الشيخ علي عية «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا» نصر الله الأمة المسلمة في شهر رمضان المبارك ومنها فتح مكة التي غيّرت مجرى التاريخ ووجهته وجهة جديدة تحمل بوارق النصر والأمل وحسن العاقبة للمؤمنين الموحدين المجاهدين الصادقين بدءًا من معركة بدر الكبرى التي كانت فرقانًا بين الحق والباطل ثم فتح مكة الذي كسر الباطل وأهله وأزال دولته ثم غزوة تبوك التي مثلت أول مواجهة ناجحة بين المسلمين والروم ثم معركة القادسية التي انتصر فيها المسلمون على الفرس ثم عين جالوت التي هزم المسلمون فيها التتار وغيرها وكثير وكثير من سجلات النصر ومناسبات التمكين والعزة في حياة المسلمين والتي وقعت معظمها في شهر رمضان المبارك. ومن فتوحات المسلمين العظيمة ومناسبات النصر الكبيرة لهم: فتح مكةالمكرمة الذي حدث في شهر رمضان سنة الثامنٍ للهجرة النبوية فقد تعاهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم مع المشركين في صلح الحديبية سنة ستة من الهجرة على أن تضع الحرب أوزارها عن الناس عشرة سنين وأن من شاء أن يدخل في عقد محمد -صلى الله عليه وسلم وعهده دخل ومن شاء أن يدخل في عقد قريش دخل فيه. دخلت خزاعة في عقد محمد -صلى الله عليه وسلم ودخلت بنو بكر في عقد قريش فمكثوا في تلك الهدنة نحو 18شهرًا ثم إن بني بكر وثبوا على خزاعة ليلاً بماء يقال له: الوثير وهو قريب من مكة وقالت قريش: ما يعلم بنا محمد وهذا الليل وما يرانا أحد فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح وقاتلوهم معهم وهذا للكره الذي في قلوبهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم وأصحابه وحلفائه فخرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم فقال: قتلونا وقد أسلمنا واتبعناك ودخلنا في عهدك وعقدك وحماك فقال رسول الله. نصرت يا عمرو بن سالم. أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتجهز للغزو ولم يخبر أحدًا بوجهته لئلا يستعد المشركون للقتال وقال اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها لقد كانت استجابة النبي -صلى الله عليه وسلم لنصرة حلفائه وأتباع دينه والرد على عدوان قريش سريعة حازمة لا تقبل المناقشة ولا التردد لأن أعداء الله لن يتوقفوا عن كيدهم وعدوانهم على الإسلام والمسلمين إلا حين يعرفون أن المسلمين لا يقبلون الضيم ولا يرضون الاعتداء ولا يركنون إلى الذل والضعف قادرون بإذن الله على حماية دينهم وأوطانهم من الظلم والعدوان. فتجهز الناس واستنصر القبائل التي حول المدينة حتى بلغ عدد المسلمين عشرة آلاف مقاتل وأرسل حاطب بن أبي بلتعة وهو صحابي بدري كتابًا إلى قريش يخبرها فيه بأن المسلمين يريدون غزوها وحملت الكتاب امرأة عجوز، فأخبر الله نبيه بذلك، فأرسل عليًّا والزبير والمقداد -رضي الله عنهم فأمسكوا المرأة في روضة خاخ واستخرجوا الكتاب من عقاصها، وأتوا به إلى رسول الله -صلى لله عليه وسلم-، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله يا حاطب: ما هذا؟ قال: يا رسول الله: لا تعجل عليّ إني كنت امرأ ملصقًا في قريش يقول: كنت حليفًا ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي ولم أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رضًا بالكفر فقال عمر: يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال: إنه قد شهد بدرًا وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرًا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فقال رسول الله -صلى الله عليه أما إنه قد صدقكم. بلغ الخبر المشركين، فأرسلوا أبا سفيان ليجدد العهد مع محمد -صلى الله عليه وسلم فقدم المدينة وكلّم رسول الله قائلاً: هلمّ فنجدد بيننا وبينك كتابًا فلم يرد عليه. حاول أبو سفيان أن يكلم بعض الصحابة كي يشفعوا له عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم في تجديد العهد والمدة ولكن محاولاته باءت بالفشل كلما كلم واحدًا من المسلمين قال له: ما كنت لأفتئت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم. فخرج أبو سفيان حتى قدم على قومه بمكة فقالوا: ما جئت به؟ قال: جئتكم من عند قوم قلوبهم على قلب رجل واحد والله ما تركت منهم صغيرًا ولا كبيرًا ولا أنثى ولا ذكرًا إلا كلمته فلم أنجح منهم شيئًا. وخرج المصطفى بالمسلمين من المدينة في رمضان بعد أن استخلف عليها أبا رهم كلثوم بن حصين الغفاري رضي الله عنه ومضى -صلى الله عليه وسلم بالناس وهو صائم والناس صيام حتى إذا كانوا بالكديد وهو الذي يسميه الناس اليوم: قديدًا، أفطر وأفطر الناس معه ثم مضى حتى نزل مر الظهران ومعه عشرة آلاف مقاتل وعمى الله الأخبار عن قريش فهم على وجل واحد. وكان أبو سفيان يخرج يتحسس الأخبار فخرج هو وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتحسسون الأخبار وبدون إطالة دخل أبو سفيان الإسلام واسلم ورجع إلى قريش صارخا بأعلى صوته: يا معشر قريش: هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن فقالوا: قاتلك الله وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد. وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلاً مكة من أعلاها. ثم نهض رسول الله -صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار بين يديه ومن خلفه ومن حوله حتى دخل المسجد فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه ثم طاف بالبيت سبعًا. قال ابن مسعود رضي الله عنه: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا. قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ. فكسرت كلها منها اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنمًا إلا كسره. ثم أمر بالصور التي في الكعبة فمحيت ودخل الكعبة فأغلق عليه الباب ومعه علي وأسامة وبلال فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب حتى إذا كان بينه وبينه قدر ثلاثة أذرع وقف وصلى هناك ثم دار في نواحي البيت وكبر الله ووحده ثم فتح الباب وقريش قد ملأت المسجد صفوفًا ينظرون ماذا يصنع بهم فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. وقال: يا معشر قريش: إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس بنو آدم وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. وأمر -صلى الله صلى الله عليه وسلم بلالاً الحبشي أن يصعد فوق الكعبة فيؤذن أمام الجموع الهائلة من أشراف مكة ليبين لهم وللناس أجمعين أن التفاضل في ميزان الإسلام إنما هو بالتقوى لا بغيرها من الأنساب والشعارات البشرية. وهكذا فتح الله تعالى مكةالمكرمة على رسوله والمؤمنين فتحًا عظيمًا جلجلت به الآفاق وخضعت به الجزيرة كلها للإسلام وقرّت به أعين النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته. لقد كان فتح مكة ملحمة عظيمة وفتحًا كبيرًا وعزًا ومجدًا للإسلام والمسلمين أعز الله به دينه ونصر به رسوله وجنده وحزبه الأمين واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين ومثابة وأمنًا من أيدي الكفار والمشركين وأعاد إليه رسوله والمؤمنين منتصرين غانمين ظافرين بعد أن أخرجوا منه وهو أحب البقاع إلى نفوسهم ومع ذلك فقد دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم مكة دخول الأنبياء والعظماء خاشعًا ذاكرًا لله شاكرًا معترفًا بفضله ونصره وتوفيقه وهو يقرأ سورة الفتح. لم يدخلها دخول المتغطرسين الظالمين المتشفين سنين عددًا وهم يحاربونه ويقاتلونه يكيلون له ولأصحابه العذاب ويناصبونهم العداء ما تركوا قبحًا ولا سوءًا إلا رموهم به وألصقوه بهم ولا تركوا قبيلة من القبائل إلا أضرموا نار الحقد والبغضاء في قلوبهم عليهم ثم يمن الله عليه بالفتح فيعفو عنهم أجمعين.