النفاق والمداهنةَ أخلاقٌ مذمومةٌ، وهي وصف الإنسان بما ليس فيه تملقا، كأن تلقى الظالم فتقول: يا عادل، أو يا أعدل الناس، أو تلقى الفاسق فتقول: يا أصلح الناس، فهذا من النفاق الذي حرمه الله تعالى، وهذا من المداهنة الني نهانا الله عنها. المدار اة المحمودة أما المدار اة المحمودة فهي حسن اللقاء، وطلاقة الوجه من غير تصويب الخطأ أو الرضا بالباطل، يعني إذا لقيت إنسانا فتبسمت له أو حدثته بما فيه من الأمور الطيبة، وتجاهلت ما سوى ذلك، فهذا من المداراة ومن حسن العشرة، ومما يعين على قبول النصيحة. وعامة الناس من أمثالنا يحبون أن يسمعوا وأن يروا من الناس ما يريحهم، وهذا من المداراة. كان الرجل الفاسق يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيلين له القول، من غير أن يمدحه بما ليس فيه، كما أخرج الشيخان من حديث عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلاً اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: «بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ». فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا؟ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ». لكن هل تتصور أن النبي في ليونة القول يضيع حقوق الله؟! قطعا لا يمكن ذلك، بل المتصور أنه صلى الله عليه وسلم ربما سأله، كيف حالك؟ كيف تركت أهلك؟ كيف أمورك من بعدنا؟ لعل الله قد أنعم عليك بعافية، إلى غير هذا من الكلام الطيب اللين، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ألين الناس كلاما، وأفكه الناس حديثا، وأحسن الناس مجالسة، وأطيب الناس عشرة، لا يلقى أحدا إلا تبسم إليه، فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح من حديث جَرِيرَ بن عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قال: «مَا رَآنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت إِلا تَبَسَّمَ في وجهي». لقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم أعداء كثر، من كل الأصناف، ومع ذلك لم يكن صلى الله عليه وسلم يطيل لسانه فيهم، وإذا جاءه أحدٌ منهم، أحسن لقاءه والكلام معه، وربما ذهب صلى الله عليه وسلم بنفسه إليه، كما كان يذهب إلى عبد الله بن أُبَيّ بن سَلُول وهو يعلم ما في قلب عبد الله من الحقد عليه، والقرآن وصف عبدَ الله بن أُبَيٍّ بأنه تولى كبر حادثة الإفك، ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطبه «يا أبا عبد الله» وربما ردَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بسوء أدبٍ، ومع ذلك يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من التعرض له. وكان الكافر يأتيه صلى الله عليه وسلم يساومه على دينه فيخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بكنيته كما حدث مع عتبة بن ربيعة حين جاءه يساومه على ترك الدعوة للإسلام وقال له: اسمع مني أعرض عليك أمورا لعلك أن تقبل منا بعضها. فقال صلى الله عليه وسلم :«قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعْ»، فعرض عتبة رأيه الممتلئ بالسخف وسوء الأدب ومن ذلك قوله: إِنَّا وَاللهِ مَا رَأَيْنَا سَخْلَةً قَطُّ أَشْأَمَ عَلَى قَوْمِكَ مِنْكَ، فَرَّقْتَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَ أَمْرَنَا، وَعِبْتَ دِينَنَا، فَفَضَحْتَنَا فِي الْعَرَبِ!. إلى آخر ما عرضه على النبي صلى الله عليه وسلم من المال والملك والنساء وطلب العلاج، والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت يسمع لهذا السخف، ثم قَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَفَرَغْتَ يا أبا الوليد؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاسْمَعْ مِنِّي يَا أَبَا الْوَلِيد». ثم قرأ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ...» حتى انتهى، ثم قال: «قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ فَأَنْتَ وَذَاكَ». فانظر كم مرة كناه النبي صلى الله عليه وسلم «أبا الوليد»!. فهل هذا من النبي صلى الله عليه وسلم نفاق لعتبة بن ربيعة؟! لا، إنما هذا من حسن معاملة للناس، وهو ما امتاز فيه النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الخلق. المداهنة المذمومة المداهنة المذمومة: أن تصف الإنسان بغير ما فيه من الخير إذا لقيته، وبأسوإ النعوت إذا غاب عنك، وشر الناس ذو الوجهين الذي إذا لقيك وصفك بكل المحاسن، وإذا أدرت ظهرك أتى بكل القبائح، فيقبل عليك بوجه محب ويدبر عنك بقفا مبغض، هذا هو الممنوع المذموم. أما حسن معاملة الناس وحسن استقبال الناس، وكلام الناس بالمعروف، ومعاملة الخلق بطريقة طيبة، فهو من المداراة المحمودة. دارِ من الناسِ ملالاتِهِمْ من لم يدارِ الناسَ ملُّوه ومُكرِمُ الناسِ حبيبٌ لهم مَنْ أَكْرَمَ الناسَ أحبُّوه لو أن الله كشف عيوب بعضنا لبعض ما أطاق الواحد منا أخاه، ولما تعايشنا، إنما نتعايش بالمجاملة، وبالمداراة وبحسن اللقاء، ولو كانت للذنوب روائح ما أطاق إنسان إنسانا، إنما أُمِرْنا أن نتعاشر بالمعروف، وأن نتلاقى بطلاقة الوجوه، أخرج مسلم من حديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ». وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو يعلى بسند فيه ضعف: «إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ» وفي رواية البزار «وَحُسْنُ الخُلُق». نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا إلى حسن العشرة على الوجه الذي يحب ويرضى، وأن يسترنا بستره الجميل، وأن لايفضحنا بين خلقه في الدنيا ولا في الآخرة.