و هكذا تعمل الأبدية أخيرا على تغيير ذاته و يرفع الشاعر خنجرا مجردا في هذا العصر المفوع الذي لم يعرف ان الموت منتصر في هذا الصوت الغريب - مالارميه- في أفق قصائده المجنونة كان فردوس الشاعر يكبر في معاناته محاطا بهالة من القدسية يصنعها صراع عظيم يتولد عن الذات. هذه الأنا المشوشة بأحلام الطفولة تقوده بلا شعور الى تحقيق احد الأمرين الحب او الموت . وعلى هذا النسق المحمول فوق عوالم مجهولة تلد قصائده كبريق متفان يسقط فوق بركة غير مسماة . تلك التي تعكس صفحتها ظلالا بهية لفردوسه الذي دعاه ''شبيبة''، تنحدر من ذاته لكي تصير عالمية التجلي. فلا غرو ان تتجدد الأسماء النوبلية في بلد كإسبانيا بحصول الشاعر بيثنتي الكسندري على الجائزة العالمية و كانت نوبل للآداب لسنة 1977 جائزة أندلسية بامتياز و كان قبله الشاعر'' خوان رامون خيمينيث'' حصل عليها سنة 1956 و امام هذين العملاقين لا تقل شهرة شاعر مثل فديريكو غارسيا لوركا و لا مانويل دي فايا الرسام و لا حتى رافائيل البيرتي ... و كورس آخر أسس ذات يوم لجيل أدبي أرخت له الآداب الإسبانية خاصة و الآداب العالمية عامة و حفظت له امتنانا و تقديرا عظيمين. كان بيثينتي الكسندري واحدا من جيل 1927 وظل منفردا بطريقته الشعرية، فإذا كان لوركا يقول عن نفسه'' إنني الظل المديد لدموعي'' فألكسندري يقول هو الأخر عن نفسه '' انني بريق لا يعرف التفاني ، كالغبار على الشفاه''. اسمه الكامل فاينست بيثنتي الكسندري بنطق مخارج اللغة الإسبانية، واحد من أعظم شعراء اسبانيا بعد فديريكو غارسيا لوركا ولد سنة 1900 بمدينة اشبيليا، ويقودنا المقال الى البحث عن طفولة الشاعر المثخنة بالطبيعة وتباريحها هنالك في اشبيليا حيث سهولها الفاتنة تعانق صخب البحر المزبد، الأمواج تتلاطم في عالم الشاعر الداخلي الذي أخذ يتكون شيئا فشيئا في زخم هذه الإرتطامات التي تمخضت عنها رومانسية هادئة في شكلها، وحادة في عطاءها ستتحول مع مرور الزمن الى رموز سريالية بعيدة الغور في الروح و الذاكرة ، هناك حيث الظلال ، كان الشاعر مستلقيا ، يحلم بنهر جار و بأسل خضراء الدماء تولد في اللحظة ، و بحلم متكئ على قلبه و حياته ، كان هذا حلم الطفولة ذاك الذي اقترن بمدرسة الراهبات بمالقة- التي دخلها في طفولته حيث تلقى فيها قواعد الإنسان الملتزم ... وخرج منها بعد مدة شابا يافعا يلفه هدوء الراهبات فانطبع بطبعهن و شب رزينا رزانة مصبوغة بوقار، وقد أثرت كل هذه الصفات على شخصيته فانطلق الرجل في رحلة الشبيبة منغلقا على نفسه ، فكان قلما يبوح بأشيائه الخاصة للآخرين فتراكم صمته وما انفك ينبئ بعظمة فذة ، لكن لا يلبث و أن تتدهور صحته في أوائل سنوات مراهقته فقصد مصحة ميرافلورنس- للاستشفاء أين وجد هناك الجبال عاليات مكسوة بثلوج بيضاء ناصعة . جيل 1927 من الرومانسية السوداء الى ميلاد السريالية المجنونة: كان جيل 1927 انقلابا حقيقيا على الملل الذي أصاب الحياة الأدبية في اسبانيا حيث رافق هذه الثورة أحداث تغيير واضح لضرورة اعادة النظر في لغة الشعر المألوفة آنذاك الملفوفة في رومانسية بيكّر- الغارقة في حنينيات ذائبة، وكان لا بد من مراجعة المفهوم العملي المتعارف عليه للمذاهب الأدبية السائدة في تلك الفترة، فبعد الأثر الذي تركه المذهب الرومانسي والكلاسيكي وقفت النخبة الأدبية في اسبانيا على اكتشاف لا تحده حدود، نحّى عن كواهلهم معاناة سنوات من الركود لا سيما بعد خفوت الصوت المنقطع النظير لجيل 1898 بقيادة الأديب الفيلسوف ''ميغال دي اونامونو'' والسائر الشهير آثورين- وأنطونيو ماتشادو- صاحب ديوان '' أغاني قشتالة'' ... و غيرهم . حيث حضر الشاعر الفرنسي الكبير ''لويس آراغون'' الى جامعة اسبانيا وفي حقيبته أوراق محاضرة عن السريالية ، القاءها يوم 18 أفريل1925 على مسامع طلاب جامعة الأدب والفلسفة بمدريد وكان فيهم الشاعر الكسندري رفقة طلاب آخرون أمثال : لوركا ودالي، و دامسو النسو ولويس ثرنودا... حيث كانت المرة الأولى التي يستمعون فيها الى بحث ثري ومنظم عن السريالية كمذهب أدبي متميز و نابض بأشياء خارقة رمت الدهشة في نفوسهم و كانت المحاضرة مناسبة مواتية أصبح يؤرخ بها الى دخول المذهب السريالي الى اسبانيا و قد ترك هذا الإكتشاف انطباعا خاصا لدى جموع الأدباء الإسبان ، ففي سنة 1931 كتب لوركا ديوانه المشهور '' شاعر في نيويورك'' المفعم بالسريالية و في السنة التالية 1932 كتب الكسندري ديوانه الموسوم '' سيوف كشفاه'' أما دالي فاتجهت موهبته الى الرسم مع انفتاق شبيبته المبكرة و ادى احتكاكه بالسريالية الى نيل لقب رائد السريالية بامتياز اذ اعتبرها فضاء مفتوح للتعبير عن مخزون اللاشعور في الذات . معادلة '' الحب أو التحطيم في شعر بيثنتي الكسندري : في هذا الخضم المتألق انفرد بثينتي الكسندري بنمطية تبني السريالية كمذهب على نحو يفك به الغازه الدفينة ، النابعة من تجربته المضنية مع الحب والموت وهو بتالي يصور معاناته الشخصية المرصعة بآلالام غامضة '' لا مفهومة أحيانا'' ليس لها من تفسير سوى احتراق الإنسان في داخله المجهول ، لكنه على الأقل استجاب لداع الحب الذي أدى به الى اعلان مسيرته لتكسير لغزه المحيّير الساكن في ثنايا الروح وفي أقصى نقطة منها ، لكنه في كل مرة كان يعود كسيرا مهزوما لأنه اكتشف ان الطريق مسدود ... مسدود . أحس انني يدا من فولاذ تمسح على السندس أني ، قلب خفّاق ، أني لعبة منسية أحس أني خفقات ، مبرد ، قبلة أو زجاج أو زهرة من معدن عديمة الإحساس تمتص من الأرض السكون والذاكرة كان الكاتب الفرنسي '' اندري جيد'' يردد مقولته المعروفة في كل مرة يبقى محتارا بين نفسه القائلة : '' اني لا احب الإنسان بل احب ما ينهشه من الداخل'' وفي سياق البحث عن المجهول في انساب الروح التوّاقة ابدا للحظات الحب بتلقائية مجنونة أحيانا و غامضة أحيانا أخرى ، كان الكسندري دائم الترحال يبحث عن ذلك الشيء الذي أضاعه في يوم من أيام حياته الهادئة و هاهو يعود اليوم لينغّص عليه وجوده ... كان حبا كبيرا لم يعرفه انسان قط : لقد كان زمن الزفرات الطوال الذي لم تعرف فيه الأطيار فقد أرياشها عهد النعومة و الأزلية عهد لم يعرف الصدر فيه غيظ تتكون الرؤى في مخيلة الشاعر وتتمايل الذكريات مخلفّة ظلالا بهية ويؤول الحلم القديم إلى ألم يتسرب في الذات المعيشة وبشيء من التيهان ، يفقد البحث نكهته ويذوب المطلوب ، يتلاشى مع إول خيط أسود يغزو روح الشاعر المرهفة التوّاقة دوما الى حياة هادئة، ثم لا يلبث ان يأخذ الصوت ذاته في التلاشي الى حد الموت . إن المرض الذي باغت جسد الشاعر في بداية شبيبته حطم كل آماله، ومن صدره الندي طارت فراشات السعادة ، سوداء . طارت الى مكامن دفينة في اللاشعور ... رحلت '' هناك حيث لا يعرف البحر لغة التهديد ، هناك ... بعيدا غودر ذاك السكون ، كغمغمات غرقت في صفعة'' ديون ''سيوف كشفاه'' و يظل الحلم يغرق و طير البراري ينزف ألما برحابة صدر، و هو يغمغم سعيدا، كان يريد لشيء ما بداخله أن ينتصر ، إن يرفرف محلقا نحو سماء ، الحب او الموت ! لكن أي نوع من الحب ذاك الذي يصارع لأجله شاعرنا ، أي حب هذا الذي يسيح في عوالم لا تعرف الراحة برغم الغمة والمرض ، حب يختلط فيه الأمل بالإحباط ، الحياة بالموت . لكن الجواب عند الشاعر نفسه لما نسمعه يقول '' حب الكسندري ، هو ذاك القيثارالغجري الذي طالما تشوق للتعبير عن زفراته ، انه حب كلما غامرت فيه بالكلمات الا وتعطلت المساحات عن قبض روحه'' ... األا ايها الحب ، ألا أيها الحب ان كآبتك العمياء ورفعة مجدك ، يحطماني . الا ايها البريق المتوحد ، أيها الجسد المسجى في الأعالي. وفي غمرة الإعتراف المنفتح على تداعيات أصيلة ، يتحول الحب عند الكسندري الى حالة إغماء : خبرني ، خبرني من أنت ؟ من يناديني ؟ من يحدثني ؟ من الصارخ ؟ خبرني من هذا المبعوث البعيد الذي يستغيث ، أي نحيب اسمعه أحيانا لما نصير دمعة ؟الى هنا يطرح الشاعر كل التساؤلات ليصنع احتمالاته اللانهائية في غمرة بحثه المضني : هل يمكن ان نقول ان الحب تحوّل عنده الى مشكلة ميتافيزيقية؟ كيف وقد عرفت قصائده في هذا اللهب الذي دعاه '' الحب'' واحترق في ناره بل تجاوزه الى طريق غامض تمثل في '' الموت'' او كما عبر عنه الكسندري في أشعاره بعبارة '' التحطيم'' واراد ان يجعل من قفزاته الغرائبية تمائم يعلقها على أياويم الزمن المر ،و كما هو معروف نجد في أغلب الشعر عنصر '' التميمة'' و في الشعر الرومانسي قدر كبير منه لكن الكسندري مثله مثل '' ادغار الان بو'' يستخدم هذا العنصر بطريقة خاصة و يشتركان في خصوصية التداعي و الإثارة ، فالكلمات لها من الأهمية أكثر مما تحمله من معاني فإدغار الان بو عرف هو الآخر '' الحب'' و حاول ان يكشف سره ولكي يصل الى مراده .. يبدأ في التحدث عن معنى الراحة المطلقة الكاملة والخلاص من متاعب الحياة ، لقد كان يتمنى الموت من أعماقه : شكرا لله ان انتهت الأزمة أن انتهى الخطر وأن انتهى المرض المزمن أخيرا وأن هزمت أخيرا الحمى التي كانت تدعى ب ''الحياة'' قصيدة الى آني لإدغار آلان بو. لقد وجدت الروح سكينتها و'' بو'' يصور ما يعنيه تماما ، فمثله الأعلى في الحب لا يتحقق الا بعد الموت ، لكن لماذا الهروب من الحياة بهذه الحماسة والإندفاع؟ ان أغلب الشعراء الرومانسيين تناولوا فكرة الموت باعتباره تجسيدا لحياة جديدة ، الموت بالنسبة لهم ليس نهاية بل بداية و لطالما بلغت زفرات '' ييتس'' على '' الموت المريح'' او رغبة ''شيلي'' في ان يتسرب الموت اليه كالنوم ... لقد اراد الكسندري ان يتجاوز الحياة الى حياة أخرى تجعله يتطلع الى الحب بأتم معانيه ، حب يجعله يشك : ]...لما تكون الشفتان على الشفتين أشك ولا أفرق هل الحياة نسيم أم دماء ؟، شفتاي على شفتيك وأنا استنشق لهيبك الذي حطمني ، شفتيّ على شفتيك تجعلني ضياء يتلاشى أو شعلة تتقد في الضياء.[ ان المثل الأعلى الذي يكسب الواقع التافه المؤلم معنى لم يكن ليوجد في هذه الحياة فكان عليه ان يبحث عنه من وراء القبر : تعال ، تعال أيها الموت ، تعال أيها الحب تعال باكرا ... تعال لأحطمك تعال أنني أريد الموت أو العشق أريد الموت كي أمنحك كل شيء و من بعيد سنسمع أجراس الشاعر ترن شجية ، ثم تأخذ في التضاؤل مع حلول العشية الباردة تحاول بلوغ آفاق مسكونة ، لتستنشق الفجر و لو من تحت التراب !