من غير المعقول أن تظل الأحزاب في الجزائر مجرد كيانات جامدة، وهياكل لصراعات ظاهرة وخفية، صراعات ليست حول البرامج والمناهج، ولا حول الرؤى والتصورات واقتراح البدائل المناسبة في الأوقات المناسبة، ولكنها صراعات حول تموقعات مصلحاتية لأشخاص ومجموعات لا يجمع بينها إلا الأقدمية وطول الأمد. الحزب السياسي لا يمكن أن يكون بغير فكر متعمق ومتجدد، متعمق من حيث الوعي بسيرورة الأحداث التاريخية ونتائجها وانعكاساتها وآثارها على المجتمع، وبذلك يكون مخبرا للحياة بكل ما فيها وفي جميع الحقول المعرفية، وهذه السيرورة لا يقدر على تتبع جزئياتها ودقائقها إلا أهل الاختصاص، وهو بذلك في حاجة لا يمكن الاستغناء عنها للمفكرين والعلماء والباحثين وفي كل الميادين دون استثناء، حتى تتكون النظرة الشمولية لمجتمع مبني على أسس علمية ثابتة. والحزب يجب أن يكون متجددا من حيث الوعي التام بالاستشراف والقدرة على الاستنتاج والتوقع، وهو بذلك أيضا في حاجة لا يمكن الاستغناء عنها للخبراء وأهل الرأي والقادرين على الإسقاط والتنبؤ، ومن هذا التعمق والتجدد يمكن للحزب أن يرسم المعالم الكبرى والأهداف القريبة والبعيدة والتي تسمى ''البرنامج العام''. ومن البديهي أن تكون لهذا البرنامج مرجعيات ومنطلقات ومنها تحدد الأهداف والمعالم والمرامي، وهنا مكمن الاختلاف بين الأحزاب، لأن المنطلقات والمرجعيات هي التي تكوّن القناعات، وترسم منحنيات التصور للمجتمع الذي يراد بناؤه. إن النضال داخل الأحزاب لا يمكن أن يكون نضالا بغير هذا التصور، بل من خلاله يتم اختيار المناضلين، المؤمنين بالبرنامج العام، والمستعدين للعمل والتفاني بغية تجسيده على أرض الواقع. إنه لا يمكن أن نتصور حزبا بغير فكر متميز، كما لا يمكن أن نتصور فكرا يبقى بين طيات التنظير، بعيدا عن التطبيق الميداني من قبل مناضليه، وإذا ما تحول الحزب إلى مجرد كيان وهيكل يجمع المتناقضات المتصارعة، سواء من حيث المرجعيات أو من حيث الأهداف والمرامي، فيمكن ساعتها أن نسميه أي شيء إلا أن يكو ''حزبا'' الدولة العصرية لا يمكن تصورها بغير ديمقراطية تقوم على مبادئ حديثة، والديمقراطية لا يمكن تحقيقها في غياب أحزاب حقيقية تقوم على عنصرين أساسيين لا بد من توفرهما ''البرنامج - المناضل'' - فهل الأحزاب في الجزائر تمارس وظيفتها التي أنشئت من أجلها؟ - وهل هي قادرة على صياغة برامجها وفق منطلقات ومرجعيات تميزها عن غيرها؟ - وهل هي قادرة على أن تجعل من مناضليها أصحاب قضية ورأي، لا همّ لهم إلا تحقيقه وتجسيده بعيدا عن صراع التموقع والمصلحة؟