الدكتور قادة جليد العالم الإسلامي وأزمة القيم الحضارية: إن الأزمات الاقتصادية التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم وانعكاسها على الواقع الاجتماعي هو نتيجة تخبط للنخب السياسية وافتقارها لرؤية حضارية واضحة، فلقد اهتمت هذه الدول بالتحديث، أي بعالم الأشياء لكنها لم تهتم بالحداثة، أي تلك الرؤية الحضارية التي تجعل الإنسان ينخرط في اتجاه تاريخي عندما يعي معناه. وفي هذا الإطار، يقول المفكر الإسلامي، مالك بن بني " إن التغيرات التي نشاهد نتائجها بعد مدة طويلة في عالم الاقتصاد، أحيانا هي في جوهرها تغيرات حضارية تعتري القيم والأذواق والأخلاق في منعطفات التاريخ، فتغير معالم الحياة بتحول الإنسان نفسه في إرادته واتجاهه عندما يدرك معنى جديدا لوجوده في الكون"، وهكذا فإن العالم الإسلامي ما دام يستورد المذاهب الاقتصادية والحلول من الخارج في غياب معادلة اجتماعية وحضارية وتعبئة نفسية في إطار قيم المجتمع نفسه وقراءة واعية لقيم العصر فلن يخرج من أزماته الاقتصادية ومشاكله السياسية والأمنية الاجتماعية، مما جعل نظامه السياسي والاقتصادي معرضا للخطر في أي لحظة، وخير دليل على ذلك ثورات الربيع العربي التي أطاحت بالكثير من الأنظمة في العالم الإسلامي، لأنها أنظمة غير ديمقراطية، يعني غياب الإستقرار السياسي والاجتماعي، وانعدام الإستقرار السياسي يعني غياب الإستثمار المحلي والأجنبي، وغياب ثقافة حقوق الإنسان ومجتمع مدني قوي يمثل قوة اقتراح وليس أداة للتعبئة وصحافة حرة ومسؤولة واقتصاد منتج وليس اقتصاد ريعي، فلا يمكن في نظرنا لأي دولة أن تزدهر وتتطور اقتصاديا من دون نظام ديمقراطي، أي من دون تفويض شعبي حقيقي، وخير دليل على ذلك التجربة التركية الرائدة في المجال الاقتصادي التي عززت نهضتها الاقتصادية من خلال نظام سياسي ديمقراطي حقيقي مبني على احترام حقوق الإنسان، والاستثمار في الطاقات والكفاءات وتفعيل القيم الحضارية للمجتمع التي تفجر الطاقات الكامنة في الفرد والتصالح مع قيم العصر، ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية بفعالية واقتدار، لذلك فإن العودة إلى القيم الذاتية للمجتمع أمر أساسي في بناء أي نهضة اقتصادية واعدة لأن "كل إنسان، وعى ذلك أو لم يع، يتصرف وفق مصالح الناس، وبالتالي تُقوي أركان المجتمع أو تقوضها، تساعد على التقدم الاجتماعي أو تعرقله، والقيمة الاجتماعية لتصرفات الناس هي التي تدفع بالمجتمع لينظم سلوكهم من خلال العلاقات الأخلاقية، وتفرض عليهم مطالب أخلاقية، وتطرح أمامهم أهدافا عليهم تحقيقها" لا شك أن العالم الإسلامي يمتلك طاقات وإمكانيات كبيرة ولكنها غير مستغلة فبقيت مهدورة ومستنزفة من قبل الغرب،كما أن غياب الرؤية الحضارية جعل العالم الإسلامي يعيش انتكاسة جديدة من خلال تيار العولمة الجارف بكل أبعاده الفكرية والاقتصادية والسياسية، فالغرب يريد تنميط العالم من خلال رؤيته وفلسفته ومصالحه "والعولمة ليست ظاهرة اقتصادية أو سياسية أو تقنية أو معلوماتية فحسب، بل هي أساسا ظاهرة تاريخية مستمرة تعبر من رغبة الشمال في السيطرة على الجنوب". لقد أعطت النهضة التركية الرائدة الأمل للشعوب العربية والإسلامية في إمكانية النهضة والتقدم في إطار القيم الحضارية للإسلام، وبناء نموذج اقتصادي فعال يقتدي به في إطار التعاون والتكامل بين شعوب العالم الإسلامي التي تتوق للعودة لمسرح التاريخ من جديد والمساهمة في الحضارة العالمية. إن الإمكانيات التي يزخر بها العالم الإسلامي ويمكن عند توظيفها وبلورتها في إطار رؤية حضارية أن تشكل قطبا اقتصاديا عالميا مميزا من خلال خطة وتوجيه وفاعلية وقراءة الواقع قراءة تاريخية صحيحةكما يرى المفكر الإسلامي مالك بن بني، وهذا المشروع الكبير الذي نأمله ونعمل عليه في الحاضر والمستقبل، بإعتباره مشروعا تاريخيا وحضاريا للأمة الإسلامية، يحتاج إلى الكثير من الوعي والعمل والتفكير الإستراتيجي وتجنيد الطاقات والكفاءات وتجاوز النزعات الفردية، ووضع مصلحة الشعوب فوق مصلحة الأفراد والأنظمة.