شاعر مميز مبدع خاض بحر الشعر وتعارك مع تفاعيله وأوزانه، غلب الموج مرة وغرق مرة أخرى وبدأ يتعلم السباحة حتى أتقنها وأصبح غواصا في بحر الشعر يلتقط درره من قعره وينظم منها عقدا جميلا من أبيات متماسكة متكاملة ليقدم لنا قصائد كثيرة يبهر بها القراء. كتب كل أنواع الشعر وأبدع، رسم لنفسه صورة جميلة تعكس أخلاقه وروحه بوضوح، ولم يكتف بهذا بل راح يغوص أيضا في بحر النقد فكان ينبوع عطاء تدفق بالخير ليروي عطش الأدب، هو ابن ولاية عين الدفلى الدكتور والشاعر علي ملاحي الذي لم يبخل عليّ بمحاورته حول تجربته الشعرية والنقدية بل بكل تواضع فتح للحوار باب قلبه وراح يعبر عن أحاسيسه ومشاعره المرهفة فكان لنا معه هذا اللقاء. * بداية، كيف يقدم الدكتور والشاعر المتميز علي ملاحي نفسه لقراء "الحوار" ؟ – واحد من الأسماء الأدبية التي ظهرت في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من مواليد 1960عشت طفولتي كباقي أبناء الجزائر في مرحلة مابعد الاستقلال وكان لي من المحنة نصيب، حيث عايشت الفقر والحرمان والمعاناة بكل أشكالها، ولكن كنا نجد لذة بدخولنا إلى المدرسة التي تربينا فيها أكثر من تربيتنا في البيت لأن البيت الجزائري مابعد الاستقلال كان حالة مزرية، في حين كانت المدرسة شيئا مقدسا في حياتنا اليومية. * هل بإمكانك أن ترسم لنا صورة شبه متكاملة عن مسيرة حركتك الشعرية من البداية إلى الآن ؟ – بدأت موهبتي الشعرية في مرحلة التعليم المتوسط، فقد كنت آنذاك أتنافس مع عدد من الأصدقاء الذين كانت لديهم هذه القريحة، بعضهم استمر وبعضهم توقف ولكن بالنسبة لي كنت أجد ضالتي في الكتابة من خلال الوجدان الذي يحررني من محنة الفقر التي كنت أعيشها ولذلك بمجرد دخولي إلى مرحلة الثانوية بدأت عملية النشر في الجرائد الوطنية كجريدة الشعب وغيرها وفي المجلات، ولكن حينما دخلت للجامعة هناك تحرر لساني الأدبي ووجدت ظالتي في انتسابي للجامعة لأنني تعرفت على العديد من الشعراء البارزين وعلى عدد من الأدباء والإعلاميين، فكان الراحل بلقاسم بن عبد الله آنذاك يشرف على نادٍ أدبي بجريدة الغرب الجزائري "الجمهورية" وقد وجدت في هذا النادي متنفسا وجوا مناسبا للتعرف على الثنائي واسيني الأعرج وأمين الزاوي وزينب الأعوج بالإضافة إلى الأدباء من أمثال المرحوم عمار بن لحسن وطاهر بن عودة وجمال الدين زعيتر وهناك بدأت فكرة الكتابة تتخمر لدينا ومن ثمة أصبحت الكتابة عندي هي عبارة عن رؤية ووعي خاص نمارسه بشكل آخر مع القضايا التي كانت تحيط بنا يكون القارئ شاعرا، كاتبا مسرحيا، تترك تلك القراءات أثرا في إبداعه. * بمن تأثر الدكتور علي ملاحي ؟ – بالنسبة لي المخزون الأدبي التي انبثقت منه تجربتي هو قرءاتي للشعر العربي بشكل دقيق فقد كان المتنبي بالنسبة لي الفارس الذي كنت أترجله وحاولت أن أقلده في الكثير من قصائده، الكتابة الشعرية انخراط عنيف في الإنصات لعوالم الداخل المتشبعة. * هل تؤمن بأن الشعر قادر على تغيير الواقع إلى ماهو أنقى وأصفى في ظل السلم والسلام بعيدا عن الحروب وقتل الأبرياء والشيوخ والنساء والأطفال ؟ في الحقيقة المرحلة التي نعيش فيها في ظل العولمة يعتبر الشعر وجدانا وناقوسا جماليا يحسس الإنسان بوجوده ويعطيه نوعا من الانفتاح على الحياة بشكل جميل، ويأتي بطريقة غير شعورية لأنه خضع إلى عملية وصاية خلافا لما تقدمه العولمة في تجربتها الجافة وأقصد بالعولمة تلك العلوم التي تحول الإنسان إلى آلة مضبوطة وفق أزرار معينة، وعليه فالشاعر كالجوهرة أين وضعته يمكن أن يتصرف مع اللغة بالذات. * هل القصيدة قلعة الشاعر الدائمة يحتمي فيها أو بها من عواصم الحزن والشجن، أم نافذة يطل منها على أغلى الأشياء السرية الحميمة ؟ – القصيدة هي مفتاح الحياة وكل ما يتواجد بالحياة والدنيا من حزن وشجون وألم وفرح وأسرار مخزنة فإن الشاعر يمتلك القدرة على تخزين كل هذه الأشياء ويحولها بطرقته الخاصة إلى نوع من التعبير الذي يمكن أن ينساب بشكل فردي مع وجدانات كثيرة ولهذا السبب عندما نقرأ للشاعر ونستعيد قصائده كثيرا ما يلوذ بالحياة ويحاول أن يبعث فيها طعما خاصا فيه اللذة والألم، والشاعر يحتاج إلى الألم ليعبر ويحتاج إلى الفرح ليعبر وبالتالي المواقف الصعبة كثيرا ماتصنع الشعراء. * القصيدة هي رسالة مفتوحة للعالم وأنت تكتب هل تفكر في القارئ ؟ – عندما تفاجئك القصيدة تفاجئك بطريقة مذهلة لا تتصور أنك تفكر في القارئ فالقصيدة تأتي هكذا بعيدا عن القارئ وبعيدا عن أي وصاية التي من شأنها أن تسلط نفسها على لسان الشاعر، فلسان الشاعر متحرر من كل القيود في لحظة الكتابة وهذا كله لا يعني أن الشاعر يتجاهل القارئ ولكن ليس لديه الفرصة لكي يفكر في نمط معين من القارئ فقريحته هي التي تفرض نفسها عليه في تلك اللحظة. * الشعر هو الفرصة الوحيدة للكاتب للمبدع لينصت لعزلته وطفولته ومكائده وانتصاراته وخسارته وأحلامه وآلامه هل أعطتك القصيدة فعلا هذه الفرصة للتأمل ؟ – نعم القصيدة عادة ما تحرر الشاعر من الكثير من المواقف النفسية والاجتماعية والإيديولوجية والدينية وأحيانا ما نجد الإنسان يتعالى على المجتمع من خلال تشبثه بأمل معين يمكن أن يراه في قصيدة من القصائد ويمكن أيضا أن يتحرر بشكل من الأشكال من خلال اعتماده على موضوع معين قد يكون موضوعا عاطفيا أو اجتماعيا أو نفسيا وكثيرا ما يتخمر هذا الموضوع في ذاكرة الشاعر ويتحول إلى نوع من الروح الأسطورية التي تعطي للشاعر مناعة في إعادة الاعتبار للحياة بلغته الخاصة وليس بلغة الآخرين. * يقول سيمون دي بوفوار "الحب سلطان ولذلك فهو فوق الجميع" كيف توظف نعمة الحب لخدمة متخيل القصيدة لديك ؟ – الحب الحالة الوحيدة في الإنسان التي تعطيه إنسانيته ووجوده، فالإنسان بدون حب لا يمكن سوى أن يكون إنسان مفرغا من محتواه، وكثيرا ما يعبر الشاعر عن مشاعره التي تبدو للناس العاديين مجرد مواقف بسيطة ولكن الشاعر يتعامل معها ويحولها إلى أفكار على درجة من القداسة وعليه لايمكن للشاعر أن يعيش بمعزل عن الحب لأنه الطاقة المخبئة في وجدانه. * يروى أن سان بول روكان يضع كل يوم على بابه لافتة كتب عليها "الشاعر يعمل" هل عمل الشاعر للغة يشبه عمل النحات أو الفنان التشكيلي على لوحاته ؟ – الشاعر في نهاية المطاف هو فنان بمعنى الكلمة ويتلاعب بالكلمات مثلما يتلاعب النحات بالأدوات التي يستعملها في نحته فاللغة بالنسبة للشاعر تتحول إلى مادة طرية يمكن أن يرسم من خلالها كل المواقف الإنسانية الخالدة. * عملية اختيار عناوين الدواوين والقصائد صعبة وأحيانا كثيرة تؤرق الشاعر كيف تختار عناوين قصائدك وهل من طقوس معينة في الاختيار؟ – اختيار العناوين كثيرا ما تأتي هكذا وأنت تكتب القصيدة يتطرق إلى قلبك العنوان المناسب للقصيدة ويحدث أحيانا أن لا تجد العنوان فيتعبك ذلك وتجد نفسك في موقف حرج يصعب التخلص منه. * ما دلالة عنوان ديوانك الأول "البحر يقرأ حالته" ؟ – "البحر يقرأ حالته" الديوان الثالث وهو التعبير عن مرحلة التسعينات أي مرحلة العشرية السوداء التي كانت تعيشها الجزائر وأعني به على وجه الخصوص الشعب الجزائري يقرأ واقعه بطريقته الخاصة. * في الذاكرة الشعرية العالمية والكونية يموت الشعراء باكرا أمثال رامبو، أبو القاسم الشابي مقارنة مع كتاب القصة والرواية ماهو السبب في ذلك؟ -في اعتقادي أن الحياة لا تخضع لاعتبارات خاصة لها علاقة بالنجاح والشهرة، فالشاعر يمكن أن يمجد نفسه من خلال قصيدة واحدة تعطيه المناعة والحضور الدائم وهناك من الشعراء من تصنعهم المواقف الإعلامية لكنهم عبثا عندما يموتون ينتهي كل شيء، فالشاعر لا يفكر في الحياة ولايفكر في الموت بل يفكر في القصيدة بعيدا عن الحياة والموت لأنه بالنسبة له الحياة لها وجود والموت له وجود وكيان والقصيدة هي التي تعطي هذا الاستمرار والخلود وفي الأخير يمكن القول أن الشاعر كفلسفة أسطورية مثالية يمجد نفسه بنفسه من خلال ما يصنعه في ذاكرته من مدن فاضلة بواسطة اللغة. * زمان ومكان الكتابة يختلف من شاعر لآخر منهم من يكتب في الليل ومنهم من يكتب في ساعات الصباح الأولى معظهم يفضل المقهى وآخرون عزلة المكاتب، كيف هي طقوس الكتابة عندك زمانيا ومكانيا ؟ – عادة ما يوصف الشعراء بأن لهم طقوسا خاصة في الكتابة وأن لكل شاعر شيطان، تقريبا هذه المسألة وفي اعتقادي أراها خرافية أكثر منها حقيقة لأن الكتابة هي نوع من الاستعداد والقابلية للتعامل مع المواقف واللغة والوجدان الذي يحيط به وبالتالي يمكن أن يكتب في بيته وفي المقهى وأينما راودته القصيدة يكتب لأن القصيدة تأتي بشكل مفاجئ وفي العادة تراوده في بيت واحد أو صدر أو عجز وفي هذه اللحظة يجد نفسه في هيجان خاص وإن لم يكتب تلك الإلهامات في تلك اللحظة تزول وتذهب ولا يستطيع أن يستثمرها بعد ذلك والغريب في الأمر أن عدم كتابتها عادة مايسبب للشاعر أرقا وكأنه ضيع شيئا ثمينا من بين يديه. * لكل شاعر مرجعياته التحليلية والجمالية لبناء عالمه الإبداعي ما هي منابع ومجاري أنهارك الشعرية لتأسيس قصيدتك ؟ – مرجعياتي التحليلية أتت من خلال دراستي في مصر فقد استفدت من التجربة الثقافية هناك وتعرفت على أدباء وشعراء أجلاء وأساتذة تعلمت على يدهم من أمثال صلاح فضل عز الدين اسماعيل بالإضافة إلى احتكاكي بالشاعر عبد المعطي حجازي الذي كان له دور كبير في تنمية الموهبة الشعرية لديّ، فأم الدنيا "مصر" كانت فاتحة خير عليّ لأنها منحتني متنفسا رغم أن دخولي في الحياة العلمية قد أخذني بطريقة معينة فأصبحت الكتابة العلمية تفرض نفسها عليّ بشكل قصري. * ما رأيك في الشعر المنظوم باللغة العربية الفصحى والمنظوم باللغة العامية وأيهما أحب إليك؟ – من خلال ممارستي للكتابة الشعرية أفضل تلك الكتابات المكتوبة باللغة الفصحى ولكن رغم ذلك لديّ الكثير من النصوص التي أكتبها مع النصوص المسرحية باللغة العامية ومن وجهة نظري أن الشعر ليس اللغة في حد ذاتها بل هو وسيلة الشاعر والموهبة هي التي تفرض عليك نمطا معينا من اللغة ومن تقنيات الكتابة فاللغة في نهاية المطاف الوعاء الذي يسمح لك أن تمارس من خلاله ما يختلج في ذهنك ومشاعرك بشكل جمالي. * النقد يهدف لإضاءة العمل الإبداعي كيف ينظر للعلاقة بين القصيدة والنقد في مشهدنا الشعري الجزائري الراهن؟ – القصيدة تبقى فوق مستوى الناقد ليس من باب أن الناقد ضعيف ولكن القصيدة كنص قائم بذاته قابل للخلود والنقد يتغير من ناقد إلى آخر وهذا يعني أن النص الذي كتبه المتنبي في زمنه لا يزال النقاد يكتبون عن هذه القصائد التي أنتجها المتنبي وبالتالي فكل مايكتب من نقد هو محاولة لمسآلة هذا الخطاب الشعري الذي يكتبه الشاعر. * بين السياسي والثقافي صداقة قديمة هل تنجو القصيدة من هذه الثنائية ؟ – القصيدة هي في حد ذاتها مراودة للواقع السياسي ولكن الشاعر في الحقيقة عندما يخضع للسياسة يتحول إلى شاعر إيديولوجي وفي هذه الحالة تمارس الإيديولوجية سلطتها عليه وتفقده حرارة المشاعر. * بالإضافة إلى إبداعاتك الشعرية نجد لك مسارا آخر في النقد وهذا ماشاهدناه في إنتاجاتك المثمرة أهمها "هكذا تكلم الطاهر وطار من أربعة أجزاء" حدثنا باختصار عن تجربتك النقدية ؟ – – في الحقيقة اهتماماتي النقدية متعددة فمثلما أشتغل في الشعر أشتغل في الرواية وفي القصة وأحاول قدر المستطاع أن أقدم أعمالا راسخة من شأنها أن توجه الباحث ليقدم إجابات نوعية لأسئلة إبداعية فكرية مطروحة في الساحة الأدبية وفي مقابل ذلك كنت أكتب مقالات نقدية وأنشرها في جريدة الجمهورية ولكن دخولي للبحث العلمي جعلني أنسحب من تلك المقالات الانطباعية التي كنت أكتبها. * هل في رأيك أن النقد موهبة أم شهادة جامعية ؟ – النقد أساسه الأول هو الذوق الجمالي الذي يمتلكه وإن لم يكن للناقد ذلك الحس النقدي فسيكون عمله عبارة عن نحت جاف وبالتالي يتحول إلى آلة والنقد لا يمكن أن يكون آلة بحيث لابد للناقد أن يكون أديبا في داخله. * أين وصل النقد في الساحة الثقافية الجزائرية ومارأيك فيما يطرح من نقد الآن ؟ – من خلال تجربتي النقدية لاحظت أن النقد في الوقت الراهن قد أصبح لغة التطاول وأيضا عبارة عن سلعة تعتمد على قدرة الناقد على تسويق البضاعة بحيث اختلطت الكتابات النقدية وصرنا لا نميز بين الكتابة النقدية الجافة والكتابات النقدية الجادة التي تؤسس لمفاهيم نقدية علمية. * ننتقل مباشرة إلى الحديث عن الجامعة باعتبارك أستاذا فيها ومسؤولا عن تخصص النقد الحديث والمعاصر، هل مستوى المتخرجين من الجامعة يؤهلهم أن يكونوا خير خلف لخير سلف؟ – بصراحة تعتبر محنة خريجي الجامعة محنة متشعبة وخطيرة ووجب على الدولة إعادة النظر فيها وتأسيس وسائل محكمة من شأنها أن تعيد الاعتبار للشريحة الجامعية المهددة بالضياع. – يقال إن نظام "ل م د" يخرج دكاترة لا يحسنون كتابة أسمائهم هل توافق هذا الرأي؟ – في حقيقة الأمر أواجه هذه الصعوبة وأتعايش معها وأحاول قدر المستطاع أن أجعل هؤلاء الطلبة لغة خصبة غنية تعطي الكثير والكثير ولكن المشكلة تكمن في أن بعض الباحثين في النظام الكلاسيكي أصيبوا بالفشل وطالت مدة أبحاثهم كون بعض طلبة نظام "ل م د" قد ناقشوا قبلهم وتحصلوا على الدكتوراه وما يمكن قوله في هذا الموضوع أن العلم يخضع لاعتبارات علمية وليس سلعة تباع. * هل الجامعة قادرة على صنع مبدعين في الرواية والقصة والشعر؟ – من وجهة نظري المتواضعة الإبداع يتجاوز الشهادة، فالعقاد لم يكن صاحب شهادة ومع ذلك كان على درجة من التميز. * إهداء تود تقديمه لشخص من هو وماهو الإهداء؟ – أهدي تحياتي إلى ابنتي العزيزة نور الهدى التي تمارس الكتابة الشعرية بشكل صامت. حاورته: لميس بودروة