الحب المخبوء الذي يبحث عنه سليم؛ أرجعه القهقري بذهول إلى الأنقاض التي أتى عليها الزمان بالتحريف، حيث أضحت إعادة التشكيل مستبعدة، حين يرى نفسه مكفرا عن خطاياه في عالم غائب تماما. فالطبيعة الحية تعيد للأشياء نضارتها حتى لو أتى عليها البلى. هذه الملكة الإلهامية تحضن الشجاعة والطاقة، وتتفجر في ذلك الجانب المعتم من ضنك العيش؛ الذي لم يكن يوما مسؤولا عنه، بل كان الضحية. في زمان آخر؛ في زمانه هو، الذي يصرخ في جنباته عاليا أنه الأسعد على هذه المعمورة. فإشراقة العقل الناضج المؤسس يشرئب به إلى سماع وتصديق رسول النسيم، محملا ذاك السراب البحث عن جميلة؛ هذه الكنية المركبة الثرية، الموجودة في كل مكان كشمس باسطة رداءها حقا مطلقا للجميع. حين يستشعر غيابها في ليالي البرد القارسة لفترة، يعلم علم اليقين أنها تضيء من الجانب الآخر في صبر وروية. يبحث، لا يني يبحث، في كل الأزقة والحواري، مخترقا الفواصل والحدود، وكل أولئك المتسمين باسمه وجدوا ضوالهم مهما واجهوا من صعوبات ومشاق في تلك المهامه والمتاهات لذلك الزمان. نعم. كل منهم أفضى إليه، ولكنني وقد نالت مني الشيخوخة وكف بصري، أسقط إعياء في الطريق وحيدا، ولكن غير مفقود. مضللا من أولئك الذين لم يفقهوها وظنوها منسية. ثم تهب نفحة من فترة جديدة تضرم المواقد المنسية التي ما فتئت تدفئ سقوف العرش الذي ظنناه منهارا للأبد، في حين أنه ليس إلا سباتا للقرون في البرد القارس. يا رسول النسيم أتعود؟ حاملا سمات سهولنا وسباسبنا القديمة. ويستيعد سليم أنفاسه ومعه العرش، ويرى بوضوح وهو يحرك يديه ورجليه، فتشرئب الأعناق إليه باحثة عن مشاعل لا ينال منها الصدأ ليضرموها من جديد كزخرفة قديمة أزيلت عنها العوالق، لتلتهم الليالي المعتمة بنهم. نعم. لا يُشخص - كسليم وجميلة- رسول النسيم! أتذكر. كنت أقوى من الهطول والسيول أفي الماضي؟ كلا. بل في الحاضر والمستقبل. أظل دائما هنا كصخرة عريقة أقدم من الأرض نفسها. حبيبتي! يا طائر الشمال! يا من كنت على وشك الذواء والموت للأبد، أعلم أن لا يكون ذلك، يا ضياء الأزل. كم أنت غنية، وكم أنت فقيرة في الغيرة وتحكم الهوى. أأثر فيك ظل يوم من الغياب؟ هاها! ضحكة تهكمية تخفي باطنا جديا مخلصا. أردت أن تسنح لك الأمور وحدك، وأقول: والآخرين؟! أعاتبك ولكن لا أستنزل عليك اللعنات، وإلا فما الجدوى من استمراري في الوجود! لنتناجى. أناديك وأراك تذهبين! هذا يبكيني بل يضحكني، فلست إلا طفلا غريرا. - لتقولي: لم؟ فالحياة قسمة للجمْع، أعلم هذا. - أنا مذعور، ولكن هذا في حسابك باطل لاغ غير مفيد. - انتظري! فأنا أعلم وأنا واثق. - تريد أن أقول لك أيضا؟ - العيون الحمر للأفارقة والهنود والأمريكيين.. - أيدلك على شيء هذا؟ - لا أبدا. - والآن. فما جدوى هذه الثرثرة. لتصل إلى ماذا؟ - ارحلي. سأصمت. انزفي دما حين أراك، ضمخيني بدمك على وجهي وامزجيه بصوتي. فأنا من دم. وربما ستعتذرين لي غدا. وسأكون القابل للعذر دائما. يا لَلْهباءة التي لا تضطرب في حنايا صدرك وفي سواد عينيك، لا يحل هذا النوم ما أسعدها.