بقلم: فاروق أبو سراج الذهب طيفور الشوراقراطية: وسط بين غلاة الشورى وأدعياء الديمقراطية مدير مركز المنظور الحضاري للدراسات الأفرو–آسيوية والسياسات البديلة أسس التكوين الفكري والديني والسياسي للشيخ محفوظ نحناح الشيخ محفوظ نحناح نحت نحتًا، وكانت عصاميته أهم وأبرز عوامل التأثير في مساره السياسي، ولكن قوة التأثير التي كانت تتميز بها مرحلة التكوين السياسي للشيخ محفوظ نحناح، قوة التغيير لدى الزعماء الكبار في العالم الإسلامي كانت جد كبيرة وعلى رأس هؤلاء:
1 – رجالات الحركة الوطنية الذين عاصر الشيخ محفوظ نحناح بعضهم، وتربى في مدرسة الإرشاد التي هي مدرسة الحركة الوطنية، تلك الحركة التي كانت تتميز بتعددية وثراء كبيرين جدًا في التعامل السياسي وفي الرؤية السياسية، وبالرغم من أن الاستعمار فرض – خلال عدة محاولات- عملية المسخ داخل الأمة إلا أن الحركة الوطنية كانت تتميز بالصلابة، وتتميز بالواقعية التي صنعت جيلاً نستطيع القول إنه جيل الثورة الذي تشرّب من الحركة الوطنية ومفاهيم الوطنية ومفاهيم الإسلام، واستحضر معاني الحرية والتحرر والانعتاق والكرامة الإنسانية والشخصية الوطنية ومفاهيم الثبات ومفاهيم الاستقلال ومفاهيم الصراع، وبالرغم من اختلاف المدارس الموجودة فقد كانت الحركة الوطنية بكل شرائحها تفرض تغييرًا حقيقيًا وقويًا على السياحة التي استقوت في عملية التعبئة الجماهيرية بالشعار الثلاثي الرادع: "الإسلام ديننا، العربية لغتنا والجزائر وطننا".
2 – جمعية العلماء المسلمين، ذلك أن جمعية العلماء المسلمين جزء من الحركة الوطنية، إلا أنها تتميز بالإسلامية التي جعلتها نموذجًا آخر غير النموذج العادي في الحركة الوطنية، من خلال اقترانها بالإسلام واقترانها بالمفاهيم الإسلامية، وبالتربية الإسلامية، هذه التربية التي صاغها رجال كبار لهم تأثيرٌ كبير، وعلى رأس هؤلاء المؤثرين الفاعلين منهم في شخصية الشيخ محفوظ نحناح ثلاثة، الشيخ عبد الحميد بن باديس المفسر للقرآن والمقاوم للاستعمار، والشيخ البشير الإبراهيمي، الأديب التحريري، والشيخ الفضيل الورتلاني المتجاوز للحدود وسفير الإسلام والجزائر في العالم، وأهم أساطين التأثير في الحركة الإسلامية ومسار الحركة الإسلامية، وهذه الشخصيات الثلاث تعكس تأثير جمعية العلماء المسلمين في شخصية الشيخ محفوظ نحناح، ولكنها أيضًا ذات بعد شخصي أو تأثير شخصي مميز.
3 – مدرسة الإمام حسن البنا رمزٌ آخر للتأثير الإيجابي القوي، فإلى جانب ذلك تأثر الشيخ محفوظ نحناح بمدرسة حسن البنا، مجدد القرن العشرين، وزعيم حركة الإخوان المسلمين، وأحد الذين نقلوا فكر الإسلام من النظرية إلى التطبيق، وأحد الذين عملوا على وحدة الأمة الإسلامية وتخليصها من الاستعمار، وعملوا أيضًا على طرح نظرية حقيقية متكاملة للبناء الإسلامي والنظام الإسلامي في الدولة والمجتمع، بما لم يسبقه إليه غيره من المصلحين، وكان تأثيره بارزًا في حياة الشيخ محفوظ نحناح وفي عمله، لأن الإمام حسن البنا -رحمه الله- رغم هيامه بجغرافية مصر ودولتها وتاريخها العظيم، فإنه ليس رجلاً محدود العمل في دولة أو قطر، بل يملك نظرة عالمية، ونظرته في ضرورة الدعوة والإصلاح العالمي كانت ذات تأثير عالمي أيضًا، وكان الاعتدال الذي يتصف به الإمام حسن البنا والوسطية التي يتميز بها، والربط بين المعاصرة والأصالة، وضرورة أن يحمل المصلحون مشاعل الإصلاح من خلال وقود العصر، كان هذا له تأثير في حياة الشيخ محفوظ نحناح وفي فكره وممارسته، ويعتبر الإمام حسن البنا صاحب مدرسة أخرجت رجالاً آخرين مثل سيد قطب والشيخ محمد الغزالي والشيخ القرضاوي ومن شابههم، ولكن تأثير الإمام حسن البنا في الشيخ محفوظ نحناح كان مميزًا.
4 – الأستاذ محمد محفوظي والمفكر مالك بن نبي: فالأستاذ محمد محفوظي أحد أركان حزب الشعب ورمز من رموز المثقف المزدوج الرافض للاستعمار وسياسة الاندماج والثائر على الظلم والظالمين، وقد كان له تأثير كبير في فكر الشيخ محفوظ نحناح المتعلق بالثقافة والشخصية والمرأة واللغة العربية والوطنية، بحيث نهل على يديه هذه المعارف التي كان يشرف عليها ويلقيها الأستاذ الثائر محمد محفوظي.
وعندما امتد العمر بالشيخ محفوظ نحناح كتب الله له أن يتمتع بالفكر النير الثابت الذي تمثل في فكر الأستاذ المفكر مالك بن نبي، الذي أدى دورًا في تفتيق ذهن النخب الدعوية في ظروف تحولات وطنية عميقة.
وهناك شخصية عالمية أزهرية يمثلها العلامة الإمام محمد متولي الشعراوي الذي كان يلازم دروسه وندواته في العاصمة والبليدة، وكان يتشرب معاني القرآن الكريم ويتذوق ألفاظه على غير سابق من أهل التفسير.
أما الداعية الملهم الشيخ محمد الغزالي، فقد كانت كتبه مرجعًا له في فهم الإسلام منذ أن كان يدرس بعض فصول كتاب "ظلام من الغرب" في دروس خاصة تحت قبة مسجد ابن سعدون بالبليدة، والذي أكدته المحبة المتبادلة واللقاءات المباشرة، بعد أن تيسر للشيخ الغزالي أن عين أستاذًا بالجامعة الإسلامية بقسنطينة، فقد كان الشيخ نعم السند لهذا العالم الفذ الذي وجد خصومًا له من العلمانيين الاستئصاليين، وخصومًا آخرين من المنسوبين إلى الأصولية المتطرفة.
5 – مدرسة الإمام ابن تيمية إشعاع التاريخ والنص: وكان من أبرز من أثر في حياة الشيخ محفوظ نحناح تاريخيًا مؤلفات الإمام ابن تيمية – رحمه الله- الذي قاد مدرسة للإصلاح والاجتهاد في ظرف تعطل فيه الاجتهاد الفكري، وحصل الجمود السياسي في الأمة، وكانت آثار مدرسة ابن تيمية بادية في فكر الشيخ محفوظ نحناح وفي اجتهاداته وفي تحرره الفقهي من المذهبية ومن الرؤى الضيقة من الحدود المعطلة للتغيير الاجتماعي والتغيير السياسي، والإمام ابن تيمية مدرسة، علاوة على أنها فكرية، ومدرسة سلفية فقهية، فهو مدرسة جهادية إصلاحية تغييرية وتربوية، وكان مصلحًا وصابرًا محتسبًا رغم الأذى الذي لحقه، ويتكرر هذا مع الشيخ محفوظ نحناح.
لقد استلهم الشيخ محفوظ نحناح الفهم الصحيح للإسلام من خلال التفاعل الواعي مع نصوص القرآن الكريم والقراءة الحيّة لمشاهد السيرة النبوية والملامسة المستمرة لواقع الأمة وآلامها وجراحها، وأفادته كثيرا كثرة الأسفار والرحلات والتنقل بين بلدان العالم والالتقاء بالكفاءات العلمية من مختلف المشارب، وأمعن النظر في تاريخ الأمة الإسلامية وتعرف على أسباب الاعتوار والالتواء وعوامل النهوض وأدوات التمكن (لخضر رابحي، الشيخ محفوظ نحناح إبداع في الدعوة والسياسة، مجلة المختار، العدد 19، ص25).
فكان رحمه الله يملك الحس الذي يدعوه ألا يكرر ولا يستنسخ أخطاء الماضين من العلماء والدعاة أو الدول أو الحركات، وقد أدرك من خلال التتبع لفصول التاريخ أن الاستبداد نال من مقام الأمة وهوّن شأنها أمام الأمم وأتعب أهل المواهب وأصحاب الكفايات والعلوم، وكان يدعو -رحمه الله- إلى التوبة إلى الله من الاستبداد لأنه جريمة كما جاء في مفردات خطابه في الافتتاح الرسمي لفعاليات المؤتمر الثاني. ودعا رحمه الله إلى الاستفادة من إيجابيات العصر، سواء جاءت من الشرق أو الغرب، والحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها.
ولذلك أخذ -رحمه الله -بالديمقراطية كمفهوم عملي ميداني بعيدا عن مهاترات الاصطلاح، ودعا إلى كسر الرقم العربي المقدس 99.99% كما كان يسميه وناضل من أجل الحريات، حيث اعتبر -رحمه الله- أنه لا دين بلا حرية، إذا كان يسقط التكليف مع الحرية فكيف يقع التمكين لدين الله مع غياب الحريات. ودعا -رحمه الله- إلى تجميع القوى وتجنب التصارع الداخلي ونادى بالمزاوجة بين التيار الوطني والإسلامي واعتبرهما كما جاء في خطاب المؤتمر الثاني 98 "تيار واحد تعرض للانقسام بفعل سموم ومكر بعض الاستئصاليين ودعاة التمزيق المعروفين بمواقفهم التاريخية المخزية من القضايا الوطنية والإسلامية".
من خلال كل ما ذكرنا بلور الشيخ محفوظ نحناح نظريات جدّد فيها الفهم حول الدعوة والسياسة والوطنية والديمقراطية، وصاغ بلغة بسيطة نظريات في الدعوة والسياسة، من وحي القرآن الكريم، فقد عرف رحمه الله بنظرية " ادخلوا عليهم الباب " والحضور المستمر مستلهما المعنى من هذا النص، حيث كان يؤمن بوجوب الحضور بالذهن والمشاركة والمبادرة والمبادرة والاقتراح ويرفض سياسة الفرجة على الآلام والجراح وسياسة الكرسي الشاغر، وكذا نظرية " وليتلطف" والتحرك وسط اختلال الموازين، ونظرية " خرق السفينة" والتنازل المدروس، وكذا نظرية "فقولا له قولا لينا" ومسالمة الحكام من غير إقرار لباطلهم، و أبدع الشيخ لما فرّق بين الدولة والسلطة، الدولة التي تستوجب الاحترام والمحافظة وعدم الطعن فيه، والسلطة التي تنتقد من غير ما تجريح ولا تهوين ولا تهويل، وقال -رحمه الله- في الخطاب الافتتاحي للمؤتمر " معتمدين التمييز بين الدولة التي ينبغي المحافظة عليها وعلى استمرارها، وبين السلطة التي كنا وما زلنا نعارضها وننتقد أداءاتها الهشة وعقليتها الأحادية وسلبياتها المتعددة.
كما استلهم الشيخ محفوظ نحناح من وحي السيرة ومشاهدها الحية عدّة مفردات قد ترقى إلى مستوى نظريات، فأبدع نظرية الجوار والاستفادة من المتاح ونظرية خزاعة والتحالف مع الآخر: إذا كان النبي المؤيد بالوحي تحالف مع خزاعة وهم كفار، فهذه إشارات بالنسبة للشيخ محفوظ نحناح بضرورة التواصل مع الآخر والبحث عن المساحات المشتركة والكلمة السواء، قال الشيخ رحمه الله "ونبحث عن أشباه أبي طالب والمطعم من عدي وعكرمة قبل الإسلام، وتعلم أن في الناس وإن لم يكن معك في الخندق فإن الهموم مشتركة والآمال مشتركة والفطرة السليمة ليست حكرا على أحد مهما يكن مركزه الاجتماعي أو مستواه العلمي"، ونظرية نجران والحوار مع الآخر، وقد استلهم الشيخ هذه المعاني ليدعو إلى الحوار الإسلامي والحوار الوطني والحوار العربي مدركا أن هموم أوطاننا لا تطوق إلا بالحوار والجلوس إلى طاولة واحدة مهما اختلفت رؤانا وآراؤنا حتى لا يقع الانكفاء على الذات، قال الشيخ رحمه الله "وكان على الحركة حسن الاستفادة وحسن الانتفاع، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بالمتاح من الوسائل والإمكانات والمعارف حتى لا تنكفئ عن ذاتها، وحتى نتمكن من الإشعاع على المحيط المحلي والدولي لتكونوا شهداء على الناس".
كما استفاد الشيخ من وحي الفكر الإسلامي ومراجعه الزاخرة بالكنوز المنسية، ولاسيما في التراث السياسي الإسلامي، فاستعان بنظرية الترجيح بقوة مصلحة الأمة ونظرية التوسع في الأخذ بالوسائل مادامت غير مقصودة في ذاتها، ذلك أن بعض الإسلاميين أشعلوا معاركهم حول الوسائل والأدوات ناسين أو متغافلين عن المقاصد والغايات، فالشيخ محفوظ نحناح -رحمه الله -توسع في الأخذ بالوسائل الحديثة خصوصا في الحكم والسّلطة لأن الإسلام نفسه لم يحدّد للأمة وسائل وأدوات محدّدة في اختيار الحاكم أو ممارسة الرقابة أو تحرير المجتمع من الضغوطات أو توزيع المال والثروة، وقد أدرك الشيخ -رحمه الله- أن الإسلاميين شوّشوا على جمال مقاصد الإسلام بمعركة الوسائل واقتراح وسائل بدائية ومعاداة الوسائل والأدوات التي تستميل العقول وتؤثر في النفوس. ونظرية التغيير من المواقع المتقدمة، ذلك أن هروب الإسلاميين عن المواقع المتقدمة هروب التواجد أو الحوار مكن العلمانيين والاستئصاليين من التفرد في القرارات المصيرية وذات التأثير الواسع على الأجيال، كما تعاطى -رحمه الله – مع الديمقراطية كدلالات ووسائل ميدانية لفرملة الاستبداد ومصادرة الرأي، بعيدا عن مهاترات الاصطلاح لأنه كما يقول الأصوليون "العبرة بالمعاني ". إذا كانت الديمقراطية تمكن الشعب من اختيار رجاله وبرامجه والدفاع عن هويته واختياراته الأساسية في الاقتصاد والتوجهات الكبرى فما جدوى الجدل في أصل الكلمة فلسفيا، فلم يشتغل الشيخ -رحمه الله- بالجدل وآثر العمل وبلور به واقع لم ينكر جمالياته أحد.
ومن خلال نظرته الثاقبة لمفهوم الديمقراطية، صاغ الشيخ -رحمه الله – نظرية الرديف الوطني المبنية على فقه التعاون وضرورة مواجهة التحديات خصوصا الخارجية بمثل هذا الالتقاء، خصوصا وأن التيار الوطني تاريخيا قام على المرجعية الإسلامية ومحاربة العدو الأجنبي المحتل للأرض ومواجهة مخططاته الاستعمارية في ضرب الهوية ومقومات الأمة، فالحاجة إلى التحالف والتلاقي مع التيار الوطني تفرضها ضرورة العصر، وثقافة التكتلات الحديثة حتى لا يصبح التيار الإسلامي مستهدفا في كيانه وأفراده عاريا ظهره أو يصبح التيار الوطني عرضة للاستهزاء الداخلي والخارجي. يتبع…