''..الإشكاليّة التي تِؤِرق منظومة التفكير العام...ما الذي نورثه لأبنائنا؟ كيف نورثه ؟وبأي آلة نورث؟..من دون أن نسقط في مجانية تقديم الدروس التي لاتصل...الأستاذ: رابحي عبد القادر...'' 01- قال باستور : ''..خلق الإنسان ليفكر ومن تفكيره تعرف قيمته...'' إذا كان النظام التربوي هو القلب النابض لدى كل الأمم وملاذها الآمن في تطوير الحياة، فانه عندنا بات يتطلب وعيا أكثر ودراية بالأهداف واهتماما خاصة بمنظومة التفكير العامة وعلى جميع المستويات، إن طرح الأستاذ: ''رابحي عبد القادر'' في تعليقه على قصة للأطفال ''أوراس الأشم'' نشرت لنا في موقع أصوات الشمال يوم :17-03-2010 استهواني فهو يقول: ''الإشكالية التي تؤرق منظومة التفكير العام على جميع المستويات، والتي تتجلى في.. ما الذي نورثه لأبنائنا؟ كيف نورثه؟ وبأيّ آلة نورّثه من دون أن نسقط في مجانيّة تقديم الدروس التي لا تصل...'' هذا الطرح وغيره جدير بالتأمل لأنه من صميم العمل التربوي، بل مطلب من مطالبه، ويستدعي قراءات في المناهج التربويّة، والوقوف على عتباتها، مداخل ومخارج، أشكالا ومضامين، أهدافا وغايات، مستوى التحصيل ونوعيّة هذا التحصيل، متسائلين في ذات الوقت: هل المناهج لديها هذا التصور؟ ولماذا نشكو النواقص والثغرات رغم الإصلاحات والتعديلات في المناهج وفي مجال تعميم التعليم وتوسيع قاعدة انتشاره؟ لماذا نطالب بمراجعة مناهج الإصلاح ونحن لم ننفض بعد أيدينا من جديدها؟ وهل الأمر يتوقف عند المراجعة والإثراء؟ أم عند التوقيت المرهق والممل؟ أم يقتضي أن تتطور المناهج وفق منظومات التفكير العام، لتتطور معها الذهنيات وأدوات التنفيذ والتبليغ وفق معايير تنسجم مع الحياة الجديدة تأثيرا وتأثرا، وأن يكون للتعليم في جميع الأطوار الأوراش التي تنشط باستمرار لتحسين الأدوات وتطويرها وجعل المؤسسات التربويّة والمؤسسات الثقافيّة ومؤسسات المجتمع المدني تتفاعل مع منظومة التفكير، منسجمة مع منظومة القيّم ومتطلبات العصر؟ كثيرة هي الانشغالات، ولكل من المربين فيها رأي، في هذا السياق يحضرني قول المربي ''جون ديوي'' أن ''.. التربية هي الحياة نفسها وليست مجرد إعداد للحياة، وبأنها عمليّة نمو وعمليّة تعلم وعملية بناء وتجديد مستمرتين للخبرة وعملية اجتماعية...'' 02- وإذا كانت الإشكاليّة في حد ذاتها تستدعي منا فهما لأغوارها معنى ومصطلحا، فإنها لا تختلف عن كلمة أطروحة، وتعني مثالية استشكلت في أمرنا تحتاج إلى المعالجة والبت فيها تلميحا وتصريحا، فان التفكير ''هو ما يهب المعلومات معنى ويجعل للمعرفة مغزى..'' إذ التفكير هو أداة من أدوات العقل، ينتج أفكارا ويثري أخرى، انطلاقا من خزان المعلومات النافعة وغير النافعة، الخاطئة والجيدة، إلى جانب الذاكرة التي تعجّ بالمعارف ''والذاكرة أنواع'' فإن العلم يقتضي البحث في سراديب المعرفة وعن كنوزها المخبوءة، إذ التفكير يتوغل في كل ما يحيط بنا من المشاهد والأحداث، وأن إشكاليّة التربيّة كمشروع أمّة ووطن وكفعل مدجّج بالقيّم والمعارف والكفايات لا يتحقق إلا بالوعي بالأهداف، ولا يتغذى إلا على جديد.. ذي مرجعيّات فكريّة معرفيّة حيّة وإحيائيّة.. فما هو التفكير؟ بالمختصر نقول هو ''نشاط عقلي يحدث استجابة لمثيرات تتم بواسطة أو عن طريق الحواس وصولا إلى نتيجة'' بمعنى آخر التفكير في المجال التربوي ''هو عملية ذهنية يتفاعل فيها المتعلم مع ما يواجهه من خبرات ومواقف'' هذه تفضي إلى توليد أفكار يقوم بتحليلها وتقييمها ثم يعيد تنظيمها بهدف إدماجها في البناء العقلي مستخدما مهارات التعلم وهي ''المقارنة- التصنيف التحليل التركيب- الملاحظة..الخ''، فالمدرس الواعي الفطن المؤهل فعلا للعمل التربوي يقوم ومن خلال مهارات التفكير إلى قيادة التلاميذ قيادة رشيدة إلى فعل التعلم مستعملا المهارات السالفة الذكر عن قصد ودراية ليعالج المهارات التي يتحصل عليها التلميذ أثناء عمليتي التعليم والتعلم، ويمتلك المتعلم ناصيّة التفكير التي تمنحه القدرة على المقارنة والتصنيف والترتيب والبرهنة والتعليل وغير ذلك ويتواصل ذات النشاط مع كل عمل تربوي نرومه، وعلى ضوء ما تقدم تتضح أهميّة الطرح وتتحدد معالمه. 03- ويمكن معالجة الشطر الثاني من السؤال، كيف نورث أبناءنا فعل التفكير؟ بطبيعة الحال نحن بصدد توريث أبنائنا عادات وقيّم ومعارف وسلوكيّات ومهارات بكيفية مباشرة وغير مباشرة، ولمعالجات جديد المعارف واكتسابها وتوظيف المكتسب توظيفا سليما وفي شتى مجالات الحياة وعلى جميع مستويات التفكير، يتطلب الأمر أدوات وآليات للتنفيذ ومن أهمها وأجدرها المدرس، الذي نشترط فيه شروطا ومن بينها أن يكون متمكنا وعلى قدر كبير من الكفاءة العالية التي تؤهله لاستخدام مهارات التفكير التي تدرّب عليها في المعاهد وخلال الندوات والملتقيات وأصبحت جزءا من سلوكه التربوي.. 04- وإذا كان السؤال هو بوابة المعرفة في أي حقل من حقول المعرفة فلا بد أن تكون أسئلتنا مبنيّة على فن التدرج من السهل إلى الصعب، ومن المعلوم إلى المجهول، وأن تتوفر فيها شروط منها الدقة والموضوعيّة والوضوح، والتدرج في الصعوبة، وان نراعي ذلك أثناء التخطيط لعملية التدريس بمراعاة الفروق الفرديّة ومستوى التلاميذ، ودرجة الفهم والاستيعاب والمدة التي تتم فيها عملية التعلم {الحجم الساعي'' والمحيط الفيزيائي، وأن نجعل المتعلم شريكا متسلحا بمهارات التفكير التي تعينه على الاستيعاب وتراعي مستوى التحصيل لديه، فيكون المعلم قدوة يستخدم كل ما لديه من مهارات وفنياّت ووسائط ومعينات، بحيث يجعل المتعلم يفكر ويمارس فعل التفكير والتذكر والتخيل فيما تعلم عن رغبة وبينة، ونتجنب تقديم المعارف والمعلومات له طعمة سائغة، أو وعظا وخطابية، دون أن يعمل في ذلك فكره وخياله فالتأمل والتفكير ينمي العمليات العقلية بل يعلي من شأن الملكات كلها، وأن الحيرة التربويّة تتولد عنها ومن خلالها أفكار وأحاسيس ومشاعر وتتناسل منها المعارف، إن صدّ العقل عن التأمل خطأ جسيم، انه يجعل غشاوة على القلوب، فيتناقص الاهتمام وتضعف إرادة المتعلم ويضمحل أداء المعلم وتخفت محاولاته وتموت حيويّته، يقول سقراط: ''..إن الحياة العاقلة تنمو في الطفل بقدر ما ينمو فيه نشاطه وتتحرر إرادته..'' وأن التلميذ لا يستفيد من المعلومات الجاهزة، ما لم يشارك في بنائها حتى وإن كان إعدادها جيدا، وما لم نزرع في نفسه الرغبة وحب التعلم والاهتمام بما هو مقبل على تعلمه، فهو الذي يعمل ويحاور ويكتشف ويسعد بذلك.. 05- ولتنمية التفكير لدى المتعلمين نقوم بعدة أنشطة تشجع على التفكير وتدعمه ومنها اعتماد الذاكرة والتقويم التشخيصي الخالي من إصدار الأحكام الجزافيّة المثبطة ونعمل على التنويع الثقافي المعرفي، إن طرح أسئلة أثناء الدرس قبله وبعده تكون مدعاة للحيرة والتفكير ومثيرة للجدل تجعل التلاميذ يبذلون جهدا ويحاولون ويصلون ولا شك في ذلك وبخاصة إذا تم ذلك في جو تربوي تعاوني بهيج، وأن محاولات التلاميذ في أي مجال من مجالات المعرفة تجعلهم يبادرون ويحاولون ولا يخجلون من أجوبتهم الناقصة ولا من أخطائهم عندما نتوجه إلى تصويبها بهدوء، ونأخذ بيد التلميذ فنرشده برفق، وعندما نزاوج بين العمل الفردي والجماعي التعاوني فتلك فرصة ليتعلم التلاميذ من أخطاء بعضهم البعض، فيصححون أنفسهم بأنفسهم، وعندئذ نعتمد بيداغوجية التعزيز والمكافأة والحوار والتغذيّة الراجعة، وأن اللعب مصدر خصب من مصادر التعلم وعاملا مهما من عوامل النمو العقلي، خاصة اللعب التعاوني، ناهيك عن ألعاب الفك والتركيب والمربعات كلها تنمي مهارات وقدرات الابتكار والإبداع، ولكل طور ألعابه، ونعتبر الأحاجي والألغاز والقصص والمسرح المدرسي ومسرح الأطفال وكل النشاطات الصفية واللاصفية التي تمد المتعلمين صغارا وكبارا بخبرات حياتيّة غاية في الأهميّة وهي تسمو بفكرهم وتقوي لديهم الملكات، ولا يفوتنا في هذا المقام أن نلفت الانتباه إلى ضرورة الاهتمام بالتفكير الناقد، فإنه أصبح قلب العمليّة التربويّة النابض، يساهم في إعداد رجال الغد الأكثر قدرة على الدفاع على وجهات النظر.. 06- إن مناهج الإصلاح التربوي في الجزائر قديمها وحديثها قد تفطنت مبكرا لتنمية التفكير لدى المتعلمين وعملت بالمقاربة بالأهداف وما فتئت أن انتقلت من التدريس بالأهداف ذي النزعة السلوكي ''التوجه النفعي'' إلى نموذج التدريس بالكفاءات ''نموذج معالجة المعلومات'' في قفزة نوعيّة، دون أن تمهد الطريق للعمل البيداغوجي بتكوين فعال عملي ونظري للمدرسين والمكونين، هذه الحلقة المفقودة أضرت بمسار المتعلمين وكانت سببا في أتعاب كثيرة، والأمر الذي نتج عنه تذبذب في المواقف والرؤى وإخفاقات في التنفيذ، انعكس سلبا على مستوى التحصيل، وأن الفكر التربوي من خلال هذه المقاربة يقوم على سمة الكافيات وتنميّة المهارات الخلاقة، بيداغوجية يحدّد فيها الأستاذ ما ينبغي أن يتعلمه التلاميذ، حيث يستعين في الدرس بجملة من الروافد التي تمكنه من تحقيق هدفه التعليمي ولنا أن نتساءل أثناء التخطيط وخلال التنفيذ والتبليغ.. على الذي نورثه لأبنائنا؟ ولماذا نورثه؟ وكيف نورثه؟ هذه الأسئلة وغيرها هي بمثابة الضوابط التي تضمن لنا الفعالية والنجاح في كل مسعى تربوي نرومه أثناء التخطيط وعند الإعداد وخلال التنفيذ والتقييم وفي حصص الدعم والاستدراك والمطالعة الحرّة. وصفوة القول:لا بد أن نبتعد عن تكريس الذهنيّة التوكيليّة المستهلكة والمثبطة على حساب الذهنيّة العلميّة المنتجة والخلاقة... ولنا عودة للموضوع، إن شاء الله.. كان الله في العون.