وحول ماهو إستراتيجي وماهو ظرفي في عرض التجربة التركية، يعلّق الشيخ راشد الغنوشي، على الحركة الإسلامية في تركيا بالقول: إن الحركة الإسلامية التركية التي أسسها البروفسور، نجم الدين أربكان، في صيغها المختلفة، التي برزت بها في الساحة، وآخرها حزبا «السعادة» بقيادة طوقان، و«العدالة والتنمية» بزعامة رجب الطيب أردوغان، قد غلبت عليها الروح العملية، ولم يعرف لها جهدا في مجال الإنتاج الفكري، فمؤسس الحركة مهندس يحسن لغة الأرقام والتخطيط، وقد طبع التيار بطابعه، وللمهندسين دور قيادي بارز في الحركة الإسلامية المعاصرة بديلاً عن المشايخ، أما غذاؤهم الفكري فمستمد في أصله من فكر الإخوان المسلمين كفكر عام للمسلمين جميعا، عبر الترجمات السريعة، التي برعوا فيها، لكل ما يصدر في ساحة الفكر الإسلامي، مضافاً إليه ثلث قرن من العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي في مناخ علني مفتوح، وهو ما يميز الإسلاميين الأتراك والماليزيين عن أمثالهم من العرب، فقد تدرجوا في عملية التغيير المجتمعي، بما يحول دون صدامهم مع المؤسسات العلمانية القوية كالجيش، والقضاء، والسلطة التنفيذية، وفروع كل ذلك في مؤسسات التعليم، وبقية مؤسسات الدولة، وهو ما يؤهل التجربة التركية لأن تكون نموذجًا يُحتذى في الكثير من البلدان التي شهدت تغولاً علمانيًّا بقوَّة الحديد والنار، والعمالة للغرب، وليس بالعلم والأفكار التي تجعل من دولهم دولا متطورة ومزدهرة في التنمية. وبالتالي ساهم أربكان، والحركة الإسلامية التركية، في إيجاد نموذج يختلف عما تؤاخذ عليه نماذج أخرى كطالبان، والسودان، والجزائر (نقصد تجربة الإنقاذ)، مع التأكيد على أن النموذج التركي للتغيير جاء من خلال المشاركة في الانتخابات، دون حاجة لخروج الجماهير للشارع كما هو الحال في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وعمان، والأردن، والبحرين، وغيرها. لقد نجح أربكان في الإبقاء على الشعلة وقّادة ودفع بها إلى مساحات أكثر حيوية في عملية التغيير، وأكمل أردوغان المشوار بطريقة جديدة، لكن الجوهر واحد وهو تجنب الصدام المباشر مع قلاع العلمانية المتصدعة في تركيا؛ مما يعطي نموذجًا حيًّا عن كيفية إدارة عملية التدافع، من خلال كسب الخصوم أو الكثير ممن يقفون في صفوفهم إلى جانب المشروع الحضاري للأمة، وليس بزّهم أو إفحامهم، فتلك طريقة مريضة، ولا تؤدي سوى لمزيد من الشحناء والبغضاء وحقد الخصوم، مستخدمًا نهجًا قرآنيًّا فريدًا في التحدث للخصوم.. {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} – [سبأ: 24]. * * الخطاب و السياسات الرئيسية التي أهّلت حزب العدالة والتنمية للريادة: لقد حدد الحزب سياسات واضحة ودقيقة وأولويات مرتبة منذ البداية، فحقق بفضل جدية رجاله وعبقرية التنزيل والتعامل مع الوسط المحلي والخارجي، إنجازات عملاقة حوّلت تركيا من موقع التابع إلى موقع القائد باقتدار، ويمكن تلخيص هذه السياسات فيما يلي: أولا: الخطاب السياسي الجديد خطاب إصلاحي تجميعي. لقد عمل الحزب على طرح خطاب إصلاحي وطني عام تجاوز فيه الشعارات الأيديولوجية والانتماءات الحزبية الضيقة، فاكتسب شعبية كبيرة من خلال تأكيده على الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية الدينية والإصلاح السياسي، ومحاربة الفساد السياسي وحقوق الأقليات، كما اكتسب الحزب القاعدة الإسلامية الشعبية السابقة من خلال طرحه لخطاب إسلامي إصلاحي معتدل، كان للشباب دور كبير في صياغته، متجاوزين حدود الخطاب التقليدي الذي [تمترس] حوله شيوخ الحركة الإسلامية التركية. وانضم إلى الحزب عدد من الممثلين والفنانين والصحفيين والأدباء الذين رأوا في خطابه المعتدل مخرجا من الأزمة السياسية الكبرى، وحقق الحزب اختراقه الجديد من خلال حصوله على نسبة كبيرة من الأصوات في المناطق الناطقة بالكردية وكذلك المناطق العلوية، الأمر الذي افتقدته التجربة الإسلامية سابقا، وقد ساعد على تحقيق هذا الاختراق خطاب الحزب السياسي تجاه هذه الأقليات. لقد أعلن قادة الحزب بوضوح شعارهم الأكبر: ((الاعتدال في السياسة والفكر والسلوك))، ثم شرحوا معنى ذلك الاعتدال بالتفصيلات التالية: 1 – سوف لا تتمحور حركتنا الجديدة حول المشاعر والعقائد الدينية، وإنما على الأسس الديموقراطية والشفافية والحوار والتعاون. 2 – لن تعمل حركتنا وفق أسلوب العمل السياسي القائم على الطاعة العمياء للزعيم أو الرئيس، كما كان جارياً في عهد أربكان، وإنما وفق أسلوب العمل الجماعي، أو أسلوب عمل الفريق في السياسة والإدارة والحكم. 3 – إنّ حركتنا سوف تنشغل بمعالجة القضايا التي تشغل بال مجموع الشعب التركي، الذي يشكو من البطالة وعدم المساواة في توزيع الثروات والنمو والعدالة الاجتماعية، ولذلك فقد وضعت برنامجاً طموحاً للحزب يتجسد في تحقيق دولة الرفاه، من خلال إصلاح نظام التعليم وتوفير الخدمات الصحية وتحقيق الضمان الاجتماعي في خطاب سياسي جديد موجه لكل المواطنين. 4 – لسنا من دعاة المناظرات السياسية والتلاسنات الفارغة، وإنما بالعكس من ذلك فإنّ حركتنا الجديدة تدعو إلى المصالحة الاجتماعية والحوار والتعاون، لأنّ ثمة نقاطاً كثيرة مشتركة بيننا وبين الآخرين. 5 – ثمة حقائق تركية وظروف موضوعية خاصة، لذلك فإنّ حركتنا سوف لن تكون خطراً أو تهديداً على النظام القائم، لأننا سوف لن نتّبع السياسات التي تشكل مثل ذلك التهديد. 6 -سنلبي رغبة المواطنين في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وسنقوم بتهيئة الظروف المناسبة لذلك الانضمام في إطار مصلحتنا الوطنية. 7 – سوف لن تكون قضية الحجاب سبباً للصراع في برامج حزبنا المقبلة، لأننا سنقوم بحل مثل هذه القضايا في إطار حقوق الإنسان التي ندعو إلى حمايتها، لاسيما أنّ الحجاب لا يشكل المشكلة الأساسية للمرأة التركية، وإنما هي بحاجة إلى حل مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية والمشاركة في الحياة السياسية والتمتع بالحريات والمساواة في جميع المجالات، ولذلك فإنّ المرأة التركية سوف لن تكون رقماً أو زينةً أو لوناً في حزبنا، وإنما على قدم المساواة مع الرجل. 8 – إنّ حركتنا سوف لن تمارس النظريات الاقتصادية والسياسية الطوباوية الجاهزة كالنظام العادل والنظرة الوطنية – القومية – وإنما السياسات الاقتصادية الواقعية والفاعلية والمنسجمة مع ظروفنا والمستجدات الدولية، في إطار نظام السوق الحرة مع حماية ذوي الدخل المحدود مالياً واجتماعياً. 9 – ستحافظ حركتنا على أسس النظام الجمهوري ومبادئ أتاتورك، ولذلك لن ندخل في صراع أو صدام مع القوات المسلحة التركية، وإنما سنتبع سياسة واضحة ونشيطة للوصول إلى الهدف الذي رسمه أتاتورك في إقامة المجتمع المتحضر والمعاصر، في إطار القيم الإسلامية التي يؤمن بها 99 % من مواطني تركيا. فالعدالة والتنمية قدّم رؤية نقدية عميقة، حيث قامت النهضة التركية على مشروع واضح تقوده مراكز الفكر والرأي التي تقوم بصياغة رؤى علمية واضحة في مجموعة من القضايا التي تهم المجتمع والدولة، كما أن هذه المراكز تضم شبكة الحكماء التي تتشكل من كبار موظفي الدولة المتقاعدين مدنيين وعسكريين، وهم علمانيون، لكنهم إيجابيون مع دور الدولة ولا يرتضون سياسة حزب العدالة والتنمية، بذلك استطاعت تركيا بهذا النموذج السياسي والاقتصادي المنفتح والكفاءة أن تشكل تحولاً جذرياً في منطقة الشرق الأوسط، الذي أصبح يشكل تحدياً للأجندة الأمريكية والإستراتيجية التي كانت قد احتكرت صياغة القرار الإستراتيجي في المنطقة. وهي رؤية تعتمد لغة الأرقام والمعلومات والحقائق للحالة الاقتصادية التركية قبل الانتخابات، وكوّن تصورا واضحا لأسباب الأزمة ومظاهرها وسبل الخروج منها، وحدّد رؤيته الاجتهادية بشكل واضح، وقدّمها للشعب، مقدما الوعود بتجاوز تلك الأزمة والخروج من الحالة السيئة، ولم تكن وعوده مبنية على شعارات ولغة خطابية أو فكرية [معلّبة] وإنما برامج اقتصادية صاغها خبراء في المجال الاقتصادي التركي، في مقدمتهم الرجل الثاني في الحزب، عبد الله غول. ثانيا: السياسات الكلية لحزب العدالة والتنمية التركي، وتتلخص فيما يلي: 1. ضمان الحريات المدنية والسياسية، ولا سيما حرية الفكر والتعبير والاعتقاد، والتعليم، وتكوين الجمعيات والمؤسسات كشرط مسبق للسلام والمصالحة. 2. تحويل البنيان الهش للدولة إلى دولة قوية وظيفية مع هدف تحقيق الكفاءة والفعالية، وتقديم خدمات ذات نوعية جيدة مع اعتماد اللامركزية. 3.البشر هم رأس المال وحجر الأساس في التنمية الاقتصادية. 4.تشجيع اقتصاديات السوق التي تعمل مع جميع القواعد والمؤسسات، وعدم مشاركة الدولة في أي نوع من النشاط الاقتصادي، بل يقتصر دورها على الوظيفة الرقابية والإشرافية، والاستقرار الاقتصادي لن يتحقق إلا بالنمو الناجم عن الاستثمارات التي ستزيد من فرص العمل. 5.دور الحكومة العمل على خدمة الشعب، و توفير الرفاهية والسعادة لجميع المواطنين. 6.التعليم هو أهم عنصر من عناصر التنمية في كل ميدان، وبالتالي لابد من تشجيع الاستثمار في مجال التعليم. 7.الضمان الاجتماعي حق دستوري ويتعين على الدولة جعل هذا الحق في متناول كل فرد. 8.اتباع سياسة خارجية واقعية تناسب التاريخ والموقع الجغرافي لتركيا، بعيدا عن الأحكام المسبقه وقبل تصور الأفكار. السياسة الخارجية ستكون على أساس مبدأ المصالح المتبادلة. 1. إعادة تحديد أولويات السياسة الخارجية في مواجهة التغير الإقليمي والعالمي. 10.اتخاذ مبادرات لإيجاد حلول منصفة لمشاكل تركيا مع جيرانها. 1. وضع المزايا الناجمة عن الموقع الإستراتيجي لتركيا في تصرف المجتمع الدولي من أجل تحسين مساهمتها في السلام والرخاء العالميين. * ونستطيع أن نستنتج من ذلك بعض سمات برنامج ورؤية الحزب: 1. برنامجه برنامج انتخابي سياسي صرف لا وجود لمسحة دينية فيه، وهو يعلن التزامه الكامل بالعلمانية، وبفصل الدين عن السياسة، وذلك لا يعني فصل الدين عن المجتمع أو الدولة. 2. إعادة ترتيب العلاقة بين الديني والسياسي بعيدا عن كل أشكال التنازع أو التوظيف، وتقر بأهمية القيم الدينية في تحقيق الرقي الاجتماعي. 3. لا اعتراض للحزب على العلمانية السائدة، ولكن على مفاهيم خاطئة لها تقيد حريات الشعب حيث تقتصر دعوته الإسلامية على تمكين المتدينين من حرية أداء شعائرهم، وإزالة القيود عن استخدام حجاب الرأس للمرأة كجزء من الحريات وحقوق الإنسان وليس كفرض ديني، ورفع القيود عن المدارس الدينية الخاصة التي تخرج أئمة وخطباء للمساجد. 4. لا يدعو لدستور إسلامي يعتمد الشريعة ولا يسعى لتطبيق الحدود الإسلامية، يطرح ديمقراطية علمانية لا تعادي الدين بل تستوعبه. 5. أعلنوا التزامهم الكلي بقواعد التعددية السياسية. 6. أعلنوا عزمهم على حماية حقوق الإنسان، وعدم التدخل في الحياة الخاصة بمواطنيهم، أو التعسف في تغيير نمط حياتهم عن طريق سلطة الدولة.