عائشة حداد الكل يتذكر طيبة تلك المرأة وتواضعها ووفاءها اللاّمحدود لفنّها؛ ذلك الحب الذي ظلت تحمله في قلبها حتى رحيلها بعد صراع مرير مع المرض كانت فيه عائشة حداد شجاعة حتى آخر اللحظات. كنت في كل مرة التقيها أؤجل الكتابة عنها، كانت أكبر من أية كلمة تقال بشأنها أو حولها كان لقاءُها في حد ذاته حدثا أو قدرا جميلا يفتح أمامي كل مرة أبوابا جديدة على اكتشاف تلك السيدة التي ظلت حتى رحيلها مغلفة بالأسرار والحكايا. * * ابتسامتها تقودك إلى عوالم امرأة تلمس فيها طيبة الأمهات وحكمة الجدات وشموخ نساء الجزائر. * أذكر تلك اللحظات الآن بتفاصيلها وإيقاعها كشريط يطرق أبواب الذاكرة بدون استئذان حولي شهرين قبل أن يقعدها المرض لآخر مرة في المستشفى، بدار الصحافة الطاهر جاووت لم يمنعها المرض من الصعود درجات السلم العشرة في مكتب إحدى الجرائد الوطنية فتحت تلك المرأة أمامنا آخر دفاترها قبل الرحيل الأخير كانت خائفة من الزمن الذي قد يغدر بأحلامها الجميلة والمكابرة، صوتها الخافت القادم من كهوف الذاكرة »لست أدري إن كان بحوزتي ما يكفي من الوقت لإتمام مشاريعي الكثيرة«، يستوقفني الآن مظهرها الهادئ يتحدى آلام المرض، نبرات صوتها ونطقها بفرنسية فصيحة تعيد للذاكرة زمنا كانت فيه للمدارس سلطتها وصرامتها، كانت تتحدى غول السرطان بحبها الكبير للبحر واللون الأزرق، عن تلك الفضاءات التي لم يكتشفها ذلك اللون الذي يسكن ذاكرة الفنانة منذ طفولة أبدية حين كان الوالد يصطحبها إلى »عين السلطان« في جولات حيث الجدة »خضرة« تحيطها بحكايا تتألق فيها سيدة السرد العربي شهرزاد. * ترى من أين يمكن أن نبدأ الحديث عن امرأة عاشت بسيطة ورحلت بسيطة كالطيف، كالخيال، كأزهار تفتحت لتوها، استحضر الآن تفاصيل لقاء جميل ربما كان أجمل لقاء في حياتي المهنية أذكر يوم ذهبنا إلى باب الوادي وبالضبط إلى حي بولوغين، كان أول لقاء مع امرأة اكتشفت أنها فنانة في أبسط حركاتها؛ المساء الصيفي ينشر أضواءه على عجل، فوضى الشوارع والحارات والأزقة الشعبية الضيقة، ضجيج الأطفال يملأ المكان وهرولة الناس البسطاء. كنت خائفة من أن أخطئ طريق الأزقة والشوارع إلى بيتها، لكني وجدت اسمها على لسان النساء والأطفال والرجال وحتى جدران العمارات، الكل هنا يعرف »الأستاذة عائشة« كما يدعوها أهل الحي، احتراما مضاعفا لامرأة فرضت التقدير على كل من عرفها أو مر ببيتها. * في بيتها بالطابق الثاني، كان البلل وعراك الألوان وبقايا صور قديمة من عهد الفرنسيين الذين ذهبوا إلى غير رجعة. كنت أخشى الضياع وسط أسماء الأزقة وأرقام الشوارع، لكني في النهاية ضعت وسط آلاف الألوان والأشكال وابتسامة طوقت المكان في تفاصيله. في ذلك اليوم أفردت أمامي عائشة دفاتر طفولتها وفنّها تحدثنا في كل شيء، عن وقع رائحة قهوة عاصمية نفاذة جعلتني يومها اكتشف طعما آخر للقهوة المرّة التي تحتسى على مهل، على رائحتها فتحت عائشة أحاديث الياسمين الأبيض الذي يتوسد لوحاتها تنطق موسيقى صاخبة وتتفجر أضواءً تحدثت يومها عن والدتها تلك المرأة البجاوية التي نقلت إليها تقاليد وحشمة وأصالة نساء الجزائر. تحدثت عن الأب الذي كان يأخذها طفلة من يدها إلى »مرجة الزهور« وشجرة الليمون المباركة في بيت العائلة التي تمطر رائحة وورودا بيضاء، لم يكن أطفال الأمس مثل أطفال اليوم، تقول عائشة مسترقة نظرة عبر الشباك لأطفال الشارع المقابل يركضون في كل الاتجاهات »كشياطين صغار«. كانت أطياف الطفولة تسكنها وتعبر ذاكرتها في تفاصيلها الدقيقة، تذكر نفسها طفلة في المدار الفرنسية حيث كانت المعلمة تملأ جيوبها بالحلوى كان يوما مشهودا ذلك الذي علقت فيه رسوماتها على جدران المدرسة وطافت بالأقسام، لم يكن سهلا على ابنة الانديجان أن تفرض نفسها على المدارس الفرنسية وأكثر من ذلك أن يُعترف لها بالتفوق، هكذا كانت تتحدث تلك المرأة عن نفسها عن حميميات الزمن الماضي عن مدرسة الممرضات عام 1956 بخجلها وصمتها الذي ينطق حكمة، كانت عائشة تستعيد تلك اللحظات التي فازت فيها بجائزة الجزائر العاصمة للفنون عام 1975 عندما قدم زوج أختها لوحاتها نيابة عنها لأنها كانت خجولة جدا ومن هنا كانت بداية تألق موهبة طافت على امتداد ربع قرن بأكبر متاحف وعواصم العالم، قبل أن تستقر في اليونسكو عام 1966 أين كرمت بمناسبة مرور الذكرى الخمسين لتأسيس هذه المنظمة. * تختصر مسيرة عائشة حداد ذاكرة وتاريخ الجزائر عبر 3 مراحل أساسية، بدأتها بواقعية رسمت فيها الطبيعة بأشكالها المختلفة ثم المرحلة الانطباعية التي استندت فيها إلى التجريد والبحث في تقنيات الألوان والأشكال أين غاصت في أسرار الفن الأزلي، كانت دائما تردد »ما جدوى أن أرسم إذا لم أقدم الجديد؟«، أما المرحلة الثالثة فاشتغلت الفنانة على مشروع التراث الجزائري والذاكرة الشعبية بزخمها وثرائها ورحلت قبل أن تتم مشروعها الكبير الذي كرسته للأطفال وهي الطفلة دوما في عمقها. * برغم التألق الكبير للفنانة، إلا أنها كانت دائما متواضعة تتحدث بإكبار وإعجاب وتواضع قلّ ما نجده في هذا الزمان عن تجارب من سبقوها بافتخار كبير. بفضلها عرفت أنا سهيلة بل بحار وليلى بن فرحات وباية وأخريات يومها خرجت من عندها ولم أكتب شيئا كنت ممتلئة بتفاصيل لقاء حميمي أستعيد بعض حرارته بعد مرور سنوات عن الحدث. * عائشة حداد ارتبط اسمها بالقصبة والعاصمة بأحيائها وشوارعها ويكفى الجزائر فخرا أنها أنجبت امرأة مثلها ويكفيها شرفا أنه لا أحد يذكر الفن التشكيلي في الجزائر المعاصرة دون اسمها.