يقول الزعيم مانديلا إنه لا يستطيع تحديد اللحظة التي تحول فيها إلى السياسة بدقة، ولا اللحظة التي قرر فيها أنه سيكرس بقية حياته للنضال من أجل التحرير، فأن يكون المرء إفريقيا في جنوب إفريقيا يعني أنه يولد متسيّسا سواء أراد ذلك أو لم يرد. في هذا الفصل من كتاب الزعيم مانديلا ''رحلتي الطويلة من أجل الحرية''، وتحت عنوان ''النضال حياتي''، يقول إنه عندما انعقد المؤتمر العام السنوي لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي في ديسمبر 1952 شهد تغييرا كبيرا على مستوى القادة، فاختار المؤتمر رئيسا جديدا أكثر حيوية ليقود الحزب، وهو الزعيم القبلي ألبرت لوتولي ALBERT LUTHULI، كما أصبح مانديلا بصفته رئيسا لفرع الحزب في ترانفسال وبناء على دستور الحزب الواحد من أربعة نواب للرئيس تم اختياره هو من طرف اللجنة التنفيذية العامة للحزب النائب الأول للرئيس. كذلك يقول مانديلا إنه وقف كثيرا إلى جانب الزعيم لوتولي، رغم أنه لم يتمكن من حضور المؤتمر القومي لأنه كان واحدا من بين اثنين من زعماء الحركة من مختلف أنحاء البلاد، ممن صدرت بحقهم قرارات حظر قبل موعد المؤتمر بأيام وتم منعه من حضور الاجتماعات واللقاءات لمدة ستة أشهر. وهكذا قيدت حركته بموجب ذلك القرار داخل جوهانسبورغ، وكان هذا الحظر من أجل كبت أصوات قادة الحركات التي تناهض التفرقة العنصرية واضطهادهم وتعطيل نشاطهم، كما كان بداية لسلسلة من القرارات المشابهة تخللتها فترات قصيرة من الحرية تواصلت على مدى سنوات حتى حُرم من حريته بالكامل. يؤكد مانديلا أن الحظر لا يكبل المرء بدنيا فقط ولكنه يحجر على روحه وأفكاره ويولد لديه شعورا بالضيق النفسي. لا يجعله يحن لحرية الحركة البدنية فحسب بل إلى الحرية الروحية كذلك. وكان الحظر لعبة خطرة لأن وسائل العزل والتكبيل لم تكن السلاسل والاغلال والقضبان، بل القوانين والتشريعات التي يمكن مخالفتها والخروج عنها بكل سهولة، حيث كان مانديلا يفعل ذلك إذ يختلس فترات قصيرة من الوقت ليحس فيها مؤقتا بحرية وهمية. ولعل أخطر آثار ذلك النوع من الحظر أن المرء يصل في لحظة معينة إلى الايمان بأن مصدر الظلم لم يعد في الخارج بل في داخله هو نفسه. قال مانديلا أيضا إنه، ورغم حرمانه من حضور المؤتمر السنوي لعام ,1952 إلا أنه بلّغ بكل التفاصيل والقرارات عقب انتهائه مباشرة. وبهذا نشأت لديه قناعة بأن الحكومة ستقدم على إعلان حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وحزب المؤتمر الهندي لجنوب إفريقيا منظمتين غير شرعيتين، كما فعلت بالحزب الشيوعي، حيث أن اتجاه الدول إلى حظر نشاط الحزب في أقرب فرصة يبدو أمرا حتميا لا مفر منه. لذلك بادر مانديلا باقتراح على اللجنة التنفيذية وضع خطة بديلة لمواجهة هذا الاحتمال، وأكد أن تقصيرهم في اتخاذ إجراء من هذا القبيل سيكون بمثابة تخل منهم عن المسؤولية كقادة للشعب. وبهذا واصل مجهوداته ونشاطه وأسفر عن شيء اسمه ''خطة مانديلا'' أو ''الخطة المميتة''. كانت الفكرة الأساسية للخطة هي توفير التركيبة التنظيمية التي تمكن الحزب من اتخاذ قرارات على أعلى مستوى وتبليغها للقاعدة ككل دون الحاجة إلى عقد اجتماعات، وبمعنى آخر توفير العناصر اللازمة لأن يواصل الحزب العمل كتنظيم للحضور وتمكين قادته الممنوعين من الحركة أن يواصلوا مزاولة مهامهم القيادية. كما وضعت ''الخطة المميتة'' بحيث تسمح للتنظيم بتجنيد أعضاء جدد والتجاوب مع القضايا والمشاكل المحلية والقومية والمحافظة على الاتصال المستمر بين القاعدة والقيادة السرية. يقول مانديلا إن ''الخطة المميتة'' ولدت في جو حسن النية وسلامة القصد ولكنها طبقت بنجاح محدود ولم يتبناها جميع فروع الحزب، ولكن مع استمرار حملة التحدي تم تبني الخطة المميتة كاملة من طرف أعضاء الحزب كوسيلة لمواصلة تحديهم للحكومة وسياستها. وتوازيا مع هذا كله كان مانديلا الزعيم يتأهل ليلتحق للعمل كمحامٍ بمكتب Hm Basner الذي كان عضوا ممثلا للأفريقيين في مجلس الشيوخ، وهو من طليعة أعضاء الحزب الشيوعي ومن أقوى المناصرين لحقوق الإفريقيين، وواصل ذلك التربص حتى العام 1952 حيث فتح مكتبا قانونيا خاصا، وكان الأفريقيون في حاجة ماسة إلى مساندة القانون عند استخدام المباني الحكومية، فقد كان الدخول فقط من الباب المخصص للبيض يعد جريمة!! هذا ما جعله يدخل في معارك كثيرة بفضل عمله كمحامٍ من أجل الدفاع عن العدالة والحرية والمساواة بعيدا عن قاعدة السود والبيض. تابع....