سوف أخصص بعون الله تعالى فصولا فيما يأتي من الحلقات لمناقشة هذا العنوان غير مكتف بحلقة واحدة، أملي في ذلك أن أبرز ما يمكن إبرازه من خصوصية وانفرادية في تحديد هذا المفهوم أو ذاك، تكون قد ترسخت في أدبيات حزب جبهة التحرير الوطني، وبخاصة ما تحصّن منها عبر التجربة والممارسة على مرّ السنين، إن مساهمتي المتواضعة هذه والتي ارتأيت بسطها للاطلاع والتأمل وعلى أوسع نطاق ممكن من الرأي العام المهتم، والمتتبع لما يعرفه الحزب من نشاط، آخذا في عين الاعتبار انطلاقة هياكلنا الحزبية في توفير الجو الملائم للشروع في التحضير المسؤول لإنجاح أشغال المِؤتمر التاسع. إن إيديولوجية حزب الشعب وبيان أول نوفمبر ,1954 وما تخلل الثورة من مواقف وقرارات سياسية قبل الاستقلال تمثل كلها رصيدا نضاليا وأدبيا أكسب حزب جبهة التحرير بعد استقلال مرجعية ثورية تبقى من خصوصيات حزبنا العتيد وقد سبق أن ناقشنا موضوع حزب جبهة التحرير والمنطق الثوري في حلقة من الحلقات السابقة كخصوصية... يضاف إلى ما سبق ذكره ومنذ مؤتمر طرابلس سنة 1962 وما استجد من أفكار وبرامج جديدة كمشروع المجتمع العصري الذي أوكل لحزب جبهة التحرير إنجاح مهامه من الناحية النظرية والفلسفية والتوجيه العام وتقييم التنفيذ وتقويمه. وما يستنتجه الباحث النزيه أنه منذ الشروع في تطبيق نتائج مؤتمر طرابلس قد بدأ عهد جديد للجبهة بتحويلها إلى حزب قائم على أسس ومبادئ واختيارات سياسية واقتصادية، تعرضنا إلى أهمها في مرجعنا الموسوم الصادر عن ديوان المطبوعات الجامعية عام 2004 تحت عنوان ''حزب جبهة التحرير عنوان ثورة ودليل دولة'' ص129وما بعدها.. فلا أعرف بعد هذا ما هي مبررات المنادين بملكية حزب جبهة التحرير ومشاعيته وحقهم في التكلم باسمه والبكاء عليه بدموع التماسيح، إن الذين لبوا نداء نوفمبر من اجل استقلال الجزائر كان لهم ذلك وانتهى واجبهم نحو الوطن ونحو الله إن كانت ثم صلة عقائدية، وكثير من هِؤلاء المجاهدين والمؤسسين من اختاروا لأنفسهم حزبا جديدا وتسمية جديدة له بعد الاستقلال وفيهم من توقف في وسط الطريق وفيهم من مازال يناضل بوضوح..، أما أشباه السياسيين والحاقدين على حزب جبهة التحرير وانجازاته والذين يزعمون بحق لهم، أوفي ارث ثابت، أو بمقولة مشاعية حزب جبهة التحرير، فلهؤلاء وغيرهم.. أفكارهم بالية، وشطحاتهم المبرمجة تحت الطلب، لا ترسم منظرا جميلا، ولا تدخل البهجة على النفوس، فهي منفرة وانتهازية وضغوط من أجل أطماع، ونوع من الصيد في المياه العكرة كما يقال .. إن حزب جبهة التحرير ملك لمناضليه قديمهم وجديدهم، كبيرهم وصغيرهم، من المثقفين، والعمال، والفلاحين، والشباب ، والنساء.. فأين أنتم من هذا وذاك؟، وإذا لم تستح فافعل ما شئت.. ومجمل القول لقد اكتسب حزب جبهة التحرير منذ مؤتمر طرابلس عام 1962 إلى المؤتمر الثامن الجامع عام ,2005 إلى المؤتمر التاسع الذي هو في طور الإعداد والتحضير لعام 2010 بتوفيق من الله، أقول اكتسب أفكارا وبرامج وقرارات وحلولا لمعضلات مرت ومواقف جديدة أصبحت كلها تمثل مرجعية وخصوصية للحزب العتيد كقيمة للرصيد الفكري والثوري والأدبي الذي تحقق بفضل نضالات وخبرات مناضليه، هذا ما يطلق عليه في مصطلحات الملكية الفكرية ، حقوق المؤلف والحقوق المجاورة المحمية وطنيا ودوليا.. إن الثروة الفكرية والأدبية التي تراكمت مع مرّ السنين وتعاقب الأجيال التي تشكل ما يطلق عليه مرجعية الحزب، يجد فيها مناضلو ومناضلات الجبهة ما يثلج الصدور ويقوي العزيمة ويسعد الانتماء، وتكون سعادتنا وافتخارنا أكبر إذا ما تبناها الغير من الأحزاب الوطنية والدولية كفكر إنساني وعالمي..، ذلك آن مسار حزب التحرير الثوري كتجربة ومرجعية، ونمطية في اختياراته بعد الاستقلال ونموج ثورة البناء والتشييد منذ منتصف الستينات والتي بلغت أوجها في السبعينيات، كانت كافية لتكون أحسن ما يقتدى به دوليا، بل وحتى التيمن بتبني التسمية نفسها، والتاريخ يشهد كم من جبهة تحرير وطنية استوطنت هنا وهناك، بل وفي عقر دار أوروبا نفسها، وفي أمريكا وإفريقيا والمشرق العربي الخ.. إن المتأمل لهذا الانتشار الذي تزينت به كثير من مناطق العالم الذي لم يتحقق نتيجة نشاط مخابرات، ودراسات مخبريه، أو لدور مراكز ثقافية مضمونة التأطير والتمويل والرعاية والتوجيه، ويقينا لم تكن حتى نية تصدير الثورة إلى الغير واردة لدى قيادة الدولة والحزب كما روج لها بعض أشقائنا زورا وبهتانا، بل لا هذا، ولا ذاك.. إنها التلقائية والحتمية التاريخية المسيرة لأحداث التاريخ وتفاعلاته ليس إلا.. لقد تشاء الصدف أن يكون مجرى تاريخ الجزائر منذ أن داست أقدام الأجنبي الغازي هذه الأرض الطيبة المباركة المطهرة بمقدم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجزائر في قلب صيرورة التاريخ وجدليته التي نشطت أكثر منذ بدء ثورة الأمير عبد القادر، ونضالات الحركة الوطنية منذ عشرينات القرن الماضي، وثورة نوفمبر الخالدة، ومواصلة ثورة البناء والتشييد المظفرة ومعركة الديمقراطية الحقيقية ومكافحة الإرهاب وحلقات التاريخ ممتدة ومترابطة.. فيبقى والحالة هذه من حق حزب جبهة التحرير الوطني أن يبلور هذه المرجعيات وهذه الأفكار والبرامج الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية بصفة عامة بما يحدد المعالم ،ويجذّر الأصول، ويكثف الفروع، حتى تبقى علامة مسجلة متميزة ، معلومة ومنقوشة في العقول والنفوس، وان قيمة هذه المرجعيات وهذه الأفكار تتعزز أكثر بتحويلها من عالم التجريد والنشاط العقلي واللفظي إلى عالم التطبيق الملموس والاحتكاك بالواقع وحيويته وتعقيداته والتفاعل معه أخذا وعطاء، تقويما وتحسينا الخ... وبنظرة متأنية في المرآة العاكسة للمشاهد الخلفية قد نتفاجأ بواقع عاشته الدولة الجزائرية منذ الاستقلال ، والنشاط السياسي والتنظيمي الذي باشره حزب جبهة التحرير كمنظر وموجه ومؤطر للدولة،ومن أجل ذلك اقترحنا سابقا من أن حزب جبهة التحرير دليل دولة ''عنوان مرجعنا السابق الذكر'' والمشار إليه في إحدى الحلقات السابقة. إن المتأمل في هذا الماضي الزاخر والحافل بالحيوية والسعي الحثيث لمناضلي وإطارات المجتمع من اجل بناء الدولة الجزائرية العصرية، يتفاجأ بوتيرة التسابق مع الزمن في تمكين الدولة ومرافقها بأحسن منظومة نظرية في كل مجالات النشاط ،بل قد وصل الأمر إلى درجة الإسراف الشديد أو ما يطلق عليه طغيان الفكر النظري على الفكر العملي، وبعبارة أخرى لقد وصلت عملية التنظيم والتشريع إلى درجة الكمال، ودليلي في ذلك ما كنت اسمعه من حين إلى آخر من أفواه الوفود الأجنبية التي تزور الجزائر في إطار نشاطات حزب جبهة التحرير، أو بمناسبة الأيام الدراسية التي أقمناها في بلادنا أو استدعينا إليها في إطار نشاطات أكاديمية الخ.. فكانت كلمتهم تقريبا واحدة من أن النصوص المنظمة للمرافق والمؤسسات الوطنية والمجموعات المحلية والضابطة لعلاقاتها ونشاطاتها ،هي من أرقى ما توصل إليه العقل البشري في ضبط تقارير الواجبات والحقوق، غير أن مردوديتها لم تكن مطلقا متماشية مع عظمة أحكامها وأهدافها، وكان في كل مرة يعالج ضعف المردودية بتقرير واجبات نظرية أخرى أكثر كمالا من الأولى وهكذا دواليك .. وهذا موضوع قد يحتاج من ذوي الاختصاص بحثه بعمق حتى لا تتكرر تجربة الفشل التطبيقي مرتين وكيفما كان محتوى الجانب النظري لأن المقام يتعلق بدولة وبمسيرة مجتمع كيفما كانت الاختيارات محكوم عليها التغلب على الصعوبات والتحديات والوصول بالمجتمع إلى مصاف الدول المتطورة.. وصفوة القول إن جاز لنا تسمية هذه النتيجة ب: ''مرض العالم الثالث'' بصفة حصرية، وانتشارها النسبي في البلدان المتطورة، والتي تتمثل في عدم الاهتداء إلى أسباب الفشل في مظانه، ولا تتفطن في الوقت المناسب من أنها ليست في النظرية ولا في التعاليم، بل هي في الجزء الذي أهملناه، وهو البحث كما يقال في وسائل الإنجاز البشرية والتنظيمية والمادية والنفسية الخ.. ومن هنا جاء الاهتمام بل وكثرت الدراسات والتخصصات فيما أصبح يطلق عليه بالموارد البشرية كعنصر جوهري وأساسي في كل معادلة تنموية أو فكرية أو نهضة تربوية وعلمية وهذا هو موطن الداء والدواء. واعتقد أن السيد الأمين العام للحزب الأخ عبد العزيز بلخادم قد وضع إصبعه على ما يعاني منه حزبنا في جانبه الفكري والفلسفي و ما يجمع بين رجاله ونسائه ،وخاصة منذ عشرية التسعينات الدامية، وهذا ما سوف تتم معالجته أو سيكون محل اهتمام وعناية خاصة في المستقبل، بناء على ما تسفر عليه نصوص وأحكام المؤتمر التاسع المنتظرة والتي ستجد عنوانها تحت التوجه إلى مؤتمر سياسي وتنظيمي حسب توجهات السيد الأمين العام.. إن اكبر كمال تطمح إليه النظم هو ما يتحقق منها في حياة الناس وليس ما يقرر منها في دساتيرهم أو فلسفاتهم..وهذا هو مربط الفرس من خلال التقاطع الحاصل بين مرجعيات حزبنا وما استعان به الغير من الأحزاب الأخرى بمناسبة تأسيس أحزابهم والتي سوف تجد أوجه الاختلاف في حقيقتها فيما يترجم إلى ارض الواقع بصدق ووفاء، وليس فيما يستعمل لدغدغة العواطف والمشاعر والتفنن في أساليب الدعاية وما ينصح به خبراء المنجم للترويج والتجارة ليس إلا.. وقبل أن أختتم موضوع الحلقة السابعة بودي أن استشهد بما هو قريب من خلاصة الموضوع، وما ذكره احد المؤرخين الكبار للحضارات العالمية من:''..انه ليس من شأن المؤرخ أن يسأل هل هذا الدين أو ذاك النظام هو حق أو باطل، وإنما الذي يسأل عنه هو العوامل الاجتماعية والنفسية التي أدت إلى قيام هذا الدين، والى أي حد افلح في تحويل الوحوش إلى آدميين، والهمج إلى مواطنين صالحين، والصدور الفارغة إلى قلوب عامرة بالأمل والشجاعة، وعقول مطمئنة هادئة، وما مقدار ما تركه بعد ذلك من الحرية لتطور العقول البشرية وما هو أثره في التاريخ'' إن مواثيق حزب جبهة التحرير الوطني ونصوص تقاريرها وبنود مؤتمراتها، قبل التعددية الحزبية والسياسية وبعدها يعتبر ذخيرة قيمة للحزب وللوطن بل وتمثل منبعا متدفقا وليغرف منه من يشاء من أبناء الحزب وأنصاره قولا وعملا ،ولكل المواطنين والمواطنات آدابا ومقالات ،وللطلبة بحوثا ودراسات ، وللأحزاب تقليدا واقتباسات وفي حدود ما تسمح به أحكام قانون الملكية الفكرية، وحقوق المؤلف والحقوق المجاورة.... وللحديث بقية. .../... يتبع