يوحي حال الأمة الإسلامية والعربية في وقتنا المعاصر ، وفي ظل الظروف المزرية والمضطربة على مختلف المستويات الثقافية والسياسية والاقتصادية بتخلف كبير ، وتخاذل مخزٍ في الآراء والمواقف ، فكثرة من بقاع بلاد الإسلام تنشب فيها الحروب وتنتشر فيها الفتن إنْ بين أطراف مختلفة أو حتى بين المسلمين أنفسهم ، وأفضل دليل على هذا هو الحال المتأزم الذي رأيناه في غزة ، فالعداوة كانتْ حاصلة بين عدة أطراف ، أولها بين شعب بكامله(جمهورا ومقاومة) وبين العدو الصهيوني ، وثانيهما بين توجهين سياسيين يتمثلان في السلطة الحاكمة والحكومة المقالة. ونحن حين نأخذ هذا الحال مثالا ، لا نقصد وصفه ، أو لوم الأمة على تخاذلها في مثل هذه الظروف الصعبة ، وإنما نحن نسعى إلى معالجة إحدى المشاكل التي أوصلتنا إلى مثل هذا الحال والمئال. إذا كان مصطلح الأمة لا يُطلق على شعوب ما إلا إذا كانتْ مجتمعة متماسكة ، تُوحِّدها عدة مقومات وتشدها إلى بعضها بعض عدة انتماءات أهمها إلى اللغة والدين والتاريخ الواحد . فهل من الممكن أنْ نطلق هذا المصطلح(الأمة) على المسلمين وهم في هذه الحالة من التفكك والشتات والتخالف إلى حد نشوب الفتنة والبغضاء بينهم ؟؟ لا ريب أنّ الإجابة عن مثل هذه الإشكالية ليست من السهولة بمكان ، غير أننا سنحاول فيما نطرحه من أفكار أنْ نقترب من الرأي الصواب ونحيط به حتى تتضح الصورة ويتبين المقصد. ونحن في هذا السعي ننطلق من واقعنا الفكري والثقافي ومدى فاعليته وتأثيره في الواقع المعاش حتى نصل إلى أهم النتائج التي يُستنبط منها الحكم على مدى ارتباطنا بشخصيتنا ومقومات أمتنا وبتاريخنا العريق. على هذا الأساس فإنّ نظرة فاحصة للبنية الفكرية والثقافية الإسلامية تُنبئ عن كثرة الإتجاهات والمذاهب التي يربط فيما بينها الاختلاف والتناحر بدل ما يجب أنْ يكون من حوار وتعايش ، وهذه المعضلة نجدها في حقول كثيرة وفي مجالات متنوعة غير أننا سنكتفي في هذا المقام بالحقل الديني وبالحقل الفكري والثقافي العام لأنّ لهما تأثيرا كبيرا على حياة المسلمين اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا ، لأن ضعف هذان الحقلان سيُؤدي حتما إلى شلِّ حركة الأمة وتقليل مساهمتها الجادة والجيدة سواء على الصعيد القومي أو على الصعيد الإنساني . وقبل أنْ ندخل في حديثنا عن الحقل الأول ينبغي لفت الانتباه إلى أنّ حديثنا عن المؤسسة الدينية ليس حديثا عن الدين في حد ذاته ، لأنها -المؤسسة- هي مجموعة الهيئات والمنظمات والاتحادات التي تقوم بنشر الدين وشرح تعاليمه من أوامر ونواهي ، ثم إيصالها إلى المسلمين عن طريق الدعوة والفتاوى وحتى عن طريق المواعظ وتقديم النصح والإرشاد. إذا انطلقنا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :(تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) وحاولنا البحث عن تطبيقه عمليا لاصطدمنا بحقيقة مرة هي أن المسلمين على ''ملل ونحل'' كثيرة منها ما هو خارج عن المبادئ الدينية . وأغلبها متفق في الأصول والثوابت ومختلف في الفروع أو المتحولات .وقد يتساءل سائل عما هو المشكل في هذا الحال بما أنّ الاختلاف في الرأي والتغاير في التصورات سنة البشر وديدنهم؟؟ إنّ الإجابة عن مثل هكذا سؤال تتلخص في مصطلح ''عدم التعايش'' أو بتعبير آخر انعدام ما يُسمى بثقافة الاختلاف لأنّ كل فريق أو اتجاه من هذه الفرق يسعى إلى إثبات الزلل في رأي الآخر وتخطيئه بل إنّ الأدهى والأمر هو السعي إلى نفيه وعدم الاعتراف بوجوده أصلا . بل إنّ مثل هذه النزاعات التي تُنهك الكيان الإسلامي ، وتُقسمه إلى أطراف لا تعترف ببعضها بعض هو الذي فتح عدة ثغور سمحتْ لأعداء الإسلام بأنْ ينفذوا من خلالها لإشعال نار الفتنة بين أطراف إسلامية كما حدث في العراق مؤخرا بين السنة والشيعة ، وكل هذه المساعي التي يُخطط لها غيرنا تدل على فهمهم العميق بأنّ قوة المسلمين تكمن في اجتماعهم واتفاقهم أو حتى تعايشهم في إطار الإيمان بحرية الاختلاف في الرأي والتباين في الرؤى والتصورات. ولعل هذا الوضع المتأزم والمتمثل في توتر العلاقات بين مختلف الأطراف الدينية والمذهبية يعود بنا إلى حال الأمة في عصر الفتنة الكبرى من فرقة وعداوة ، بل يُرجع من جديد فكرة ''الفرقة الناجية'' التي تدّعي كل طائفة أنها هي ، وأن بقية المسلمين في النار ، في حين أنّ الفرقة الناجية أوسع بكثير مما تعتقده طائفة لا تمثل إلا نسبة ضئيلة في أمة كبيرة. الحقيقة أنّ مثل هذا التفكير أهلك الأمة الإسلامية في أزمنة سابقة وأثقل كاهلها ، وإذا ما استمرّ الآن فإنه سيقضي علينا دون أدنى شك ، لأنّ نصرة المسلمين لن تتحقق إلا عن طريق اتحادهم ووقوفهم جنبا إلى جنب تحت راية واحدة على رغم كل الاختلافات المذهبية والمؤسسات الدينية. إنّ هذا الحال من الشقاق والفرقة التي لاحظناها داخل المؤسسة الدينية نجدها ?ربما- أكثر انتشارا وظهورا حين نلتفتُ إلى الحقل الفكري والثقافي العام ، وذلك لتعدد المرجعيات التي ينطلق منها كل اتجاه أو مدرسة أو إيديولوجيا ، وكذا تغاير المناهل الفكرية التي تنهل منها هذه التوجهات والإيديولوجيات على عكس المؤسسات الدينية التي تنهل من منبع واحد وتنطلق من قناعات ثابثة واحدة هي الكتاب والسنة . يُحيلنا هذا الكلام إلى مشكلة دائما تبرز حين يتعلق الأمر بالأيديولجيات والتيارات الفكرية وهي أنّ كل واحدة منها غالبا ما تقوم على نقض سابقتها ونعتها بالقدم أو بالنقص وحتى بانتهاء الصلاحية والأمثلة على مثل هذه التناحرات كثيرة ومعروفة كالصراع الذي كان قائما بين بعض التيارات الفكرية الإسلامية وبين أيديولجيات أخرى معروفة أيضا . وكلامنا هنا يُحيلنا إلى أمرين اثنين: -أولا: إنّ أغلب التيارات والأيديولوجيات التي عرفناها ذات مرجعيات وأصول غربية أو أجنبية ، ولا علاقة لها لا بالعروبة ولا بالإسلام ، وهذا يدلّ على أنّ العقل العربي لم يستطع أن يبتكر ويؤسس لأيديولوجية تفرض قناعاتها علينا وتمتدّ إلى شعوب وإلى بلدان أخرى ، بل إنّ هذا العقل لا يزال يستورد الأفكار والتصورات مثلما يستورد حاملوه المنتوجات والوسائل ، بل الأكثر من هذا مثل يستوردون أكلهم وشربهم ولباسهم. - ثانيا : أغلب هذه التيارات تقوم على معاداة الدين والسخط على التراث وتعتبر ما جاء من الماضي ميكانيزمات بالية أكل عليها الدهر وشرب ، في حين نحن بحاجة إلى عقل واع يقوم بمناقشة الأفكار وتحليلها قبل إبعادها نهائيا. لعل ما نخلص إليه الآن هو أنّ أزمتنا ليستْ على ساحة المعركة فقط ، بل على مستويات أخرى لها أثرها في النفوس وفي مصير الأمة بكاملها ، لأنّ الفشل الثقافي والحضاري سيؤدي حتما إلى فشل في الحرب ، لأنّ هذه الأخيرة تحددها كل تلك المستويات السابقة ، ولعل مصيبتنا في هذا العصر هي أننا لم نصنع الإنسان الذي يستطيع أنْ يتصدى للمستجدات والرهانات المعاصرة ، ولذلك فخسارتنا في غزة وفي غيرها ليس أمرا محيرا أو غريبا ، لأننا أمة اختارتْ أنْ تعيش بلا هوية ، اختارتْ أنْ تظلّ مفرقة متناحرة فيما بيننا ، وبهذا تُصبح حربنا داخلية أكثر منها خارجية ، إننا نحتاج لآليات تفكير تتناسب مع عصرنا ولعقول وأيديولوجيات لا مستوردة من الآخرين وإنما هي نابعة منا ، ومن ذاتنا وشخصيتنا الحضارية .: