تطفو عند ذاكرة كل شخص منا بعض الأسرار الصغيرة التي يحتفظ بها لنفسه بعيدا عن رقابة الأهل والأولياء لامور أغلبها يتعلق بطيش الطفولة والمراهقة، منها لغة الإشارات والرموز التي اخترعوها للتخاطب في سنوات الدراسة الأولى كي لا يفهم الآخرون فحوى أحاديثهم. الاكيد أن لا أحد يعلم من أين يولد وعي الطفل بميله نحو التكتم، فثمة أشياء تنتقل من الكبار وأشياء أخرى تظهر وحدها في مراحل النمو المختلفة، ففي لحظة ما يدرك الطفل فجأة أنه قادر على القيام بأشياء من دون رقابة الآخرين. بعد السنوات الخمس الأولى يتحد الأطفال في دراستهم للعالم من حولهم ومهما كانت رقابة الكبار صارمة يبدأ الطفل في هذا العمر برسم ملامح عالم خاص، عالم طفولي سري يرى الخبراء ضرورة عدم هدمه. التخلص من رقابة الأهل شعور بالاستقلالية في هذا السياق تروي أسماء عدة أسرار وذكريات حدثت لها عندما كانت طفلة فتقول: ''كان عمري تسع سنوات عندما حصلت على بطاقة عضوية في أحد المسابح شعرت حينها للمرة الأولى في حياتي بالاستقلالية لأن والدي سمحا لي بارتياد المسبح لوحدي. في البداية كنت أسير سعيدة بوحدتي دون رقيب لكني لم ألبث أن أهملت المسبح رغم حبي للسباحة والسبب في ذلك أنني كنت أضطر إلى خوض سباقات رياضية متواصلة حسب المنطق الذي كان سائدا آنذاك، ما جعلني أنفر من السباحة التي كانت بالنسبة لي هواية محببة ليس أكثر، لكن لم يكن بمقدوري أن أعلل أسباب هجري للمسبح لوالدي ما دفعني إلى إخفاء الحقيقة وقضاء الأوقات المخصصة للسباحة في التنزه، وكي تكتمل لعبتي الصغيرة حرصت في كل مرة أن أسارع فور وصولي من المسبح للاغتسال وغسل ملابس السباحة، وقد استمر هذا الوضع حتى فصتلني إدارة المسبح بسبب التغيب المتواصل''. وتضيف أسماء ''كان هذا أقل سر جدّي ملأ حياتي لكن لاحقا اكتشفه والداي واعتبراه كذبة وليس سرا''. أما مليكة فتقول في هذا الخصوص: ''لقد أخفيت في حياتي عدة أسرار صغيرة على والدي لكنهما سامحاني عليها لاحقا عندما اكتشفاها كشرائي لأول علبة مساحيق التجميل وأيضا عندما تعرفت إلى أصدقاء جدد لم أرغب بتعريفهم إلى أسرتي ظنا مني أن والداي لن يرحبا بهم، أما الان عندما أفكر في تلك الايام وأنا أنتظر طفلا أدرك كم كان الأمر صعبا على والدي وغدا السؤال الذي يؤرقني كثيرا هو هل أستطيع أن أتجنب وجود أسرار عند تعاملي مع طفلي؟ وهل سيكون بمقدوري أن أبني علاقات تقوم على الثقة الكاملة معه؟''. رأي الخبيرة : لا يمكن تجنب احتفاظ الطفل بأسرار يخفيها حتى عن أقرب المقربين أكدت الخبيرة النفسانية ليندة بن طالبي عند اتصالنا بها أن الميل لإخفاء أسرار صغيرة يسيطر على غالبية الاطفال، وتفسيره بسيط فهو محاولة لامتلاك حيز خاص وفق منطق لعبتي وحدي وليست لاحد غيري وفضائي لي وليس لأحد غيري. هذه الأسرار، برأي الخبيرة، مرتبطة بنزوع نحو الاستقلالية عن الوالدين أو بالعكس من ذلك محاولة للفت أنظار الاخرين والشعور بأهمية خاصة ''أعرف ما لا يعرفه الاخرون''. وأكثر من ذلك فإن الأسرار تساعد الطفل على امتلاك شعور من الاستقرار والثقة بالنفس، فهو أخفى شيئا في مكان ما وعاد لاحقا ليجده في المخبأ نفسه. أما المراهقون فيبدأون بإخفاء ليس أشياء وإنما العواطف والمشاعر التي لا يمكنهم لسبب أو لآخر أن يعلنوا عنها في البيت. وحسب الخبيرة نفسها من هنا تتولد الرغبة باقتناء دفتر مذكرات عادة ما يخفيه المراهقون أيضا في مكان سري. وفي هذا النوع من الأسرار يمكن إدراج العلاقات مع المحيطين الذين برأي الفتى أو الفتاة لن يكونوا موضع ترحيب من جانب الوالدين. المهم، تؤكد بن طالب، أنه في كل الحالات الاسرار الصغيرة لاتستدعي الخوف، فحتى الصغار ينبغي أن يكون لهم فضاؤهم الخاص للأشياء وللعواطف ويختلف الأمر عندما يتحول السر إلى كذب لا تحمد عقباه. ومن المهم جدا ملاحظة ما إن كانت العلاقة أصلا بين الصغار والكبار تقوم على الثقة، فالدراسات دلت على أن في العائلات التي فيها كبار متسلطون يزيد ميل الاطفال نحو الاسرار، ويظهر نوع من الاسرار أكثر خطورة مثل السرقة وهي تبدأ في السابعة أو في الثامنة وتعاطي المخدرات أو الكحول التدخين وهذه كلها تبدأ عادة في عمر 11 سنة. وهذه الممارسات يمكن أن تكون تجارب لمرة واحدة ونوعا من الاحتجاج على السيطرة المفرطة وكذلك محاولة جذب الانتباه، لأن الطفل يمكن أن يفكر بأن الكبار سيهتمون به أكثر عندما يرتكب أخطاء، لذلك، حسب الخبيرة، من المهم جدا الحفاظ على التوازن في العلاقة مع الطفل ومنحه الحرية ليعبر عن نفسه، لكن في الوقت نفسه منحه أقصى درجة ممكنة من الاهتمام، ويمكن رسم حدود وحواجز من دون أن يكون الهدف كسر إرادة صاحب الأسرار الصغيرة.