استحوذت المحلات التجارية الكبرى على عقول وجيوب الجزائريين، بعد أن نبتت كالفطر في كل أرجاء العاصمة والمدن الكبرى عارضة مختلف السلع التي تسيل لعاب المواطنين الذين انبهروا لما تعرضه من سلع أغلبها مستورد، فوجدوا أنفسهم من حيث لا يدرون يقبلون على اقتناء الكماليات العصرية التي أفرزتها ثقافة الاستهلاك الغربية، ما عصف بميزانية الأسر الجزائرية حيث بات ضبطها أمرا مستحيلا في ظل هذا الزخم في السلع المعروضة. في زمن ليس ببعيد كانت حوانيت المواد الغذائية العامة مقصد العديد من السكان، حيث يجدون فيها تقريبا كل ما يحتاجونه من مواد غذائية عامة، وأحيانا حتى بعض مواد التجميل والتنظيف، لكنها الآن أصبحت تشهد منافسة كبيرة نتيجة اكتساح المراكز التجارية الكبرى لمختلف شوارع العاصمة، والتي تعد بمثابة أسواق تجزئة كبيرة. طغت في الآونة الأخيرة موضة أو يمكن القول ظاهرة جديدة بالجزائر، ألا وهي ظهور نوع من المحلات تضم مختلف المواد الغذائية تحت عنوان ''سوبيرات''، فلا تكاد تخلو منها بلدية أو دائرة من دوائر الولايات الثمانية والأربعين وتجد بأكبر شوارعهاتنافس غريب بينها، فالجزائر اليوم تدخل نظام سوق يدير التبادلات والتعاملات التجارية بين التجار والزبائن، فكل المستثمرين أو رجال الأعمال، موظفين وآخرين لا علاقة لم بالتجارة، أصبحوا يمتهنون، في حين كانت الأسواق الشعبية ترفع شعار ''اللخر ما يلحقش''، فالصورة اليوم استبدلت وأصبحت تعمل وفق مبدأ ''ألي ما شرى يتنزه''. تحت شعار ''عاند ولا تحسد ''.. الزوالي يستغني عن بقالة الحي ويستبدلها ''بالسوبيرات'' في جولة استطلاعية قادت ''الحوار'' إلى مختلف ''السوبيرات'' المتواجدة بكل من بلدية الشراڤة، اسطاولي، عين البنيان مرورا بباب الوادي، ساحة الشهداء، ديدوش مراد وساحة أول ماي، لمسنا أن المجتمع الجزائري اكتسب فعلا ثقافة تسوق جديدة، هذه الأخيرة لم تعد مرتبطة بالمستوى الاجتماعي للفرد، بقدر ما أضحت مرتبطة بنمط حياة الأفراد التي يختارها هؤلاء في تسيير حياتهم اليومية، هذه الفضاءات التجارية الكبرى غيرت نمط معيشة بعض المواطنين، كلهم استحسنوا الخدمات التي تقدمها الفضاءات التجارية مقارنة بالمحلات الصغيرة، فأجمعوا على أنها توفر السلع المختلفة في مكان واحد، فيكفي التوجه إلى ''السوبيرات'' القريبة من مسكنك مرة في الأسبوع لتجلب كل ما تحتاج إليه، كما أنها توفر لك فرصة التعرف على المنتوجات الجديدة، بالإضافة إلى طريقة السلع المعروضة فيها التي يتم استيرادها من مختلف الدول الأوروبية، خاصة أن المواطن الجزائري يفضل دائما العلامة الأجنبية على أساس أنها دليل على الجودة والنوعية، وبالتالي فقد توسع استهلاك مواد ليست ضمن عادات وتقاليد بلادنا، إلى جانب النظافة وطرق الحفظ الجيدة، زيادة على كون أسعارها معقولة، ما يجعلهم يقدمون على شراء أشياء لم يكن مبرمج شراؤها، مستقطبة عيون وجيوب الزبائن، من غني، متوسط الدخل وزوالي، وهنا يمكن القول إن الجزائريين أصبحوا يمشون على طريقة شعار ''عاند ولا تحسد''، الزوالية يزاحمون الأغنياء، متوسطو الدخل ينجرون إلى الاقتناء من ''السوبيرات''، لا غرابة إذا رأينا أشخاصا رغم ثرائهم الفاحش يعيشون حياة البسطاء، ويزاحمون الفقراء في الأسواق الشعبية، في حين يصر من هم يعانون من أجل أن يمكنهم الراتب الشهري من تغطية حاجاتهم الأساسية، على التظاهر بالثراء واقتناء مستلزماتهم من المساحات الكبرى والمحلات الفاخرة، ولا يهمهم الثمن. ورغم الانبهار المبدئي للمواطنين بالفضاءات التجارية، يبقى لهذه المساحات أصحابها الذين لا يهتمون لسعر السلعة بقدر ما يهمهم نوعيتها. الجزائريات ينبهرن بكل ما هو جديد، والتجار يلعبون ورقة التجديد في بضائعهم استطلعت ''الحوار'' آراء بعض المستهلكين ممن اتفقوا في معظمهم على أن التسوق في الفضاءات التجارية المتوسطة أو الكبرى أفضل بكثير من اللجوء إلى البقالات نظرا لجملة من المزايا والخدمات، ونحن نتجول بأحد ''السوبيرات'' بساحة أول ماي، التقينا ببعض رباب البيوت واستفسرنا عن أسباب تفضيلهن الفضاءات التجارية الكبرى، والبداية كانت مع السيدة ''ليلى'' وهي إحدى مرتادات تلك الأسواق، حيث تقول ''منذ ظهور المراكز التجارية الكبرى والمتوسطة هجرت البقالات، نظرا لما توفره من سلع متنوعة في فضاء واحد يختصر عناء التنقل الى عدة حوانيت لاقتناء الاحتياجات المختلفة، ومنها البقالات التي لا يمكن العثور فيها على كل ما نحتاج إليه''. وتضيف ''سماح'' أن الأمر يتعلق بتجربة جديدة في عالم التسوق، ميزتها أنها توفر كل احتياجات الزبائن بأسعار معقولة وفي فضاء يشعر المتسوق بالرفاهية، حيث يمكن التسوق في أجواء ممتعة، إلى جانب المزايا التي يستفيد منها المستهلك على غرار القدرة على اختيار المنتوجات وخدمة بطاقات الوفاء التي يستفيد الزبون بموجبها من التخفيضات في الأسعار. وقالت لنا السيدة ''صورية'': ''أجد في السوبيرات راحتي فأسعارها متنوعة حسب السلع المعروضة، فأقوم باقتناء السلع باستعمال السلة أو عربة التسوق والتجول بين الرفوف والاختيار بهدوء بدلا من طلب السلع من البقال الذي يتذمر أحيانا من تلبية طلبات الزبائن الكثيرة''. من جهتها قالت السيدة ''عائشة''، عاملة بإحدى المؤسسات العمومية، ''إن التسوق اليومي أتعبني وكان يقودني إلى الكثير من المحلات المتفرقة وبعضها بعيد، وهو ما كان يكلفني الكثير من الوقت بين الشراء والعمل بتحضيرات بالمنزل''. في حين تقول السيدة ''أمال'': ''إن وجود هذا الكم الهائل من البضائع على اختلافها، يساعدني على اقتناء كل ما أريده من مكان واحد، إلى جانب التخفيضات التي تفرضها بعض المنتوجات، وبالتالي اربح راحتي وراحة جيبي والكثير من الوقت''. نفس الرأي جاء على لسان السيدة ''سعاد'' التي أشارت إلى أنها تفضل اللجوء الى ''السوبيرات'' لاقتناء احتياجاتها رغم بعدها قليلا عن الحي الذي تقطن فيه ورغم الزيادة الطفيفة التي تميز بعض السلع المعروضة بها، مرجعة سبب ذلك إلى إيجابياتها الكثيرة والمتعلقة بإتاحة فرصة التسوق بطريقة حضارية في فضاء يتميز بالنظافة والجمال وجاذبية أغلفة المنتجات التي تعرضها، فضلا عن كونها تجنب التعب الناجم عن عناء التنقل إلى عدة محلات لاقتناء كافة الاحتياجات. وترى محدثتنا أن الفضاءات التجارية البديلة تؤدي بها في كل مرة إلى اكتشاف مواد استهلاكية وسلع جديدة لم تكن تعرفها من قبل، بل وتساعدها على تذكر بعض المستلزمات المنسية. من جهته يضيف محمد، بائع في إحدى السوبيرات بالعاصمة، أن الجو العام لهذه الفضاءات التجارية الكبرى يساعد على قضاء مشتريات في ظروف أفضل، كما أن الاعتماد على التجديد اليومي لمقتنيات السلع، هو أهم سبب لاستقطاب الزبائن الذين يبحثون دائما عن السلعة الطازجة والجديدة. ويذهب محمد إلى أبعد من ذلك؛ حيث يؤكد استعانة إدارتهم بخبراء في الماركتينغ أو التسويق، وهو ما يبدو جليا في طريقة تصفيف السلع على الرفوف واختيار مكانها، ما يساعد الزبون على تحديد مقتنياته. ''السوبيرات''.. تهدد التجار الصغار وتخلق عدوى توسعة البقالات في الوقت الذي لم يكن الجزائري يستغني عن بقالة الحي، وهو الأمر الذي صار يؤرق أصحاب المحلات التجارية ويهدد نشاطهم، حيث تشهد معظم البقالات المتواجدة بأحياء وشوارع بلديات العاصمة، نوعا من التراجع بعد ظهور الفضاءات التجارية الكبرى. وبعض باعة المواد الغذائية العامة يرون في المقابل أن مستقبل مهنتهم مهدد في كل لحظة، وفي هذا الصدد أكد بقال بشارع الإخوة خلادي بالجزائر الوسطى أن هذه الأزمة تشمل العديد من البقالات الموجودة في العاصمة، نتيجة انتشار الفضاءات التجارية الضخمة في السنوات القليلة الأخيرة، والتي تقوم سياساتها التجارية على تقديم سلع متعددة، تتنوع بين المحلية والمستوردة وأسعار مناسبة، وخدمات أسهمت في اكتساب أعداد كبيرة من الزبائن، على حساب تجار التفصيل للمواد الغذائية، ولذلك تأثرت البقالات في السنوات الأخيرة بشكل كبير، ما جعل أصحابها يفكرون في توسيع محلاتهم الصغيرة، وإعادة تهيئتها للإبقاء على زبائنهم، فثقافة التغيير والتوسيع دخلت فعلا الى عقول أصحاب محلات بقالة الحي، فمنهم من عمل على توسعة محله ومنهم من عمل على كراء مستودع اكبر منه، من اجل ضم وتوفير كل حاجيات الأسرة من مواد غذائية، خضر ومواد التنظيف والتجميل والألبسة والألعاب وفق أجود الأنواع ومختلف الأسعار ومن ماركات أجنبية مستوردة وأخرى محلية جزائرية، حيث وقفنا على العديد من المحلات التجارية التي قام أصحابها بتوسيعها واستفسرناهم، وكلهم أجابوا من أجل الحفاظ على زبائننا، وخاصة أن الجزائريين ينجرون وراء كل ما هو جديد ويحبون تجربته. حقيقة ما لمسناها في جولتنا أن معظم المحلات توسعت، رفوفها مرتبة بشكل جديد، توفير سلة التسوق للزبائن، فالتغيرات هاته من شأنها أن تبقي الزبائن وهو الشيء الذي يدفعهم للتوجه للفضاءات التجارية الكبرى التي تعرض كما هائلا من السلع. وليس بعيدا عن هذا أشار تاجر بعين البنيان بمحل البهجة للمواد الغذائية العامة، إلى أن بعض الزبائن يترددون على محله لاقتناء بعض الحاجيات الصغيرة فقط، التي ينسون اقتناءها في المساحات التجارية الكبرى، وأفاد أن دكانه أصبح أقرب إلى بقالة للاحتياجات المنسية من محل تجاري مثلما كان عليه في الماضي، مبديا قلقه على مصير نشاطه في المستقبل بعد أن تراجع الإقبال بنسبة 70 في المائة حسب تقديراته الشخصية، لأن المستهلك صار يفضل شراء احتياجاته دفعة واحدة في تلك الفضاءات التي تعرفه في كل مرة على سلع جديدة ليس بوسع البقال أن يجلبها نظرا لمشكل الضيق. ''المساحات التجارية الكبرى تبيع كل شيء إلا المنتجات الوطنية'' فاقت فاتورة الاستيراد مبلغ 38 مليار دولار في سنة ,2008 وهو ما أثار ليس فقط قلقا داخل الحكومة ولكن أيضا وسط المواطنين الذين لم يفهموا سر ارتفاع فاتورتهم الغذائية من سنة لأخرى. غير أن هذا القلق سرعان ما يفقد سره بمجرد الدخول إلى أول مساحة كبرى تصادفك في الطريق التي تعرض كل ما تلفظه مصانع أوروبا وآسيا وأمريكا، دون أن تجد وسطها أي مكان للمنتج الوطني. الجزائر تحولت إلى ''بازار'' يباع فيه منتوج كل جنسيات العالم باستثناء إنتاج البلد. في أقل من 15 سنة، انتقلت فاتورة الاستيراد للجزائر من 8 ملايير دولار العام 97 إلى ما يزيد عن 38 مليار دولار في السنة الماضية، تمثل فيه الفاتورة الغذائية من حبوب، حليب ودواء قرابة ال 8 ملايير دولار، وهي ميزانية دفعت الحكومة إلى التدخل عن طريق فرض إجراءات للحد من هذا الاستيراد الفوضوي الذي يكلف الخزينة العمومية أعباء ثقيلة. لقد قررت الحكومة ضرورة إشراك الجزائريين بنسبة 30 بالمائة في شركات الاستيراد الأجنبية وذلك قصد التحكم أكثر في نوعية المنتجات التي تغزو السوق الوطنية. يكفي التجول في أروقة أي مساحة كبرى من المساحات التي انتشرت في السنوات الأخيرة مثل الفطريات، لتفهم لماذا لم يساهم تحرير التجارة الخارجية ورفع احتكار الدولة عن هذا القطاع في تطوير الاقتصاد الوطني بقدر ما عمل على فرض ضغوط جديدة عليه، جراء ما يسميه المتعاملون الاقتصاديون المنافسة غير الشريفة التي تواجه المؤسسات الوطنية. من مؤسسة ''كارفور'' الفرنسية إلى أصغر ''سوبيريت'' في دالي إبراهيم أو حيدرة تكاد تكون الصورة موحدة، كل الرفوف مزينة بمنتجات ''ماد إن'' ما وراء البحر، ولا مكان وسطها للإنتاج الجزائري اللهم باستثناء المياه المعدنية وبعض علب ''الياغورت''. فهل تدهورت الصناعة الوطنية إلى درجة لم نعد قادرين على إنتاج ''القوفريت'' واللبان والمكانس ومنشفات التنظيف؟ .. بقالات قليلة لا تزال تقاوم الانقراض من خلال الاستطلاع تبين أن بعض المستهلكين ورغم أنهم استحسنوا فكرة ظهور مراكز تسوق مواكبة للتطورات العصرية، إلا أنهم يستبعدون فكرة انقراض البقالات، ومن ضمنهم السيد ''عامر'' الذي يرى أن التسوق في ''السوبيرات'' فكرة موفقة استقطبت السواد الأعظم من الناس ممن يستهويهم شراء سلع توجد في مكان مكيف لا مجال فيه لخطر الفساد. ويتابع المواطن ''صحيح أن الفضاءات التجارية الكبرى بصدد الانتشار، ولكن هذا لا يعني أن البقالات الصغيرة في طريقها للزوال، لاسيما على مستوى الأحياء الشعبية، حيث لا تسمح الإمكانات المادية لكل الأسر بالتسوق في المراكز التجارية الكبرى واقتناء كم هائل من السلع، الى جانب شريحة من النسوة وفية لبقال الحي، على غرار السيدة راضية، وهي موظفة في مؤسسة عمومية، التقينا بها خارج السوبيرات، سألناها عن الموضوع، قالت إنها لا تستغني عن بقال حيها، خاصة أنه يقع في الطابق السفلي من العمارة التي تقطن فيها، فهي تشتري من عنده كل ما يلزمها، مشيرة إلى أنها لا تتوجه للفضاءات التجارية الكبرى إلا نادرا نظرا لبعدها عن مقر إقامتها، فلابد من امتلاك سيارة لقصدها، إذ يستحيل التوجه إليها سيرا على الأقدام على حد قولها. وبما أن بعض البقالين اهتدوا إلى فكرة توسيع محلاتهم للحفاظ على زبائنهم، يبقى مطلب المواطن البسيط هو عقلنة الأسعار والتقيد بشروط النظافة. ويبقى للدكان الصغير في الحي الشعبي مكانه عند الناس البسطاء، خاصة أن بقال الحي هو الوحيد الذي يتحمل الديون ويساعد المحتاجين والطبقة الفقيرة، ينتظر حتى آخر الشهر حتى يسدد المواطن ما عليه من ديون.