يذكر الجرجاني أن العقل نور في القلب يعرف الحق والباطل، وهو متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف، وهو مأخوذ من عقال البعير يمنع ذوي العقول من العدول عن سواء السبيل. وأما الجنون فإنه اختلال في العقل يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهج العقل إلا نادرا. وأصل مادة جن من الستر في جميع تصاريفها، أجنّه الليل وجن عليه إذا ستره بظلامه، ومنه الجنين لاستتاره في بطن أمه، والجنة لاستتارها بالأشجار، والمجن لاستتار المقاتل به. واللمم طرف من الجنون يقال: أصابت فلان من الجن لمّة، الشيء القليل من المس. والخبل أيضا نوع من الجنون وفساد العقل كتاب التعريفات ص 88 - 168 يتضح لنا مما سبق أن الجنون والعقل مراتب، فكما أن العقلاء متفاوتون في درجات العقل والتمييز، فكذلك الجنون مراتب وأنواع تختلف باختلاف درجة اختلال العقل من جهة، وباختلاف مسبباته من جهة ثانية، وإذا كنا نقرأ في كتب النوادر والتراث أن في مجانين أسلافنا عقلاء، كانوا يدعون ''عقلاء المجانين'' بحيث كانت لهم مواقف تنطق بالحكمة رغم جنونهم وغياب عقولهم، إلا أنه في وقتنا الحاضرلا يكاد يخلو عاقل من بعض الجنون قل أو كثر، إذ كثيرا ما نسمع عبارات تقال لأناس عقلاء من قبيل ''كن عاقلا'' ''فعلك لا يقوم به العقلاء'' ''هل جننت'' ''اهبلت'' وغيرها من التعابير التي يفهم من خلالها أن من وجهت إليه قد فقد حظا من العقل فيما قال أو فعل أو حتى اعتقد. والواقع أن هذه الظاهرة قد عرفت توسعا كبيرا في عصرنا الحاضر، وشملت فئات عديدة من الناس الشريف منهم والوضيع الغني والفقير الرجال والنساء الشباب والشيوخ العلماء والجهال الأئمة والأتباع... ولكي تتضح لنا صورة هذه الظاهرة وتصبح أكثر واقعية وجلاء نعطي الأمثلة الآتية: الشخص الذي لا يملك لسانه عند الخصومة والغضب، فتجده ينطق بين الناس جهرة بما تأنف عن حمله المراحيض وقنوات الصرف، دون مراعاة لحرمةولا ذمة، ودون سماع لتلك الأصوات المنادية بالتعقل وضبط النفس، فهذا الشخص قد أفقد نفسه حظا من العقل وأكسبها مكانه حظا من الجنون غير المعذور فيه، ''كل نفس بما كسبت رهينة ''الآية والإنسان الذي يلجؤ إلى ضرب زوجته أو أبنائه لأسباب تافهة ومبررات واهية، يعلم هو في قرارة نفسه تفاهتها، ومع ذلك يتخذها غطاء لتبرير ضعفه وخوره أمام مسؤوليات الحياة الأسرية، فهذا شخص مضيع لحظ من العقل المانع من الظلم، وهو مسؤول عن هذا التضييع الذي قابله اختلال في العقل ظهر في صورة هذا الظلم ف ''كل نفس بما كسبت رهينة''. وأي مسؤول يلجؤ إلى التضييق على من هم في قبضته وتحت إمرته تحت طائلة القهر والتعسف في ممارسة الوصاية، فهو إنسان ذو عقد وأمراض نفسية سببها تعطيله لجانب من العقل، واستبداله بحظ من الجنون ظهر في صورة هذا التضييق والقهر وهو لا شك جنون داخل تحت دائرة التكليف والمسؤولية الفردية ف''كل نفس بما كسبت رهينة'' والشاب الذي أعماه العشق عن رؤية غير المعشوق المعرض أو المقبل فصارت تصرفاته جنونا ظاهرا، هو شاب معطل لجانب كبير من العقل ولو كان ذا لب حازما لامتثل الحكمة القائلة ''أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما'' وقول الشاعر: إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفا فدعه ولا تكثر عليه التأسفا ففي الناس أبدال وفي الترك راحة وفي القلب صبر للحبيب ولو جفا فلا كل من تهواه يهواك قلبه ولا كل من صافيته لك قد صفا وكم من عشيقين كان سيقتلهما العشق لو تفرقا فلما اجتمعا تفرقا عن بغض وضغينة وما اكثر أمثال هؤلاء ممن أصابهم حظ من الجنون دلت عليه تصرفاتهم التي يعرف من له أدنى حظ من النظر أنها لا تجري على نهج العقل فما أكثر من أصيب بجنون الرجولة والقوامة فصار يضرب ويستعبد ويطلق ويشرد دون سبب مقنع ومقبول وما أكثر من أصيب بجنون العظمة والكبرياءعلى الخلق فصارت أقواله هوسا وأفعاله افتراسا. ثم انظر -والصيف على الأبواب- إلى الذين أصيبوا بجنون القوة العضلية فصار الواحد منهم يلبس الضيق والعاري من الثياب ليكشف عن عضلاته وبداخله إحساس عارم أن كل الناس تنظر إليه وتغبطه على ما أوتي من حظ عظيم. وما أكثر الذين أصيبوا بجنون العلم فصاروا لا يرون علماء إلا أنفسهم، وما أكثر الذين أصيبوا بجنون التدين فصارأحدهم يتوهم أن التقوى والزهد قد حطا رحالهما على باب قلبه، وأنه المصطفى الناجي وغيره الهالك المحروم، فتجده يفسق ويبدع ويكفر وينفّق ناسيا أو جاهلا أن الله عز وجل يقول: ''فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى.'' وما أكثر الذين أصيبوا بجنون السياسة فأصبحت المبادئ لديهم لعبة بين أيديهم لا يقر لهم قرار ولا يدوم لهم حال وقد أحسنت زعيمة حزب العمال حين أطلقت على هؤلاء اسم المرتدين على رؤوس الأشهاد في حصة منتدى التلفزيون للأسبوع الماضي عافانا الله من الردة.