هل الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم ممن يخالفهم في العقيدة: السلم أو الحرب؟ بمعنى آخر: هل يجب على المسلمين أن يقاتلوا غير المسلمين، ولو كانوا مسالمين لهم، كافّين أيديهم عنهم، لا يضمرون لهم شرا، ولا يظاهرون عليهم عدوا؟ أو الواجب على المسلمين ألا يقاتلوا إلا من يقاتلهم ويعتدي على حرماتهم: على أنفسهم أو أهليهم أو أموالهم أو أرضهم، أو يقف في وجه دعوتهم ويصد دعاتها، ويعترض طريقهم، ويفتن من دخل في الإسلام باختياره بالأذى والعذاب؟ وقد يعبّر عن هذه القضية بصيغة أخرى، وهي: لماذا يقاتل المسلمون الكفار؟ أهو لمجرد كفرهم؟ أم لعدوانهم على المسلمين بصورة أو بأخرى؟ هذه قضية كبيرة، اختلف فيها العلماء قديما وحديثا، وإن كان مما يؤسف له أن الذي شاع واشتهر لدى الكثيرين أن الإسلام يأمر بمقاتلة كل من يخالفه، سواء أكانوا وثنيين مشركين أم أهل كتاب (يهودا أو نصارى) أم ملاحدة جاحدين أم غيرهم من الغافلين الذين لا يفكرون في أمر الدين إيجابا ولا سلبا، وسواء أسالمه هؤلاء أم حاربوه، فلا بد أن يقاتَلوا حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. القضية تستحق من أهل العلم والتحقيق في عصرنا وقفة للتأمل والبحث العميق، ومراجعة النصوص الأصلية، وعدم الاكتفاء بالنقل عن هذا وذاك، لا سيما كتب المتأخرين، وتحتاج إلى رد المتشابهات إلى المحكمات، والظنيات إلى القطعيات، والفروع إلى الأصول، وربط النصوص -خصوصا من القرآن- بعضها ببعض، وربط الظواهر بالمقاصد، وفي ضوء المناقشة والموازنة والتحليل والتأصيل يرجح الرأي الأقرب إلى مجموع نصوص الشرع ومقاصده، والمحقق للمصلحة الحقيقية للأمة الإسلامية الكبرى. وهنا لا بد أن نذكر أن هذا الخلاف إنما هو فيما يسمى ب''جهاد الطلب'' وليس في ''جهاد الدفع''. والمقصود بجهاد الدفع: جهاد المقاومة والتحرير لأرض الإسلام من الغزاة المحتلين الذين هاجموها واحتلوا جزءا منها مهما تكن مساحته، فهذا النوع من الجهاد لا خلاف في فرضيته على المسلمين، لم ينازع في ذلك عالم في القديم أو الحديث، فالأمة -بجميع مذاهبها ومدارسها وفرقها- مجمعة على وجوب الجهاد بالسلاح وبكل ما تقدر عليه، لطرد العدو المحتل، وتحرير دار الإسلام من رجس هذا العدو، وهذا النوع من الجهاد والمقاومة: متفق على مشروعيته بين أمم الأرض جميعا. أما المقصود بجهاد الطلب، فهو: الجهاد الذي يكون فيه الكفار في أرضهم، والمسلمون هم الذين يغزونهم ويطلبونهم في عقر دارهم، توقيا لخطرهم في المستقبل، أو تأمينا للأمة من شرهم، أو لإزاحة الحواجز أمام شعوبهم، لتبليغها دعوة الإسلام، وإسماعها كلمة الإسلام، أو لمجرد إخضاعها لسلطان الدولة الإسلامية، ولسيادة النظام الإسلامي الذي يحكم الحياة بتشريعاته العادلة وتوجيهاته الفاضلة. حكم قتال المسالمين هناك قضية تعد من أهم قضايا الجهاد القتالي في عصرنا، بل لعلها أهمها على الإطلاق، هذه القضية تقتضي منا العكوف على بحثها وتمحيصها، وترجيح الراجح منها، في ضوء النظر الموضوعي إلى الأدلة من محكمات القرآن، ومن صحيح السنة، مع ربط النصوص بعضها ببعض، وربط الجزئيات بالكليات، والفروع بالأصول، والنصوص بالمقاصد، وربط ذلك كله بالواقع المعيش، فالفقه الحقيقي لا يعمل في فراغ بل يعمل في واقع، يجتهد أن يجد لكل مشكلة حلا من الشرع، ولكل داء في المجتمع دواء من صيدلية الإسلام، لا من خارجه. هذه القضية هي مدى مشروعية قتال من سالمنا ومد يده إلينا بالمصافحة والمصالحة، وألقى إلينا السلم، وكف يده عنا، فلم يقاتلنا في الدين، ولم يخرجنا من ديارنا، ولم يظاهر على إخراجنا. هناك من الفقهاء قديما وحديثا من ذهبوا إلى أن المسلمين مطالبون شرعا بتوسيع أرض الإسلام، كلما أمكنهم ذلك، وأنه يجب عليهم أن يغزوا من يلونهم من غير المسلمين كل سنة مرة على الأقل، إيذانا بقوة الإسلام، وإعلاء لكلمته، لتبقى دائما هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، ولضم الدول الكافرة تحت سلطان النظام الإسلامي، ليروا بأعينهم الإسلام بتشريعاته العادلة وتوجيهاته الفاضلة في حال تطبيقه، فخضوعهم هنا للإسلام شريعة، وليس للإسلام عقيدة، فهذه متروكة لاختيار الناس وإرادتهم ولا إكراه فيها بحال، وفيها جاء قوله تعالى: ''لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي'' (البقرة: 256). وهناك من الفقهاء قديما وحديثا من ذهبوا إلى أن القتال في الإسلام لم يشرع في حق من يسالم المسلمين، ومن لم يقاتلهم في الدين، ولم يخرجهم من ديارهم، ولم يظاهر على إخراجهم، بل كفوا أيديهم عنهم، وألقوا إليهم السلم. فهؤلاء ما جعل الله لهم عليهم سبيلا، بل أمر المسلمين أن يبروهم ويقسطوا إليهم، فإن الله يحب المقسطين. إنما يشرع الإسلام قتال الذين يقاتلونهم، ويعتدون على حرماتهم، أو يفتنونهم في دينهم، ويخرجونهم من ديارهم، ويصدون عن سبيل دعوتهم، ويصادرون حقهم في نشرها بالحجة والبيان، ويشهرون في وجههم السيف، وقد يقتلون دعاتهم، كما حدث بالفعل مع الرومان، ومع الفرس. وهكذا انقسم أهل العلم والفكر في موضوع الجهاد إلى فريقين: .1 فريق دعاة السلم ؛ إذ يعتبرونه الأصل في العلاقة مع غير المسلمين، إلا أن يقع اعتداء على المسلمين، أو على دينهم بالفتنة عنه، والصد عن سبيله، أو على المستضعفين في الأرض من المسلمين أو من حلفائهم، ونحو ذلك. وهؤلاء يسمونهم (الدفاعيين)؛ لأنهم يقولون: إن الجهاد شرع دفاعا بالمعنى الذي شرحناه، ولا يبدأ بالهجوم من غير سبب. .2 وفريق دعاة الحرب ؛ لأنهم يعتبرون الأصل في العلاقة بالكفار هي الحرب، وعلة قتالهم هي الكفر، وليس مجرد العدوان على أهل الإسلام أو على دعوتهم؛ لأن طبيعة الإسلام هي التوسع، وإخضاع الأنظمة الكافرة لسلطان حكمه، وهكذا كانت -في رأيهم- معظم غزوات الرسول، وفتوحات أصحابه. وهؤلاء يسمونهم (الهجوميين)؛ لأنهم لا يقصرون الجهاد على الجانب الدفاعي، كما يقول الآخرون، بل هو حق تسانده قوة، ومصحف يحرسه سيف، ورسالة تدعو العالم إلى ثلاثة أشياء: إما الإسلام، وإما الجزية، وإما القتال. أنواع مشروعة من جهاد الطلب لا خلاف عليها: وأود أن أحرر هنا موضع الخلاف بين المعتدلين والمتشددين، أو بين الدفاعيين والهجوميين، كما يسميهم البعض في هذه القضية. فبعض الهجوميين لم يكن أمينا مع أصحاب الرأي الآخر، فهو يقوّلهم ما لم يقولوا، ويتهمهم بما هم منه براء، فهم يقولون: إن هؤلاء (الدفاعيين) لا يقرون جهاد الطلب بحال من الأحوال، ولا في أي صورة من الصور ولا لأي سبب من الأسباب، ولا يرون الجهاد مشروعا إلا في حالة واحدة، وهي إذا ما اعتُدي على المسلمين في دارهم ووطنهم. هكذا صور رأي الدفاعيين. وأرى أن هذا ليس من الإنصاف مع الخصوم، ولا من الدقة والأمانة في عرض آرائهم، فمن قرأ آراء هؤلاء يجدهم يقرون جهاد الطلب، وغزو العدو في داره، لعدة أسباب، منها: .1 تأمين حرية الدعوة ، ومنع الفتنة في الدين، وإزالة الحواجز المادية التي تحول بين جماهير الناس وبين بلوغ دعوة الإسلام إليهم، وعلى هذا كانت فتوح الراشدين والصحابة ومن تبعهم بإحسان، لإزالة القوى الطاغية التي تتحكم في رقاب البشر وضمائرهم، وتقول ما قال فرعون لمن آمن من أبناء شعبه: ''آمنتم له قبل أن آذن لكم''؟. وهذا الهدف تجسيد لقوله تعالى: ''وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةس. .2 تأمين الدولة الإسلامية ، وسلامة حدودها، إذا كانت مهددة من قبل أعدائها الذين يتربصون بها ويكيدون لها، وهو ما يسمونه في عصرنا الحاضر: (الحرب الوقائية). وهذه من ضرورات الملك، ومقتضى سنة (التدافع). ومعظم الفتوحات الإسلامية كانت من هذا النوع، بعد أن اصطدمت الدولة الإسلامية -مبكرا- منذ عهد الرسول بالدولتين الكبيرتين في العالم (الفرس والروم)، وبدأ الصراع مع الروم منذ سرية مؤتة، وغزوة تبوك. وبدأ الصراع يدور مع الفرس منذ أن مزق كسرى كتاب النبي (صلى الله عليه وسلم) إليه، وتوعده بما توعد. .3 إنقاذ المستضعفين من أُسارى المسلمين ، أو من أقلياتهم التي تعاني التضييق والاضطهاد والتعذيب من قبل السلطات الظالمة المستكبرة في الأرض بغير الحق، كما قال تعالى: ''وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا'' (النساء: 75). بل إن الدولة الإسلامية إذا استغاث بها هؤلاء المستضعفون المضطهدون، ولو كانوا من غير المسلمين، وكانت تملك القدرة على إنقاذهم مما هم فيه، وجب عليها أن تستجيب لدعوتهم وتغيث لهفتهم إذا طلبوا نجدتها، فإن نصرة المظلوم وإعانة الضعيف وردع الظالم عن ظلمه واجب شرعي، بل هو واجب أخلاقي في كل دين وكل مجتمع يقوم على الفضائل ورعاية القيم العليا، سواء أكان المظلوم مسلما أم غير مسلم. .4 إخلاء جزيرة العرب من الشرك ، واعتبارها وطنا حرا خالصا للإسلام وأهله، وبهذا يكون للإسلام معقله الخاص، وحماه الذي لا يشاركه فيه أحد. ولله حكمة في ذلك، وهي أن يكون الحجاز وما حوله من أرض الجزيرة هو الملاذ والمحضن لهذا الدين، الذي يلجأ إليه الإسلام كلما نزلت المحن والشدائد بأطرافه المختلفة. وهذا ما أثبت لنا التاريخ جدواه وأهميته خلال العصور والأزمات التي مر بها تاريخ الأمة. وفي هذا نزلت آيات سورة التوبة في البراءة من المشركين وتأجيلهم أربعة أشهر، يسيحون خلالها في الأرض ثم يختارون لأنفسهم: الإسلام، أو الرحيل من هذه الأرض أو القتال، وهذه الأشهر الأربعة هي التي سميت (حرما) لتحريم قتالهم فيها، ثم قال تعالى: ''فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتوهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد'' (التوبة:7)، وشاء الله أن يختار العرب الدخول في الإسلام، قبل أن تمر الأشهر الأربعة، وتصبح الجزيرة خالصة للإسلام، ويصبح العرب عصبة الإسلام، وجنده الأولين، وحملة رسالته إلى العالم. وهذا من فضل الله على العرب، مع ما فضلهم به، فالقرآن نزل بلغتهم، والرسول بعث منهم، والكعبة والمسجد الحرام والمسجد النبوي في أرضهم، وقد أصبحوا هم حراس الإسلام، ومبلغي دعوته إلى العالمين.