات الخاصة بأنواع الجرائم التي ارتكبها حسب اتفاقية جنيف الموقعة عام 1949. والحقيقة أنه ليس من السهل ولا الطبيعي ولا المنطقي الفصل بين التاريخ الدموي لجزار الصرب سلوبودان ميلوسيفيتش, وبين طفولته, بأي حال من الأحوال, وإذا كان ماضي الإنسان يشكل مستقبله, كما تؤكد جميع الدراسات النفسية, فإن ماضي هذا الطاغية البعيد, والمتمثل في طفولته الشاذة, كان سببا رئيسيا فيما كان هو عليه فيما بعد من تاريخ دموي. فقد ولد سلوبودان ميلوسيفيتش في 20 أوت 1941, في بروزايفاتش, شرقي صربيا, من أب لاهوتي ينحدر من مونتينيجرو, وأم شيوعية. وقد انتحر عمه الذي اعتاد أن يزورهم في بيتهم أمام عينيه, بعد أن أطلق النار على نفسه, أما أبوه فقد ترك الأسرة عقب الحرب العالمية الثانية, وانتحر في عام 1962 في "الجبل الأسود", وكذلك فعلت أمه الشيوعية بعد عشر سنوات من زوجها الذي انفصل عنها.. ويرى المحللون أن طفولة ميلوسيفيتش المشوهة, وما شهدته من مآس حولت الصغير إلى فأر صغير مذعور, وصبي _ فيما بعد ناقم على كل شيء وأي شيء_ يلهث وراء السلطة, لاتقاء عقدة الخوف التي لازمته, والتي ما إن يحاول مواجهتها بقتل من يراهم خطرا على سلطته, تدفعه لقتل المزيد والمزيد.. ويقول هؤلاء المحللون: إن هذه العقدة هي المسؤولة عن سلسلة الحروب التي أودت بحياة مئات الآلاف, وشردت خمسة ملايين آخرين في يوغسلافيا السابقة, وجرائم التطهير العرقي ضد المسلمين, والقبور الجماعية, وعمليات الاغتصاب, والتعذيب والقتل, التي حدثت في البوسنة والهرسك وكرواتيا وكوسوفو, في التسعينيات من القرن العشرين, مسجلة باسم الطاغية الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش. كما يرى هؤلاء المحللون أن ميلوسيفيتش نفسه قد ورث فكرة الانتحار كمخرج عندما تحاصره الأخطار من طفولته والبيئة التي ولد فيها, وعائلته التي شهدت انتحار معظم أفرادها. فلأكثر من عشر سنوات, جسد ميلوسيفيتش, في نظر الغرب, نظاما ديكتاتوريا ودمويا يقوم على مغالطات تاريخية, وذلك بعد سقوطه في الخامس من أكتوبر عام 2000, تحت ضغط الاضطرابات التي أجهضت جهوده للبقاء في السلطة, بالرغم من هزيمته الانتخابية. فلا الحرب في كرواتيا والبوسنة وكوسوفو, ولا حتى عمليات القصف التي شنها حلف شمال الأطلسي لمدة 77 يوما على بلاده في عام 1999, ولا العقوبات الدولية استطاعت أن تزعزع سلطة الرجل الذي بقي بنظر أشرس المدافعين عن الأمة الصربية. وبعد شهرين من هزيمته أمام المعارضة التي كان يقودها الرئيس فويسلاف كوستونيتسا, عاد ميلوسيفيتش إلى الساحة السياسية بإعادة انتخابه رئيسا للحزب الاشتراكي الصربي قبل اعتقاله في الأول من أفريل 2001, تمهيدا لإحالته في 28 جوان من العام ذاته, أمام محكمة جرائم الحرب الدولية في لاهاي, حيث واجه اتهامات بالإبادة الجماعية في البوسنة, وارتكاب جرائم ضد الإنسانية في كوسوفو وكرواتيا في التسعينيات. لكن هذا الطاغية الذي فارق الحياة في 11 مارس 2006, أفلت بوفاته من العقوبة المقررة في القانون الإنساني, جراء ما اقترفه من جرائم يندى لها جبين تاريخ الإنسانية, كان يستحق أن يعدم بسببها مليون مرة, لفظاعتها وحجم ضحاياها. ولم يكن سفاح الصرب هو الدموي الوحيد في عائلته فقد كانت زوجته ميرا_ التي كانت تشاركه نفس الطفولة البائسة_ أكثر دموية منه, بل كانت هي المحرضة له في كثير من جرائمه نتيجة ضعف شخصيته تجاه النساء, بفعل طفولته البائسة, وقصة ميرا زوجة جزار الصرب هي قصة امرأة تسببت في قتل آلاف البشر.. ولم تكن ميريانا "ميرا" ماركوفيتش تشغل منصبا حكوميا خلال فترة حكم زوجها سلوبودان ميلوسيفيتش لكنها بالتأكيد كانت المسيطرة على أذنيه. ويؤكد الجميع في صربيا أنها كانت تقف خلف الكثير من جرائمه. وقصة ماركوفيتش وميلوسيفيتش امتزج فيها الرومانسي بالمأساوي ليس لهما وحدهما, ولكن للملايين من مواطني يوغسلافيا السابقة, فوالداه وعمه انتحرا بإطلاق الرصاص على الرأس _كما أسلفنا ذكر ذلك_ بينما شنقت أمه نفسها. وأم ماركوفيتش _وهي مقاتلة شيوعية شاركت في الحرب العالمية الثانية _أعدمها شقيقاها في الجيش بعد الحرب العالمية الثانية_أعدمها شقيقاها في الجيش بعد أن كشفت عن أسرار تحت التعذيب للقوات الألمانية التي أسرتها. ويتردد أن أمر الإعدام صدر من أبيها شخصيا.