بلقاسم القَطعة. يُسقِط الكثير من المثقفين وغيرهم في المنطقة عُقدهم واختلافاتهم، سواء مع الدكتور عزمي بشارة، أو مع دولَة قطر، على انتقاد أهمّ التجارب الفكرية والبحثية التي شهدتها المنطقة العربية في القرن الواحد والعشرين. هنا أقصد المركز العربِي للأبحاث ودراسة السياسات الذي يُديره المفكر العربي، عزمي بشارة، إذْ يذهب الكثيرون إلى الانتقاص من التجربة، وإحاطتها بسرديات المؤامرة والتَخوين وخدمة أجندات إقليمية ودولية، في الوقت الذي لا يُمكن انكار فضل هذا الصرح البحثي على المنطقة، وعلى الكثير من الطاقات الأكاديمية العَربية. يوفرّ المركز العربي اليَوم فضاءً نقاشيا علميًا حرّا نادرَ الوجود في منطقة أُهمِلت فيها كلّ أنواع إنتاج المعرفَة سواء المُحافظَة مِنها أو النَقدية. يَختَلِف العديد من المثقفين وغيرهِم مع أُطروحات الدكتور عزمي بشارة وأفكاره، إلى درجة يتحول معها الخلاف الفِكري إلى أمورٍ أخرى توصف بكلَ شيء عدا أن تكون اختلاف في أوجه النظّر، لكن هناك فرق ظاهر للعيان بين المُدير العام للمركز العربي للأبحاث وغيره، فالأوّل أنتج مؤسسة علمية وبحثية يُشهد لها بأنها حركت مياه البحث العلمي الراكدة في منطقتنا منذ عُقود، والآخرون لمْ ينتجوا شيئًا ولم يستطيعوا هزيمة كبريائِهم بتثمين المُنجز. حقيقة، تعّدُ مشارِيع الدكتور بشارة الفِكرية من أهّم المشاريع الفكرية عربيًا وأكثرها تَشابكاً مع مُتطلبات البيئة العربية، بَداية من قضية الدِيمقراطيَة وُصولا إلى مواكبة ثَورات الربيع العربي، مُرورا بقضية الدّين والعِلمانيَة التي تم ترجمتها في شكل مُؤلف ضخمٍ يشكّلُ اليَوم أرضية ومرجعًا للأجيال القادمة من الباحثين المهتمين بتفاعلات الدين معَ العلمانية في السيّاق الأوروبي والعالَمي. والجَدير بالقوْل أنّ بشارَة استقى أُطروحة هذا المُؤّلف الأمّ من العلاقة المغلوطة والسؤّال العقيم المتعلق بعلاقَة الإسلام بالديمقراطية. إلى جانب ما سبق، كتب الدكتور عزمي بشارة في قضايا مصيرية، مِنها قضية الجيش والسيَاسة عربيًا، ويحضّر لمشروعٍ ضخم يتعلق بقضية الطائفية. إذن، لا يحتاج الأمر سوى إلى تَصالحٍ مع الذات للاعتراف بكوْن الدكتور بشارة من أنشط وأهمّ المفكرين العرب الأحياء، والذين تشابكوا مع قضايا تاريخهم وجغرافيتهم، ليسَ في المستوى الفَلسطيني الضيّق وفقط، وإنمّا في المستوى العربِي، إذ يندرُ أن يجد المرء موضوعا يهمّ المنطقة لم يتطرق إليه الدكتور-المدرسة عَزمي بشارة، سواء عبْر لقاءاته الإعلامية، أم عبر مساهماته المَكتوبة المستّمرة. بالعَودة إلى المركز العربِي للأبحاث ودِراسة السيَاسات، يصحّ القول إنّه ينتقل بخطوات سرِيعة من دور المؤسسة البَحثِية إلى دور المدْرسة، إذ أنّهُ مَن الصعب على المهتمين بالمنطقة العربية من باحثِين وإعلاميين اليوم الكتابة في مواضيع حول المنطقة دون المرور بمجّلات المركز المحكمّة، وأوراقه المنشورة التي تُوَاكب مستجدات السيَاسة العربية والعالمية، فالميزة الرئيسية للمركز هي جدّيته في متابعة الأحداث وقدرته عَلى تحليلها تحليلا عِلميًا عبر الاستعانة بكادرٍ واسع من الباحثين والخُبراء المتفرَغين للبحث العَلميَ. وعِند الحديث عن التفرّغ للبحث العِلمي، تَبدو الصورة الأكثر إشراقًا للمركز العربِي هي نجاحه المميّز في مصالحة مهنة البحث العلمِي مع سوق العمل، وذلك من خلال توظيفه لموارد بشرية بحثية بأجورٍ ثابتة تبعد عنهم شبح القلق علَى مَصْدر الدخل والمعيشة في منطقةٍ أصبحت فيها دِراسة تخصّصات العلوم الاجتماعية والإنسانيَة للمتعة الشخصية وليس للعمل، فالسوق العربي لم ينجح إلى حد الآن في التصالح مع هذه الحقول المعرفيَة إلاً في مستويات محدودة، يُمكن طرح المركز العربيكنموذج في هذا الإطار. لَيْسَ المركز العَربي مُؤسسةً بحثية قادرة على خلق تقليدٍ بحثي عربيّ يدفع إلى إنتاج معرفةٍ عربيّة متخصصة وفقط، وانّما فضاءٌ ومِساحة تلتقي فيها الجماعة الأكاديمية العربيَة، حيث أنّ المؤتمرات التي يقوم بها المركز دوريًا تشكّل فرصةً استثنائية تُجمع فيها النخب العربية تحت سقف من التحضّر والحوار الأكاديمي البنّاء. مِن المشاكل التّي كانت تواجه الباحثين العرب هي عدم قدرتهم على اللقاء والنقاش حول قضايا بلدانهم والمنطقة، وإن حصل ذلك فإنه يَكون في عواصَم غَربية. وقد أتاح المركز الفرصة للباحثين العَرب للتعرّف على مشاريع واهتمامات بَعضهم البَعض، وكذَا أعمال بعضهم البعض وهذا المهم. بالحَديث عن التقاء الباحثين وتعرّفهم على منتجات بَعضهم البَعض الفكرية، يتبادر إلى الأذهان فَكرة أن المركز يشّكل نادٍ أكاديمي محدود العُضوية يجسّد برجوازية علمية مُغلقة. لكنّ العكس هو الصحيح، حيث أنّ مُؤتمرات المركز هي مُؤتمرات عامّة، الدخول إلى جلساتها مجانيَ وليس مقيَد بتخصص أو مستوى علميّ محدد.كما يتيح المركز للجمهور فرصة طرح الأسئلة على المتدخلين ومناقشة أفكارهم وأعمالهم، إضافة إلى هذا التفاعل المباشر، يَنشر المركز أشغال جلساتِهِ ونَدَواته المًصوّرة على الأنترنيت، ليتسنىّ لأوسع قدْرِ من الناس متابعة مداخلات الباحثين وكذا المحاضرات الافتتاحية. يُلاحظُ أنّ المركز العربيّ يتبنّى سياسية إعلامية احترافية، تهدف أساسًا الى ردم الهوّة التاريخية بين الجهد البحثي الأكاديمي المتخصصّ والشارع العام، إذ أنّ كل الفرص متاحة للوصول إلى مُؤتمرات المركز، وندواته العَلمية. والواضح أنّ المركز نجح في هذا الأمر كثيرًا، فالمتتبعُ لصفحات المركز العربيّ وحساباته على صفحات التواصل الاجتماعي يَكتشف أنّ المتفاعلين مع أعماله أغلبهم من الجمهور العام غير المتخصصّ، والذين يَبدو أنّهم وَجدوا في خطاب المركز خطابا يختلَف عن خطاب المُؤسسات الإعلامية الذي لا يخلو من الحسابات السيّاسية والمنطلقات الطائفية، حيث أنّ المركز العربيّ يَستفرد بخطّ أكاديمي موضوعي يهتم بالبحث العلمي الخالص بعيدًا عن تأثير أيّ جهة بما في ذلك البلد المستضيف. في علاقة المركز العربي بالجمهور العام، يجِب تسليط الضوء على مشروع بحثي متميّز. وقد لا نبالِغُ إذا سميناه المشروع البحثي العربي للقرن الواحد والعشرين، وهو المؤشر العربيّ الذّي يعدّ أكبر استطلاع رأي عرفته المنطقة في السنوات الأخيرة، من حيث اهتماماته وكذا من حيْثُ حجم العيّنة المُستهدفَة.كَشف المُؤشر العربيّ عن زيف بعض الادعاءات الغربية حوْل الفرد العربي، خاصة فيما يتعلق بنظرته لعلاقة الدين والسيّاسة وغير ذلك. والمثير للاهتمام في نتائج المؤشر على سبيل المثال هو التعريف الأخلاقي الشخصي للدين الإسلامي، الأمر الذي يدحض عددا من الفرضيات أهمّها الاستثنائية العربيَة والعلاقة السلبية بين الدين والديمقراطية عربيًا. إضافة إلى كلّ ما سَبق، تجيب الكتب المنشورة من طرف المركز العربي للأبحاث ودِراسة السياسات عن العديد من الأَسئلة حول فاعليَة المؤسسَة وجديَتها. هذه الكتب التي تجمع بين دفتيها دَراسات محكمّة أشرف عليها خُبراء وباحثين، شارك فيها، أو ألّفها، أهمّ المفكرين والباحثين العرَب المعاصرين كعزمي بشارة، وجيه كوثراني، بُرهان غُليون وغيرهم. ولم تتوقف جهود المركز عند هذا الحد، بل تعدَت ذلك نحو ترجمة نُخبة من الكتب الغَربية المرموقة، والتي يُشكّل تعريبها قيمة مضافة للمكتبة العربية والقارئ العربيّ. كنُقطة خِتام، وبَعيدا عن الأحكام التي تُنكر كلّ جميل بسبب الاختلاف مع الآخر، يرسم المركز العربي للأبحاث ودراسة السيّاسات اليوم،كلمة عربية بحروف عربيّة وبأقلام عربيّة في صفحات إنتاج المَعرفَة، ويصنع لنفسه شخصية أكاديمية عربيّة تَشطب المغلُوط في حقّ المنطقة والشعوب العربييّن، وتعمقّ المعرفة الغَربية الجادّة والموضوعية عبر تعريبها ووضعها بين يديّ الباحثين والقراء غير المتخصصّين. من الجيّد في منطقتنا تَعميم تجربَة المركز العربيّ وتشجيعها أكثر في سبيل مساهمة أكبر للعرب في مراكمة رأس المال الفكري العالمي المَكتوب. ومن الجيّد أكثر، الاختلاف مع المركز العربي ومُديره عبر خلق مُؤسسات بحثية تحاكي التجربة وإن اختلفت معها أو انتقدتها.