الحلقة العاشرة الأفلان بين ديمقراطية المعمول والمأمول /3- سوف أخصص بعون الله تعالى فصولا فيما يأتي من الحلقات لمناقشة هذا العنوان غير مكتف بحلقة واحدة، أملي في ذلك أن أبرز ما يمكن إبرازه من خصوصية وانفرادية في تحديد هذا المفهوم أو ذاك، تكون قد ترسخت في أدبيات حزب جبهة التحرير الوطني، وبخاصة ما تحصّن منها عبر التجربة والممارسة على مرّ السنين، إن مساهمتي المتواضعة هذه والتي ارتأيت بسطها للاطلاع والتأمل وعلى أوسع نطاق ممكن من الرأي العام المهتم، والمتتبع لما يعرفه الحزب من نشاط، آخذا في عين الاعتبار انطلاقة هياكلنا الحزبية في توفير الجو الملائم للشروع في التحضير المسؤول لإنجاح أشغال المِؤتمر التاسع. إن الديمقراطية الغربية بواحديتها أو بتنوعها كمفهوم متميز تعتبر هدفا من الحركة الدستورية بمفهومها الغربي، من الناحية السياسية يتجه العمل الذي يقوم به المواطنون إلى الحدّ من سلطة الحكام عن طريق إقامة المجالس التمثيلية أو النيابية، والعمل بالفصل ما بين السلطات، ومراقبته لبعضه البعض، وتعميم عملية الانتخابات الخ... ومن الناحية القانونية هناك روابط متينة بين الديمقراطية وخضوع الدولة للقانون. إن الظاهرة الديمقراطية المرتبطة في الأساس بالحركة الدستورية الغربية، يطغى عليها في الوقت الحاضر نوع من الاستقلالية، ويكتنفها نوع من الغموض، وقد أصبح اليوم للديمقراطية عدّة مفاهيم، أبرزها مفهومان: الديمقراطية الليبرالية الديمقراطية التسلطية والديمقراطية الماركسية وقد أجد من الأنسب ولتفادي التعاريف الفقهية السياسية منها والقانونية وما أكثرها في الدراسات والبحوث، أن أتوقف بعض الشيء وبإيجاز عند الوجهين المذكورين وهذا لايغنيني من الميل إلى تعريف قد أجد فيه بعض الشمولية وبعض الكمال. إن الديمقراطية الليبرالية أو الكلاسيكية كشكل من الديمقراطية، تعتبر الحرية فيه العنصر الأساسي، إذ تعطى الحرية في إطاره لكل فرد من الأفراد الذين يشكلون الشعب، باعتبار أن الحرية حسب اعتقادهم هي الضامن لتحقيق أماني الأفراد، وهي مصدر المساواة في الحقوق وهي الجديرة بالحماية المطلقة... أما الحكومة من هذا المنظور فهي تعمل من أجل تطور الشعب بشكل حرّ، وحماية الحرية متصور في مجال العمل الحكومي، وفي مجال العلاقات بين الحكام والمحكومين، فعلى الصعيد الحكومي والبرلماني تضمن الحرية المحمية تعدد الآراء حول كيفية تسيير الشأن العام والمحافظة عليه. وهذا بالضرورة يترتب عليه وجود عدة تشكيلات سياسية، بعضها يمثل الأكثرية البرلمانية وهي المخولة للتعبير عن سيادة الشعب، وبعضها الآخر يمثل الأقلية البرلمانية وتعتبر صوت المعارضة فيه. من أدبيات الديمقراطية الليبرالية أن الأقلية البرلمانية لا تشلّ قواها أو تخضع تماما للأكثرية، بل جرت التقاليد أن الأغلبية تحترم الأقلية، من خلال تنظيم الانتخابات الحرة، وعن طريق الحصانات البرلمانية، وعن طريق الاشتراك النسبي في اللجان الخ... أما على صعيد العلاقات بين الحكام والمحكومين فحماية الحرية ينظر إليها من زاوية التأكيد على حقوق الأفراد بصفتها الضامن لاستقلاليتهم ومساواتهم فيها، وهذا لا يعني حق الأفراد في المساواة في الظروف والفرص، كما سماها ميثاقنا الوطني ذات يوم ب: تكافِؤ الفرص، وسوف نفسر سرّ هذا المصطلح عندما يأتي الكلام على الديمقراطية المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني قبل الدخول في عهد التعددية الحزبية والسياسية، واقتصاد السوق... أما الديمقراطية التسلطية والديمقراطية الماركسية، فهذا الشكل من الديمقراطية يرتكز على السلطة والإجماع في العمل الحكومي،و في نفس الوقت يرتكز على المساواة الفعلية بين المواطنين في علاقاتهم، فهذا هو مفهوم الديمقراطية التسلطية والديمقراطية الماركسية التي أسسها كارل ماركس استنادا إلى ما تصوره وكتبه جان جاك روسو حول موضوع الديمقراطية، ومما ذكره روسو في تصوره عن الديمقراطية في كتاب العقد الاجتماعي، ص ,118 مايلي ''..وإذا أخذنا عبارة الديمقراطية بكل معناها الدقيق نجد أن الديمقراطية الحقيقية لم توجد أبدا ولن توجد أبدا، فمما يخالف النظام الطبيعي أن يحكم العدد الأكبر وأن يكون العدد الصغير هو المحكوم، ولا يمكن أن نتصور بقاء الشعب مجتمعا على الدوام للنظر في الشؤون العامة، ونستطيع أن نرى بسهولة انه لا يمكن إقامة لجان من أجل ذلك دون تغيير في شكل الإدارة..'' لقد تأكد هذا الشكل من الديمقراطية في الاتحاد السوفيتي سابقا، وفي الديمقراطية الشعبية بالنسبة لدول أوروبا الشرقية أيضا، بعدما ضلت الديمقراطية بشكلها الأول مهيمنة طيلة قرن ونصف القرن على أذهان وعقول المفكرين الغربيين حتى تكوّن لديهم نوع من التماثل بين الديمقراطية الليبرالية والديمقراطية الحقة الخ.. إن الثنائية في شكل الديمقراطية الذي أصبح عليه العالم الغربي منذ انتصار الثورة الاشتراكية في الإتحاد السوفيتي عام ,1917 ومن سار بعد ذلك من الدول في فلك الفكرالاشتراكي والماركسي، في كل من أوروبا الشرقية، والعالم الثالث وكثير من الدول العربية من بينها الجزائر كما هو معلوم قد يطرح أكثر من سؤال. من التفاسير التي تمّ الإدلاء بها في هذا الشأن، أن اعتبار الديمقراطية ذات مفهوم ليبرالي إنما أتى من كون أن الليبرالية كانت ذات يوم في المعارضة، فاستعملت آنذاك فكرة الديمقراطية كأداة فكرية لإذكاء النضال ضد الاستبداد، باعتبارها نظام الحرية، فاستعملت عقب نهاية القرون الوسطى، ففي فرنسا على سبيل المثال استهدفت تعابير المثال الديمقراطي، والسيادة الوطنية من أجل تفكيك السيطرة الملكية أيام الحكم القديم في فرنسا بمناسبة اجتماع ممثلي الطبقات الثلاث عام ,1484 وفي القرن السابع عشر، مع العلم أن ممثلي الطبقات الثلاث (النبلاء، الأرستقراطيون، الإقطاعيون والبورجوازيون) في إطار النظام التمثيلي قد اجتمعت ثلاث عشرة مرة في القرن الرابع عشر، وثماني مرات في القرن الخامس عشر، وخمس مرات في القرن السادس عشر، ومرة واحدة في القرن السابع عشر، وكان أول هذه الاجتماعات عام ,1302 بطلب من فيليب الجميل'' ليبل'' للحصول على تأييد الأمة له في صراعه ضد بونيفاس الثامن، إذ تميزت هذه المرحلة بحروب بين السلطة البابوية الروحية والسلطة الزمنية الممثلة في مملكة فرنسا. بلغت نظرية الإمبراطورية البابوية أوجها، وهي النظرية التي قررها القانون الكنسي من قبل، غير أنه في نفس الوقت تغلبت عليها الوحدة القومية التي كانت لمملكة فرنسا، فأخذت معارضة النظرية شكلا جديا واتجاها واضحا يتمثل في الحدّ من السلطة الروحية، وعلى طلب استقلال الممالك بصفتها مجتمعات سياسية مستقلة، وقد اتخذ النزاع بين بونيفاس وفيليب الجميل مظهر جدال بين الطرفين أكثر دقة من حيث تدقيق القضية بطريقة أوضح مما حدث في نزاع سابق وأصبح النزاع محصورا بين ملك فرنسا المستقل في جانب، والبابوية في الجانب الآخر، ولم يبق النزاع قائما بين سلطتين روحية ودنيوية... وهذه المرحلة الحساسة في تاريخ أوروبا الحديثة والتي مهدت للنهضة والإصلاح كركائز للحضارة الغربية وأسست لمفاهيم جديدة بالنسبة لمفهوم الدولة والسلطة والسيادة والتمثيل النيابي هذه الحقبة من تاريخ البشرية تحتاج إلى وقفة مستفيضة قد تعين باقي ما يسمى بالدول التي نشأت عن طريق المحاكاة من معرفة الانطلاقة وأسبابها وخلفياتها ... لقد تفاجأ بونيفاس بأن القساوسة الفرنسيين يقفون في صف ملك فرنسا ضد المنشور البابوي الذي أعلن فيه أن الضريبة المفروضة على رجال الدين باطلة، وقد كان أعظم نجاح صادفه حكم فليب الجميل هو تنظيم المحاكم الفرنسية وبرلمان باريس، وكان آخرها تثبيت النظام الملكي الجديد القائم على المركزية، الذي كوّن أول جهاز للوحدة الوطنية، ومصدرا للحكم الحديث في فرنسا. وجاء النصف الثاني من القرن الخامس عشر بدعم سريع للسلطة الملكية جعل فرنسا أكثر أمة في أوروبا وحدة وتماسكا، ليتكرس بعدها الحكم الملكي المطلق، وانتهت بصفة عامة تجربة محاولات تطبيق النظام التمثيلي تحت وطأة الاستبداد الملكي، وفي بريطانيا كانت تجربة النظام التمثيلي أنجح بواقع وثقافة تختلف. وقد ساعد على ذلك التقاليد المكتسبة عند الإنجليز من استقلال الأقاليم والمدن والتقليد البرلماني الخ..، وهذا ما حدا بالإنجليز أن احتفلوا سنة 1965 بالعيد السبعمائة للبرلمان الإنجليزي لنجاح التجربة عندهم بدون انقطاع منذ القرن الثالث عشر لظروف متوفرة هناك لم تجتمع شروطها في فرنسا الخ.. في الحقبة التاريخية المذكورة أعلاه بدت وظيفة الفكرة الديمقراطية كوظيفة لتحديد السلطة والتأكيد على سيادة الأمة، وعلى الحق في ممارسة السلطة بواسطة ممثليها، أي تحديد سلطة الملك على الأقل. وفي الرحلة الموالية خرجت الديمقراطية من المعارضة واستلمت السلطة، فلم تعد بالضرورة وسيلة تستعمل للمناداة والضغط من اجل تحديد السلطة أو مراقبتها، ومنذ هذه المرحلة وجدت السلطة نفسها مبررة وأكثر صلابة بشكل جديد بفضل ارتكازها على مجموع المواطنين، هذا التفسير وإن أتى على بعض الحقيقة كواقع تاريخي مدوّن، إلا أنه يبقى ناقصا وغير كامل في تبرير المفهوم الديمقراطي الليبرالي من زاويته التاريخية، مع ما يضاف إلى ذلك من أن بعض الديمقراطيات الليبرالية مازالت قائمة إلى يومنا هذا بعد أن حدد النظام الملكي أو ألغي نهائيا في بعض الدول. أما بالنسبة للتفسير الثاني فيعود إلى عشرينيات القرن الماضي وهو عبارة عن دراسة فقهية وقانونية للعميد جورج فيدال، وعنوانها: ''هل هناك مفهومان للديمقراطية'' تضمنها كتابه الموسوم، تحت عنوان، الموجز في القانون الدستوري. يرى المؤلف أن الإيديولوجية الكامنة في أساس الديمقراطية هي واحدة، وتتمثل في الحرية دون غيرها، والنظام الديمقراطي مهما كان نوعه ليبراليا أو ماركسيا، هو نظام يهمه تحقيق الحرية، إلا إن الحرية في ذاتها هي مفهوم مركب ومعقد. فمفهوم الحرية على المستوى الفردي يتلخص في القدرة المتاحة في أن يحدد الفرد سلوكه وطريقه بنفسه دون أن تتدخل في ذلك الضغوط الخارجية، أما مفهومها على المستوى الجماعي فننظر إليه من خلال المجتمع السياسي، فيكون هذا المجتمع حرّا إذا تولى مجموع أعضاء الجماعة تحديد تصرفاتهم الجماعية. وتبقى مفاهيم الحرية في نظر المؤلف ولو تعددت إلا أنها في نفس الوقت متكاملة ومتنافرة، تظهر صورة التكامل باعتبار الإنسان اجتماعي بطبيعته، وبحكم اضطراره إلى العيش في المجتمع وهو في ذلك مجبر، ولكي يحافظ على حريته واستقلاله الذاتي، عليه أن يزاوج بين حريته واستقلاله، وبين ما تفرضه عليه الجماعة باعتباره جزءا منها، من اكراهات أو حدود، وفي هذه الحالة نكون أمام اختيارين، إما أن نقبل بمجتمع تعددي، مركب، مجتمع لا إجماع فيه تسود فيه التسويات، أو نعمل على إقرار الإجماع فيه... يتبع