الدكتور: محمد بغداد في المفاهيم الأكاديمية، يعرف الحجاج بأنه ذلك السلوك الاستدلالي، الذي يلجأ إليه الفرد بهدف إقناع الآخرين بفكرة ما، أو رأي مغاير لآرائهم، مستخدما أسلوبا دفاعيا بطرق مختلفة، فيعتمد التأكيد أو النفي لتبرير رأيه ببراهين وأدلة، وقد يستعرض تجارب سابقة خاضها هو بنفسه، أو غيره، ليدعم موقفه ويحقق مصالحه الذاتية. وعند استعرض المقطع الزمني الممتد للسنتين الماضيتين، على سبيل التمثيل والنمذجة، نتوقف عند تلك المقاطع التي ظهرت فيها الملامح العامة، التي تجلت فيها مجموعة من الظواهر، التي تجلب الاهتمام وتستدعي الانتباه، في انتظار ميلاد تلك المؤسسات المستأمنة على المنظومة المعرفية، واستئناف الهيئة القائمة، على سيرورة المنظومة القيمية للمجتمع، التي يفرض عليها الوضع الحالي، بذل الكثير من الجهود التي تكون في مستوى التحديات التاريخية، التي أفرزتها التحولات العميقة داخليا والكبرى دوليا.
* قهر الفضاءات وفي الفترة الزمنية المختارة، يرتفع مستوى البروز، من خلال ردود الأفعال المتوفرة في مختلف المستويات الاجتماعية، والمعبر عنه بمختلف السلوكات والمواقف، التي تؤكد التناقض الكبير، والتصادم الصارخ بين الخطاب المنتج، من طرف النخب، وبين المستهلك عبر مجالات المجتمع، وكل ذلك يأتي نتيجة ذلك التزامن بين المعني السوقي، ودلالة الاحتجاج في مختلف المناسبات، وفي القضايا المستجدة.
وقد تكفلت المؤسسات الإعلامية والفضاءات الاتصالية، بمهمة التسويق للنمط الجديد من الخطاب، والذي لا ينحصر في المعنى التقليدي للمجال السياسي، بل يمتد في إلى بقية فضاءات الحياة الأخرى، من خلال التسارع الرهيب لعمل الآليات الاتصالية الحديثة، وكذا المستوى الواسع الكبير من المشاركة لأغلب أفراد المجتمع، في التفاعل مع إفرازات الخطاب، وفي هذا المستوى الاتصالي، يكون التفاعل على مستوى القيم والمواقف المعبر عنها، سواء بالتناقض أو التناغم أو التنافر أو التردد، وفي أغلب الحالات، تكون المساهمة بمشاركة تعطي لإفرازات الخطاب، معاني جديدة وتجليات، قد لا تكون متصورة عند من أنتج الخطاب.
وهنا يتم تنشيط الذاكرة الجماعية، سواء باستدعاء الموروث والصور المخزنة، في فضاء المخيال الجمعي،إضافة إلى محاولات التعبير عن الطاقات الابداعية الذاتية، وبالذات من طرف الأجيال الجديدة، التي رسالتها الأولية، تكمن في التأكيد على مستوى التكيف الجيد والسريع، والمنتج مع التقنيات المعقدة للتكنولوجيات الاتصالية الحديثة، وهو ما يقدم بعض التفسير في السلوكات الاتصالية للأجيال الجديدة، التي تحتاج إلى الكثير من الدراسات المتخصصة، وهي الفرصة التي يمكن أن تصل إلى المستويات النفسية والفكرية والاجتماعية والعلائقية.
* التراكم المتفاعل ومن النتائج الأولية، لمهام المؤسسات الإعلامية والفضاءات الاتصالية، التي تجد نفسها على التعاطي التسويقي، للخطاب الممزوج بين المضمون الحجاجي والدلالة العنفية، تبرز السلوكات الانتظارية، وانتشار الإحباط، وهيمنة الخوف وارتفاع مستويات التهديدات الكبرى، وغموض المستقبل وسيطرة الغموض على الواقع، وارتفاع سقف فقدان الثقة في الذات. وقد برز المستوى السياسي، وبالذات الحزبي منه، النموذج العالي في إنتاج النخب الحزبية، للخطاب المتعالي في درجات الحجاج، والمكثف بالعنفية، حتى أن البعض من أعضاء المجتمع السياسي، يطالبون بضرورة أخلقة العمل الحزبي الذي تحول إلى المادة الأولية، التي تتولى إنتاج العنفية في أعلى درجاتها، والاحتجاج بأقوى أدواته، وقد تجاوزت أو تجاهلت النخب السياسية، المستوى الثقافي والمعرفي والفكري للجمهور، الذي تنتج له خطابها، مما جعل المؤسسات الإعلامية والفضاءات الاتصالية، تجد نفسها تنخرط في التسويق، وقد برز منها الكثير من الإشارات والعديد من المواقف والسلوكات، والتعبير عن الاشمئزاز والترفع عن مستوى العنفية، لكنها تحت منطق المصالح والضغوطات، عملت على بذل الجهود في التكيف مع معطيات خطاب النخب السياسية.
* الخطر القادم ومن المخاطر الكبرى للخطاب السوقي الاحتجاجي، قيام الحقيقة الكبرى التي لم يعد أحد ينكرها، والجميع يجد نفسه مرغما على مواجهتها، وتحمل تكاليفها الباهظة، والمتمثلة في تحول بشاعة العنف، من المستويات ممارسة بعض الجماعات الإيديولوجية المعزولة اجتماعيا إلى ممارسة مكرسة وفي طريقها إلى الحصول على الاعتراف الواقعي والتي تنطلق من حدود الأفراد مرورا بالعائلية والشارع، لتلتهم في طريقها مختلف المؤسسات بداية من المدرسة، وليس انتهاء بالجامعة، وبداية تلاشي مفاهيم هيبة الدولة واهتراء احترام المجتمع، والاستهزاء بالإنسان، وما ستأتي به الأيام القادمة غير متصور، والمبرر طبعا انهيار القيم الاجتماعية المقدسة، والمبررة لقيام مفهوم المجتمع، والمساهمة الكبرى التي قدمها خطاب النخب في تلك الحرب التدميرية،التي قادها ضد المجتمع بتاريخه ومكوناته ومنظوماته الرمزية، مما يجعل من المستحيل امتلاك أدنى شروط الانخراط في المستقبل.