حظيت مؤخرا بالمشاركة في فعاليات المهرجان الوطني للشعر الفصيح التي احتضنتها ولاية الوادي ونشطها جمع من الشعراء يمثلون مختلف جهات الوطن، فكانت فرصة لي لإلقاء القصيدة المذكورة أسفله. وجاءتني الاصداء متباينة بين معجب و محبط. والذي حرك مشاعر الأول وأحزن الثاني عدم اتفاقهم على مدى توفر الشعرية في النص و الصورة الشعرية كما هو معلوم اُختلف فيها بين القدماء و المحدثين. فالقدماء نظروا إليها على أنها توافر التشبيه و الاستعارة و الكناية في النص مع غلبة التشبيه إلى غاية القرن 5ه حيث مالت الكفة إلى الاستعارة. والدراسات أثبتت ذلك كالدراسة التي قدمها د/ عبد القادر الرباعي بين نصوص تلك المرحلة: الشاعر عدد الأبيات المدروسة نسبة التشبيه إلى الاستعارة امرؤ القيس 251 50 إلى 20 الفرزدق 281 10 إلى 10 مسلم ابن الوليد 251 10 إلى 30 أبو تمام 951 10 إلى 60 أي أنهم اعتمدوا على التعبير غير المباشر لأحاسيسهم و مشاعرهم وآرائهم في الموت والحياة والأرض والانتماء ... باستعمال كلام يقرب المدرك المعنوي من الأذهان والفهم بالصور المادية المحسوسة. مثل قول النابغة الذبياني في اعتذاراته للنعمان بن المنذر: فإنك كالليل الذي هو مدركي و إن خلت أن المنتأى عنك واسع. فلقد شبه الشاعر استحالة الهروب من الملك، لأن هربه منه هو في الحقيقة يشبه الهارب من الليل مخافة أن يدركه والأكيد أنه سيدركه. و قول المتنبي: من يهن يسهل الهوان عليه **** ما لجرح بميت إيلام. هذا تشبيه آخر و من عصر آخر. حينما تطورت الذائقة الأدبية و تغيرت عوامل الثقافة فجعل التشبيه مركب بين حالتين طرفها الأول: من تعود الذلة و الخنوع. الصعوبة فيها أول الأمر ثم يليها التعود بالتمادي حتى تصبح طأطأة الرأس و إيثار السلامة أهون من وخز الشوكة. كما هو الحال للجرح الميت يألم بدء ثم كأنه غير موجود. و نجد من الاستعارة قولهم: فأمطرت لؤلؤا من نرجس و سقت **** وردا وعضت على العناب بالبرد فلاحظ أنه استعار اللؤلؤ للدموع والنرجس للعيون والورد للخدود والعناب للأصابع المحنأة والبرد للأسنان. لو جمعنا الصورة النهائية لوجدنا وجها جميلا تتدحرج على خد بلون الورد دموعا كاللؤلؤ، من عيون واسعة كالنرجس، وتعض بأسنان شديدة البياض على أصابع محمرة بالحناء. فكان تركيب البيت رهيبا.ومثال آخر: و إذا المنية أنشبت أظفارها*** ألفيت كل تميمة لا تنفع. استعار للموت أظفارا و جعله وحشا لا تنفع معه ''الحروز'' التمائم لتدفعه و تمنعه عن الأحبة. أما عند المعاصرين فالصورة الشعرية تختلف بعض الشيء في مفهومها و لكنها باقية معتمدة على اللبنات السابقة، فهي الخيال و ليكون لا بد له من استعارة و تشبيه و مجاز... ربما لخصت سانتا يانا فكرة الخيال بقولها: ''الفن للقلب و الخيال'' فهده الكلمات الثلاث المختصرة تقول بأن الشعر من القلب والخيال آلة تصويره ليكون حيا. فالفرق بين الشاعر وغيره ليست المشاعر فكل الناس تغضب وتحزن وتكره وتحب وتتألم وتحبط... لكن ما يميز الشاعر أنه يجسد كل هذا في صورة شعرية جميلة تطرب لها الأذن. ولعل هذا السبب الذي جعل نظرية الشعر الحديث تهتم للصورة التي هي مولود الخيال، والتي تعطيه دفقات حياتية. فالصورة الفنية هي مولود نظرا لقوة إيجاد هي الخيال. و الخيال نشاط فعال يعمل على استنفار كينونة الأشياء ليبني منها عملا فنيا متحد الأجزاء منسجما فيه هزة للقلب و متعة للنفس. وانظر إلى الصورة في قول الشاعر: و إني لتعروني لذكراك هزة *** كما انتفض العصفور بلله القطر صورة العصفور تحت المطر الملتف على نفسه ويرتعد من البرد، و من حين لآخر ينفض جسده من قطرات الماء. هذه الصورة هي نفسها صورة الشاعر عندما يتذكر الحبيبة. من أكون ترى من أكون؟ بشعب عظيم. تنفس مجدا وريح الخريف لنوفمبرٍ فرقدا كان سعدا لشعب أراد فهز الوجود نشيدا يردد: تحيا الجزائرْ و شعب الجزائرْ ترى من أكون؟ أنا ثابت كالنخيل و قلبي كقرع الطبول بروحي لهيب أنا لست أهذي فشعري من الحبْ و حبي صهيل صهيل جواد الأمير يردد: تحيا الجزائرْ و شعب الجزائرْ كذا قال جدي أنا فخر نفسي لقد بعت رأسي بأمسي ببخس وفقدان حسي وحفرة رمسي دمي بالجنان لتحيا الجزائرْ وشعب الجزائرْ سلوها فرنسا تخبر يقينا عن الثائرينا بأوراس قد كان حصنا حصينا و صحراء سوف تراب تلظى حنينا. و آمود قد كبَّر: الله أكبر تحيا الجزائرْ و شعب الجزائرْ أنا ابن عظيم وليد أصيل لشعب الجزائرْ كحبة رمل أنا... بل كجوهرة من بحار الذخائرْ أنا ابن سعيد لأني حفيد الشهيد فقولوا بملء الحناجرْ: لتحيا الجزائرْ و شعب الجزائرْ