لم تعد ظاهرة الحرقة بوهران تقتصر على أولئك الشباب المعوزين الذين حاصرتهم حياة الفاقة والغبن من كل صوب وحدب، فقرروا شق عباب البحر على متن قوارب الموت لبلوغ الضفة الأخرى، بل حتى أولئك الذين ينتمون إلى عائلات ميسورة ومتخمة أرصدتها بالملايين، وكذا أولئك الذين يتقلدون مناصب راقية في المجتمع، أضحى أبناؤهم مهووسين بركوب أمواج البحر وخوض مغامرة بحرية لا يعرفون عواقبها. لا يزال سكان المنطقة الصناعية ببطيوة -50 كلم عن وهران- يروون بدهشة واستغراب معا، قصة أحد الحراقة الذي ينتمي إلى عائلة ثرية جدا، متسائلين عن الدافع وراء إقدامه على المجازفة بحياته والإقلاع في رحلة الموت طامحا في بلوغ إسبانيا، فوالده رجل أعمال معروف بالمنطقة، وفّر لولده الحراق كل إمكانيات العيش المترف التي تغنيه عن خوض تلك المغامرة البحرية، السيارة فارهة من آخر طراز، الفيلا فسيحة، والرصيد مملوء بملايين السنتيمات...، لكن الشاب عقد العزم على تنفيذ مشروعه الذي كاد أن يلقى حتفه بسببه، فالرياح لم تمش بما يشتهيه الحراق الميسور رفقة أصدقائه الذين أقلع رفقتهم في جنح الليل من شاطئ '' كريشتل '' على متن قارب صيد، تعطل بهم في عرض البحر، ساعات فقط على انطلاقهم في تلك الليلة الحالكة التي كانوا فيها قاب قوسين أو أدنى من الهلاك، نظرا لتلك الأمواج العاتية التي راحت تقذفهم ذات اليمين وذات الشمال وهم متشبثين بقاربهم الهش الذي لم يقو على مقاومة البحر الهائج، الذي أنهك قواهم، لكن من حسن حظهم، تدخلت إحدى السفن الإسبانية المختصة في نقل المحروقات التي رصدت قاربهم على بعد أميال، فهرعت إلى نجدتهم، علما أنها وجدتهم في حالة صحية ونفسية يرثى لها. هي عينة فقط من القصص الدرامية بعاصمة غرب البلاد، لشباب سئم العيش في بلد العزة والكرامة المفقودتين، فراح ينسج المخططات من أجل معانقة سراب الضفة الأخرى، التي حملت المآسي لعائلات الحراقة التي لم تكفكف دموعها بعد، بسبب فلذات أكبادها الذين رُدوا إليها على ظهور النعوش.