بقلم: نور الدين بوكروح ترجمة: وليد بوكروح رَوّعَ تنظيم داعش أعين العالم أجمع لمّا نسف آثارا تاريخية تعود إلى مهد البشرية، كانت منتصبة في مكانها منذ آلاف السنين، بما في ذلك في عهد الرسول "صلى الله عليه و سلم" والخلفاء الراشدين من بعده الذين لم تخطر على بالهم يوما فكرة تدميرها، بل لم يحدث أن تعرض الرسول أو خلفائه يوما لأيّ من المعالم الأثرية التي وجدوها في شتى أنحاء القارات الثلاث التي حكمتها الحضارة الإسلامية دون انقطاع لمدة قرون.
فَلَيسَ الإسلامُ إذن من يحثُّ على مثل هذه الأفعال الشنيعة، وإنّما هو "العلم" الذي انبثق منه والذي سبق له أن ألهم "طالبان" ليقصفوا تماثيل "بوذا" في أفغانستان بالمدفعية الثقيلة. ونلاحظ بالمناسبة أنه لم تندد أي واحدة من الدول الإسلامية بهذه الأفعال، كما لم تخرج جماهير المسلمين إلى الشارع لتغضب على هذا الانتهاك الصارخ لمبادئ الإسلام الأصلية. ما أخشاه هو أن تكون هي أيضا رأت في هذه الآثار أصناما يتطاولُ وجودها على توحيد الله، رغم أن الوثنية لم تتمكن يوما من أن تمنع مجيء الإسلام أوانتشاره، هذا إذا أعطينا أصلا أيّ معنىً لمثل هذا التفكير.
هذا العلم لم ينبع من العدم بل تولد عن "تفسير" عكف طيلة قرون على دفن الروح الأصلية للقرآن الكريم، وإحكام الغلق عليه ليجعلهُ يقولُ ويعني ما يريد متى يريد، وقام بتغليفه مثلما تفعل الطبقات الجوية لكوكب الأرض لكن ليس ليحميه، بل ليمنع الضوء من النفاذ منه أو إليه. مالك بن نبي الذي عانى في حياته كثيرا من هذا الدرع أطلق عليه عبارة تصفه وتلخصه: "غث ما بعد عهد الموحدين" (la gangue post-almohadienne).
حال الأمة الإسلامية اليوم أسوء من أي وقت مضى، لا لأنها تعاني من أعدائها كما كان الحال في الماضي، بل لأنها صارت تموت تحت ضربات أبنائها الذين يغتالونها ب"الأفكار القاتلة " التي يحملونها (الإسلاموية بأطيافها)، والتي أفرزها تعفن جثة "الأفكار الميتة" التي توارثوها و لا يزالوا. هذا هو الواقع الذي لن يستطيع نفيه لا الإنكار المصطنع، و لا الإحتجاج الشوفيني و لا التفاؤل الوهمي.
كَثُرَ و يزداد عدد البلدان العربية الإسلامية التي أضحت فريسة للإرهاب والحرب الدينية اللذين يحصدان مئات الآلاف من القتلى منذ نهاية القرن الماضي، ومنذ إعادة اشتعال الصراع الذي بدأه معاوية وعلي قبل أربعة عشر قرنا والذي أخذ اليوم ملامح حرب دينية متجذرة بين السنة والشيعة. لابد من حل واق من هذا الانحراف، فما الذي جناه الطرفان من حرب إيران والعراق في ثمانينيات القرن الماضي، التي قتل خلالها مليون من الضحايا من بينهم وزير خارجيتنا مع وفد يُرافقه في ذلك الوقت؟.
تتشكل اليوم في أذهان غير المسلمين رويدا رويدا ملامح حرب أشد ضراوة وأكثر تهديدا لمستقبل المسلمين أينما وجدوا في العالم، كما يتأكدون يوما بعد يوم أن الإسلام ككل هو المسؤول عن التناقض الصارخ بين المسلمين وباقي الأجناس، حتى وإن كانت أقلية فقط منهم هي التي تحمل الأفكار التي توصف بالمتطرفة، فلا يمكن الإنكار أن هذه الأفكار تنبع مباشرة من "العلم" الرسمي والخطاب الديني الذي تسقيه وتتداوله مختلف القنوات التلفزيونية والمساجد يوميا. هذا، ويعمل "الجهل المقدس" -العبارة التي يُرجح أنّ قائلها هو محمد أركون- دون هوادة ليجعل من هذه الأقلية أغلبية ساحقة وسط المسلمين، كما نلاحظ مثلا في بلدنا الذي حقق انتصارات واعدة ومميزة في هذا الشأن.
كيف لا ندق بعد جرس الإنذارهذا ؟ وكيف يمكن ألّا نشعر بالحاجة الماسة لإعادة النظر في كل ما يدور في فلك الإسلام؟ لنَفرشَ كل ما يحتويه على البساط حتى نرجع إلى نقطة البداية، ومن هناك نتتبع الطريق الذي سار عليه الفكر الإسلامي خطوة بخطوة، حتى نجد اللحظة والحدث والمكان الذي تحول فيه مصيره، ومفترق الطرق الذي غيّر فيه الفكر الإسلامي اتجاه التقدم، ليسلك طريق الانحطاط والإرهاب الفكري ثم الفعلي.
استنادا إلى هذه الحقائق، وعرض الأحداث هذا، نشرت وأواصل سلسلة مقالات اقترحت فيها ورقة طريق من أجل إصلاح الفكر الإسلامي، وما أعنيه بهذا هو تحديث التصور الذي يحمله المسلمون للوجود، وإعادة تكييفه بما يتماشى مع التوجهات العالمية الذي تسلكها البشرية اليوم.
هذا، وعَرَضتُ أيضا إطارا مناسبا يمكن أن تعالج فيه القضية، في ما يمكن أن يأخذَ شكلَ دورة مفاوضات متعددة الأطراف داخل "منظمة التعاون الإسلامي". كما أشرت بدقة لعدم جدوى ربط ذلك برزنامة زمنية لأن العمل يمكن أن يتطلب عشريات كاملة، المهم هو أن يتمكن المشروع في النهاية من إزاحة "غث ما بعد الموحدين": الخروج بتفسير و فقه جديدين، توحيد المذاهب ثم توحيد برامج التكوين والتعليم في المجال الديني، في العالم الإسلامي أجمع.
كما اقترحت أيضا منهجية يمكن من خلالها تجديد وتحديث تفسير القرآن، عبر استغلال الأفق الفكري الواسع الذي تفتحه أمامنا دراسَتُهُ في الترتيب الزمني الذي نزل فيه، ليس للخروج بمصحف جديد، كما أكدت على ذلك جيدا، فليس هذا هو الهدف، و إنما من أجل الاستغلال الأمثل لكل الموارد المعرفية والفكرية التي تتيحها لنا هذه القراءة، فقد يُمَكّنُنَا هذا من توسيع وتنظيم التصور الذي يحمله المسلمون لله و للكون و لسبب وجود الإنسان و لغير المسلمين بما يتماشى مع ما وصل إليه العلم الإنساني اليوم من تقدّم، أين الخطأ في هذا؟، أين هو التطاول على الله أو الدين أو الرسول "صلى الله عليه و سلم" أو القرآن؟
لقد عرف تاريخ المسيحية على سبيل المثال محاولتين مماثلتين فاشلتين، في القرن التاسع عشر ثم العشرين، عُرفَتا باسم "فاتيكان" 1 و 2، لكن العراقيل في ما يخص الإسلام ليست بنفس التعقيد، إذ لا يَكمُنُ المشكل في العقيدة مثل ما يفرق بين الكاثوليك و البروتستانت، وإنما فقط في ما أضافته يد الإنسان إلى الدين. يُمكنُ في هذا السياق التذكير بأن السنة و الشيعة يشتركون في المصحف نفسه الذي جمع في عهد عثمان.
فعلا ففي هذا الموضوع أو سواه، ما يتكون منه الإسلام اليوم، هو قليل فقط من القرآن، لكن كثير من كتلة معارف متحجرة بالية أضافَتها يَدُ البشر طيلة أكثر من ألف عام، فيستحيل في اعتقادي إدخال إصلاح على الفكر الإسلامي دون اللجوء إلى القرآن، لنتمكن من بعث نفس و طاقة جديدين فيه، و دون هذا الإصلاح ستستمر الأمة في الغرق حتى يبتلعها بَحرُ الشعوذة و الجهل و الفقر و الحرب الأهلية.
الإسلام هو أولا القرآن، ثم سيرة و أحاديث الرسول "صلى الله عليه و سلم"، و أخيرا اجتهاد القدرات العقلية و الفكرية الحرة للإنسان. في الماضي البعيد اجتهدت عقول نيرة حرّة و جريئة لتعطي القرآن تفسيرا يواكب اتجاه التطور البشري و يسير معه، فجاء ثمرةً لاجتهادهم والمجهود الذي بذلوه "العصر الذهبي" الإسلامي الذي طور شتى العلوم الإنسانية و الفنون و العلوم الدقيقة و الفلسفة، حاملا في سياق تقدمه شعوبا و أديانا أخرى، ثم جاء يوم انتهت فيه هذه المسيرة العظيمة بقدرة قادر، تاركةً مكانها لجفاف الفكر و الروح و القلب و الوجه و اللفظ.
الروح الأصلية للقرآن تمكنت من حمل المسلمين ليصلوا إلى هذه المرحلة لا أكثر؛ إلى نقطة التحول التي تمكنت بعدها المُحافَظةُ و الصُّوفية و الحَرفيَّةُ من الدين، و تغلبت على العقل و المنطق، ثم استحوذ منذ ذلك الحين "رجال الدين" على دراسة القرآن و تفسيره، مانعينَ أيًّا كانَ من الاقتراب منه، حابسينَ بذلك الإسلام في الجمود و الإنحطاط. وحتى بعد أن غنم العالم الإسلامي بعناء بعض المكتسبات المتواضعة من تَغَلُّبه على الاستعمار، فإنه عاد مجدَّدًا من تلقاء نفسه إلى براثن العلم القديم الذي وَجَدَهُ أكثر تخلفا من أي وقت مضى.
وها هو حالنا اليوم، نعيشُ و رؤوسنا محشوة بخرافات وأحكام تقريبية حول كل ما يتعلق بالدين: الله، الشيطان، الغيب الذي لا نفرق بينه و بين غير المرئي و غير الملموس. نخشى أن نكفر إذا أردنا فهم شيء أو طرح سؤال، أو الاستفهام عن غرابة ما تأتي به بعض الفتاوى التي تتحدى العقل والمنطق. نشعر بالذنب و نُحاسَبُ و نُضطَهَدُ باستمرار كُلَّمَا راودتنا أصغر الأفكار؛ نشك في كل شيء وكل إنسان؛ نَضَعُ مكانَ عقولنا تعليمات وفتاوى شيوخ التلفاز الذين يستعمرون أعيننا و آذاننا و عقولنا. من أين جاءنا هذا الإدمان على الشعوذة؟، من أين أتت هذه القابلية ل"الراسبوتينية" (raspoutinisme)؟.
لا يمكن للتطلع الروحي الذي تسير نحوه البشرية المعاصرة أن يقبل بهذا التعامل البسيط مع الإله، بالعطاء نحوه شرط انتظار مُقابل عن ذلك، بالطمع في النعيم الأبدي مقابل بضع سنوات من عبادة فردية أنانية تَحسُبُ الحسنات مثلما تحسب النقود. لا يمكن للأمور أن تبقى بهذه السهولة والتفاهة، فهذا لا يرقي إلى مستوى الإله الذي خلقَ كونًا دائم التَمَدُّد، كما لا يُمكنُ أن يتوافق مع دين عقلاني مثل الإسلام. لا يمكن لمثل هذا التصور الوجودي أن يُلهم المواهب أو العبقرية، ولا أن يساهم في بروز أفكار جديدة أو علوم مفيدة أو فلسفة متقدمة. كُلُّ ما يمكن أن يُوصلَ إليه هو ملأ الأرض بقطعان من الأغنام البشرية لا مكان لها في هذا القرن.
الإشكالية التي طرحتها، والتي أُذَكّرُ أنها تهدف إلى إخراج الذهنية الإسلامية من المأزق الذي وصلت إليه و ليس إلى زرع الشك و الإرتياب حول العقيدة الإسلامية في حد ذاتها وَلَّدَت بصفة تلقائية وعفوية حوارا عبر وسائل التواصل. وقد شبهت عملي هذا في مقال سابق بالسير بين قطرات المطر، إذ لا يمكن الطموح إلى هدف كهذا دون أن نُزعج على الأقل مزاج "الجهل المقدس"، ويقينَه الذي يُلَوّحُ به في وجه كل من ينتقدهُ، بأنه الوحيد المكلف "بحراسة الإسلام".
لكني تأسفت على اختزال الجدال إلى مسألة ترتيب القرآن فقط، و هو ما بادرت به عمدا عقولٌ ضيقةٌ لم تقرأ ما كَتَبتُهُ أو لم تَفهَمهُ، أو تعتقد ببساطة أنه ليس لي الحق في الحديث في الموضوع. كيف هذا و باسم ماذا؟، فهذا الحق أعطاني إياه القرآن كما أعطاه لكل مسلم قادر على التفكير والإنتاج الفكري، و لجميع "ذوي الألباب". وأنا شخصيا استعملت الحق في الكتابة عن الإسلام منذ السبعينيات دون أن أنتظر رخصة أو أخشى منعا من أحد (سينشر لاحقا كتاب يجمع كتاباتي حول الإسلام ما بين 1970 و2013 تحت عنوان "ماذا نفعل بالإسلام؟")، ضف إلى ذلك أن دراسة القرآن في الترتيب الزمني لا تضر بالكتاب أو الدين أو الله في شيء، بل على عكس ذلك تفتح آفاقا جديدة للعقل ليساهم في إعادة إحياء العلاقة التي تربط الفرد بدينه. فَبالعَودَة إلى الأفق الأصلي للقرآن، نكتشف إلى أيّ مدى القرآن عقلاني و متناسق إضافةً إلى فضائله الأخرى.
ازداد الجدال حدة، مما أعتبره دليلا على الصحة الفكرية الجيدة لمجتمعنا واهتمامه بالموضوع لاسيما حين لا تقتصر الردود على الشتائم أو محاكمة النوايا، بل تركز على الأفكار المطروحة للحوار لإثرائها أو نقدها أو لتفنيدها. فإن اشتاق مجتمعنا لشيء فإنما يشتاق إلى حرية التعبير والتبادل السلمي للأفكار و النقاش البناء الذي ينبع عفويا من المجتمع، بدل أن يُملى و يُحركَ من فوق، فما الذي يمنع الجزائر من احتلال الطليعة في هذا الموضوع أو غيره، و التأسيس لحركة فكرية جديدة ومجددة يُمكنُ أن تُصدَّرَ لاحقا إلى باقي العالم العربي الإسلامي؟. من بين من رَدُّوا عَلى أفكاري هناك من نَفى بكل بساطة وتحد للعقل وجود ترتيب النزول في القرآن الكريم، وكان منهم أيضا من اتهمني بالسرقة الفكرية (و قد يكون هو المعتاد عليها)، فادعى أني استلهمت من أعمال و أفكار المستشرقين، بَيدَ أنَّ اتهامات هؤلاء لم تَتَعدّ التلميحات والإشارات الغامضة، حيث لم يوضح أحد منهم كيف وماذا ومن سرقت، وفي أي مقال أو فقرة، وهم الذين كان سيسعدهم أن يقبضوا علي متلبسا بالجرم المشهود. ربما اعتقدوا أن مجرد قولهم لما قالوه كاف ليُصَدَّق؟، لا يا أيها السادة العلماء و"الدكاترة"، لن تكفيكم الهُمزة اللُّمزة، وسَيَجبُ على برنوسكم أن يعرق أكثر من هذا. لم أجد من بين عشرين مقالا أو أكثر هاجمني في الصحافة، فضلا عن مئات التعليقات على المواقع الاجتماعية، مقالا واحدا ليَردَّ موضوعيا على الأفكار التي طرحتها، كما لم يتفضل أحد من هؤلاء بالقول علنا وبوضوح: هذه فكرة خاطئة، وهذه مسروقة، وتلك تتطاول على الدين…إلخ. ولم يتمكن كذلك أحدهم من صياغة بداية جواب على الأسئلة التي طرحتها، مكتفين جميعهم بالتحليق حول الموضوع من بعيد، أو الصراخ و العويل مع من اتهموني مباشرة وصراحة بالكفر. و لما كان الأمر كذلك، و بما أن الجدال دار حول ما تناولته من الآية الثالثة من سورة المائدة، والآيات المتعلقة بالخلق الفيزيولوجي والتاريخي للإنسان، وتلك المتعلقة بخلق السماوات و الأرض، فسنرى إذًا إن كان من بين العلماء والدكاترة من يتفضل ويجيبنا من أعالي منبر جهله المقدس عن تلك الأسئلة وأخرى مثل هذه الدفعة الجديدة من الإستفهامات (وأؤكد أني لم أسرقها من المستشرقين):
* قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ". ونعلم أن الضمير "من" يشير إلى الفرد أو الجمع على حد سواء، ويمكن تعريف "التجديد" هنا بالنهضة التاريخية للدين، كما ندرك جيدا أنّ "الدين" يُقصَدُ به البعد الفكري والحضاري للإسلام و ليس العقيدة في حد ذاتها، إذن لو سَلَّمنا أن هذه القراءة للحديث صحيحة، فهذا يعني أنه ينبغي أن يكون عدد "المجددين" الذين برزوا خلال القرون الثلاثة عشر الماضية معتبرا، على الأقل ثلاثة عشر مُجددا، فأين هم؟، أو ربما لم تتطلب الحالة الرائعة التي توجد عليها الأمة وجود أحد منهم؟. في هذه الحالة، ما المغزى من هذا الحديث؟. * * إذا كان القرآن نُزّلَ على شكل السور التي نعرفها اليوم، كما يزعم و يصر عليه البعض، فلماذا إذن تَحملُ خمسة عشر واحدة منها عدة أسماء؟، مثلا " الفاتحة "تحمل حوالي عشرين اسما من بينها: الحمد، الأساس، أم الكتاب والسبع المثاني، و"التوبة" تعرف كذلك ب: براءة، المقشقشة، المبعثرة، الفاضحة، أما "النحل" تسمى كذلك بالنعم، و"الإسراء" تعرف أيضا بسورة بني إسرائيل، كذلك "السجدة" بالمضاجع، "فاطر" بالملائكة ،"غافر" بمؤمن، "فصلت" بحم السجدة، "محمد" بالقتال ،"الملك" تعرف بتبارك أوالمنجية، "الإنسان" بالدهر،"العلق" بالقلم،" الماعون" بأرأيت، "المسد" بأبي لهب و"الإخلاص" بالتوحيد؟. * وهاهو رأي عالم جزائري، السيد حمزة بوبكر رحمه الله، صاحب ترجمة للقرآن الكريم، العميد السابق لمسجد باريس ووالد العميد الحالي، الدكتور دليل بوبكر، إذ كتب:" ليس للإسم، الذي أحصاه جامعِي القرآن الأوائل وتبنته الروايات المتواترة، في أغلب السور سوى قيمة دلالية فقط، فهو يسهل على الذاكرة تعيين سورة ما (والتي لا تعتبر في حد ذاتها فصلا) بفضل إبراز كلمة منها تبدو الأكثر تمييزا في النص القرآني المعني بالتسمية. فاسم السورة ليس بحجة، ولا هو بلازمة أو تذكير بحدث أو ظرف، و ليس ضبط أو اختصار لموضوع مفصل… السور حاليا مرتبة حسب طولها، و يختلف هذا الترتيب التعسفي والذي فُرض رسميا، عما دوّنه ابن مسعود و أبيّ بن كعب، و هو لم يُبنى حسب تسلسل منطقي كما لم يُعنى إطلاقا بترتيب النزول، فقد وُزّعت السور القرآنية 114 حسب استعمال تقليدي جعل أولى الاعتبارات حاجات دراسة النص المقدس وحفظه عن ظهر قلب…"، (ترجمة القرآن، منشورات ENAG الجزائر العاصمة 1989).
3) المعتقد الشائع هو أنَّ القرآن يتكون من 114 سورة، منها 86 مكية و28 مدنية، لكن الحقيقة تختلف قليلا عن ذلك. فالقرآن يتكون حقيقةً من 51 سورة مكية، و 22 مدنية، و باقي السُور تنتمي إلى فئة ثالثة يمكن أن نصطلح عليها "بالمختلطة" وعددها 41، وهو ما يقارب ثلث القرآن الكريم. وما أصفها بالمختلطة هي ال35 سورة مكية التي تحتوي على آيات مدنية، وال 6 سور المدنية التي تحتوي على آيات مكية. هل نعرف أسباب هذه التعديلات ومغزاها؟، أليست غاية في الأهمية، حتى ولو لم تخص إلا عددا صغيرا من الآيات مقارنة بالكل؟.
أما السور المدنية التي تحوي آيات مكية، هي: "النساء"، "الأنفال"، "التوبة"، "الحج"، "محمد" و"الرحمن". * يُمكنُ أن نَفهَمَ أنَّ آيات مدنية نُقلَت إلى سور مكية، فهي نزلت بعد هذه الأخيرة، لكن ما السرّ وراء صعود آيات مكية إلى سور مدنية، مع أن بعضها سبق كثيرا في تاريخ التنزيل؟، كما مثلا في "النساء" وترتيب نزولها 92، "الرحمن" وتقع في المرتبة 97، أو"الحج" وترتيب نزولها 103؟، أين كانت هذه الآيات قبل هذا التحويل؟. * 5) اختلف علماء الدين الأوائل حول عدد (و/أو) رقم الآيات المنقولة في سور "النساء"، الأنعام"، "الأعراف"، "هود"، "يوسف"، "إبراهيم"، "الكهف"، "مريم"، "طه"، "الشعراء"، "غافر"، "الدخان"، وأخرى، لماذا؟ 6) سورة "القلم" هي الثانية في ترتيب النزول و68 في الترتيب الحالي، ومن بين آياتها ال52، توجد 22 آية مدنية (من الآية 17 إلى 33 ومن 48 إلى 52)، هذا يعني أنه انقضت ما بين نزول آياتها المكية والمدنية 13 سنة (لو نُقلت إليها الآيات المدنية في السنة الأولى من الهجرة)؛ أوحتى 22 سنة (لو نقلت إليها في السنة الأخيرة من الهجرة)، متى نزلت هذه الآيات المدنية بالضبط ومتى جرى نقلها لسورة القلم المكية؟، ثم أين كانت هذه الآيات قبل أن تُنقل؟.
7) سورة "التوبة" لا تبدأ بالبسملة لأنها كانت في الأصل تابعة لسورة "الأنفال" قبل أن تفصل عنها، وهي تحتل في ترتيب النزول المرتبة 113 والترتيب الحالي المرتبة السابعة، بينما توجد "الأنفال" في المرتبة 88 من ترتيب النزول والثامنة في الترتيب الحالي، لماذا هذا القلب في الترتيب، حيث تأتي "الأنفال" بعد "التوبة"، بينما العكس هو المنطقي و الأرجح؟. 8) في سورة "التوبة" أيضا نَجدُ "آية السيف" التي تُعرَفُ أنها نسخت عدة آيات سبقتها، ماذا لو كانت هذه الآية موجودة في سورة الأنفال (قبل النقل الذي فصل التوبة عنها)؟، ألا ينزع ذلك عنها طبيعيا القدرة على نسخ الآيات التي نسختها، بما أنها كانت ستصبح في ترتيب النزول في المرتبة 88 عوض 113؟ من يمكنه أن يجيب عن كل هذه الأسئلة؟، ويستمر التفكير والنقاش، والله أعلم.
" حمل قلمه منذ سبعينيات القرن الماضي، فكتب عن الجزائر، الإسلام والعالم، مثَّل الثلاثةُ انشغالا حيويا لديه فاجتهد و لازال، يطرح الإشكاليات بمختلف أبعادها و يبحث عن الحلول الناجعة، إنه السياسي والمفكر نور الدين بوكروح، والذي يعرض من خلال هذه الصفحة كل يومي أحد وخميس أفكارا تسعى إلى تغيير تصوُّرنا للوجود، وتهدف إلى عقد مصالحة للمسلمين مع ذواتهم و مع الآخر، خاصة ونحن مقبلون على مرحلة ستشهد ثورات إقتصادية، فكرية وعلميّة على الصعيد المحلي والعالمي ".