ظل مشروع الوحدة العربية يراوح مكانه منذ وضعت نواة الجامعة بالقاهرة عام 1945م، ويرجع البعض ذلك إلى طبيعة المنطقة، ونمط الصراع العربي الإسرائيلي الذي يتميز عن غيره من الصراعات، بأنه يشمل مختلف الجوانب الإستراتيجية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية ...، والسؤال الملح هو'' أليس العرب أمة في مقوماتها أساس وحدتها؟ وإذا كانت مسألة الوحدة تثير تخوفا لدى البعض فإن هذا التخوف يزول بإقرار المبدأ قبل الخوض في طبيعة قواعدها ومؤسساتها. إن كلمة الأمة:لغةً تعني الدين والطريقة، وكلمة الأمة عند العرب تعني النعمة والعيش الحسن...الخ. والأمة تاريخا تعني كل جماعة بشرية، أو جنس من الحيوان أو الطير، قال تعالي:(وما من دابة فِي الأَرضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِير بِجنَاحْهِ إِلاَّ أُمَم أَمثَالُكُم مَا فَرطنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيءٍ ثُم إِلَى رَبهِم يحشرون'' الأنعام : 38''. وكلمة أمة وردت في القرآن الكريم 49 مرة. منها 43 آية مكية، وست مدنية. ووردت كلمة الكلمة جمعا 11 مرة، منها مكية وواحدة فقط مدنية، وذكر لفظ الأمة- في الآيات المكية بشير إلى الأمم الكافرة التي كذبت أنبياء الله ورسله قبل الإسلام. وقد ورد ذكرها من باب العظة والاعتبار... الأمة إذا هي جماعة من الناس تجمعها صفات ذاتية كالدين والنسب و اللغة والعادات و الجنس والنوع. وقيل سميت أمة لأن أفرادها تؤم أمماً واحداً يجمع مقوماتها ونمط الحياة والوعي الاجتماعي، والأرض والأصل والعادات واللغة، وهي عناصر متوفرة في الأمة العربية. والملاحظ أن عناصر تشكل الدولة لا يتوفر منها في الأمة إلا عنصر واحد وهو عنصر الجماعة ''السكان'' ولا يمكن للأمة أن تصبح ''دولةس . فالأمم في مفهوم عصرنا أربعة أنماط : 01- الأمة - الدولة-: وهي الأمة التي حققت نفسها سياسياً ضمن حدود وطنية خاصة بها وتميزت بخصائصها، 02 - الدولة المتعددة القوميات: وهي الدولة التي تتضمن ''أمتين'' مثل بلجيكا وتسمى الدولة في هذه الحالة ''مزدوجة القومية. 03 الأمة الممزقة : وهي امة تقاسمتها الأمم الأخرى، وألحقت كل جزء منها بدولة أمة مثل :''الباسك'' التي المتواجد ة بين اسبانيا وغربي فرنسا. 04 الأمة المجزأة: وهي الأمة التي تتشكل من عدة دول مستقلة لكل خصائص وطنية، وهنا يكون الشعور القومي أوسع من الشعور الوطني.... مثل الأمة العربية التي تضم اليوم 22 دولة. ومن هذا المنظور نتبين أن مفهومي ''الدولة'' و''الأمة'' ليسا متطابقين إلا في حالة واحدة هي حالة الأمة الدولة. لقد أتى الإسلام بمفهوم شرعي للأمة، ووضع له معنى خاصَاً ومن معانيه: القوم الذين اجتمعوا على دين واحد، والأمة العربية التي تتربع على46 كلم أي بنسبة 10.2% من اليابسة، وخيرات في باطن الأرض وعلى سطحها وفي بحارها، 22 دولة عربية بإجمالي عدد السكان ،338.621.469 نسمة حسب تقديرات عام2007م، تجمعهم مقومات الأمة، تاريخ عريق ومصير مشترك، يتبع معظم سكان الوطن العربي الديانة الإسلاميّة والباقي أغلبهم من المسيحيين وهم يرتكزون في بلدان المشرق العربي '' لبنان وسوريا ومصر وفلسطين والأردن والعراق''، ويتكلم اللغة العربية ما لا يقل عن 99 بالمئة. من أبناء الوطن العربي. والأمة العربية قادرة على أن تكون من أعظم الأمم قوة وأشدها تماسكا وأعلاها تطورا، لكن ما وحدته المقومات أفسدته السياسات وهي اليوم تعيش وضعا مأساويا، تشردم وتباين الاتجاهات، واختلاف الرؤى، وتطاحن بين الإخوة الجيران والعائلة في الدار، ولتفسير ذلك لا بد من الوقوف على مستويات عدة: أهمها قصور نضج النخب العربية السياسية. فإذا كانت البشرية اقتنعت بأساس واحد للشرعية تضمنته كل النظريات المتعلقة بالحكم، وترسخ في الضمير والوجدان الإنساني كمصدر وحيد لشرعية أي نظام حكم، وفقا لمبدأ ''الشعب مصدر السلطات'' فهو صاحب الحق في تفويض من يراه أهلا لضمان حقوقه وإدارة شؤونه نيابة عنه ''مبدأ الاقتراع '' الذي هو الصورة الحية لمبدأ الشورى المنصوص عليه في الشريعة الإسلامية. ومما لاشك فيه أن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ضمانة وافية للتكوين الثقافي للمسلمين قال سبحانه وتعالى: ز قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السبيلِ '' المائدة: 77 . فإن الأنظمة العربية شذت عن القاعدة ولم تلتزم بمبادئ النظريات العصرية للحكم، ما أفقدها الاحترام المتعارف عليه بين الدول وهيئات ومؤسسات المجتمع المدني في العالم، واعتبرت بؤر فساد وعبء على البشرية ومعوقة لمسار التطور العالمي بإفرازاتها وما تعانيه الشعوب العربية من فقر وبطالة وقمع واستبداد وتخلف على جميع الأصعدة، كلها إفرازات النكوص السياسي للنخب السياسية. فالأنظمة العربية دوما تحاول جاهدة توفير شرعيات مفبركة بالاستفتاءات أو الانتخابات المزورة ، وتشويش الرأي العام باستغلال العشائرية والإغراء ، فقط للاحتفاظ بالكرسي بأساليب لم تعد تقنع حتى الأطفال من أبناء رعيتهم وأحيانا ترفع شعارات وفلسفات لا تسمن ولا تغني من جوع. لقد احتار المفكرون والمراقبون والمحللون في مراكز الدراسات والأبحاث، ولم يستوعبوا سر بقاء واستمرار أنظمة هي بحكم المنطق منتهية الصلاحية. أنظمة تحولت أركانها إلى مولدات معوقات التطور في أغلب بلداننا العربية: ''تغييب الحريات، وخنق الديمقراطية، وإهمال التعليم، وتعميم الفساد، إضافة إلى الخلل في سياسات الاقتصاد والانحلال الخلقي وترك العدالة الاجتماعية، وكلها عوامل ساهمت في رفع نسبة الأمية، والجهل، والفقر، واستفحال أمراض الفقر نتيجة سوء التغطية الصحية وتدني المستوى الثقافي، ومحدودية المعرفة . ومن المؤكد أن السلم القومي بشقيه الداخلي والخارجي أساس تحقيق أهداف التنمية وبناء نهضة الأمم وتقدمها، فمن المحال تصور وطن يشهد نزاعات ''يستطيع التعايش بسلام مع غيره وواقعه لا يرضي طموحات الأمة، ولا ينسجم مع ماضيها وتراثها العريق، والمنطقة العربية تعيش صراعات سياسية وعسكرية، منذ أمد طويل،ف هل للأمر علاقة بالصراع العربي الإسرائيلي؟ أم بتخلّفنا من ناحية تطبيق الديمقراطية وتطبيق مبدأ العدل والمساواة ؟ الحقيقة إن واقع الصراعات الداخلية في العالم العربي، صورة واضحة لفشل الأنظمة الحاكمة، ومعرفة نمط الصراعات ييسر أسباب حدوثها: -في العراق: حبذور الصراع متعددة، المشكلة الكردية الخلاف مع الحكومة طيلة ''1961 م -1975 م''ونضاف أثناء الحرب العراقية الإيراني'' 1980م-1988م ''واستغل الأكراد خسارة العراق في حرب الخليج عام 1991م لإعلان دولة مستقلة بحماية وقوات التحالف،التي غذت الصراع الديني ''شيعي وسني''. - في المغرب : الصراع الداخلي في المغرب نشب على خلفية فشل التجربة الديمقراطية ''1963-,''1965 وأحكم سيطرة النظام على جميع السلطات. ثم إبراز مشكلة الصحراء الغربية كأهم مشكلة مؤثرة، لصرف النظر على غضب أهل الريف. - في البحرين: جذور مذهبية للصراع الداخلي، ترتكز على الدور الذي يطالب به الشيعة على المستوى السياسي. ما سبب عدة اضطرابات ومواجهات،منذ عام 1975 م حل المجلس القومي ،هوصراع مرتبط بمستقبل التعددية السياسية والديمقراطية. - في عمان : شهدت نوعا من الصراع الداخلي، خاصة بين قبائل ظفار والنظام الحاكم انتهى بقمع القبائل عام 1976م . - في السودان: الصراع الداخلي في السودان من أعقد الصراعات وقوف السكان غير المسلمين ضد النظام منذ الخمسينيات، نامت الفتنة عام 1972 بعد اتفاقية الحكم الذاتي ،و نتيجة تداخل عدة عوامل داخلية وخارجية في الصراع الداخلي استمر الصراع،رغم سعي الطرفين للتسوية - في سوريا: على إثر أحداث عام 1981-,1982 بين الجيش و جماعة الأخوان المسلمين في حلب وحماة ومدن انتهى الصراع بالقضاء على تلك الجماعة لكن يمكن أن يظهر من جديد في نتيجة الأوضاع في المنطقة وغياب التعدّدية السياسية. - في الأردن: الصراع في الأردن ارتبط بالقضية الفلسطينية ارتباطا جوهريا، وبلغ ذروته بإعلان الوحدة بين الضفتين سنة 1951م-1952م، ونزوح الفلسطينيين سنة 1948 بعد قيام الدولة العبرية، وكذلك سنة 1967م إثر الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وظهور العمل الفدائي في الأردن سنة 1965-1966م. وتبنّى النظام السياسي في الأردن العمل الفدائي - في اليمن: صراع داخلي تغذبه بنية النظام الاجتماعي القائمة على البعد القبلي، ما أثر في الجانب السياسي والأمني في اليمن، بالإضافة إلى مشكلة الوحدة التي قامت بشكل قسري، لذا استمر الصراع القبلي، ولسياسي والاقتصادي والاجتماعي بين الشمال والجنوب. - في مصر ولبنان، الصراع الداخلي مذهبي غذته أطراف خارجية في مقدمتها إسرائيل. لقد بات مشروع الوحدة العربية موضوعا لانقلابات وحركات عسكرية هنا وهناك وعامل لمزيد من الفرقة والنفور والتخلف والاستبداد، حتى صارت موضعا للسخرية، في حين نرى التجربة الأوروبية تؤكد إمكانية نجاح الوحدة إذا كان المبدأ جوهره المصالح الاقتصادية والنشاطات والحركات المجتمعية والثقافية، أي - كل ما هو مطلوب هو إفساح المجال للمصالح الاقتصادية والبرامج الثقافية والمجتمعية أن تتحول إلى برامج واقعية بلا معيقات، ولا يلزم لتحقيقها ''الاندماج أو تخلي الدول والأنظمة السياسية عن سيادتها وقطريتها. ومهما كان تشعب تحليل العوامل التي تقف وراء ظاهرة النكوص السياسي وعنف الصراعات ،فهي في النهاية إفرازات التخلف الذي يعانيه المجتمع العربي، وسوء فهم مكانة الدولة ونشوء المجتمع وقضية سيادة القانون والمساواة ومعنى الصالح العام لدى النخب السياسية في وطننا الكبير.