قبل ألف وأربعمائة عامًا -تزيد قليلاً- هاجر النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، من موطن الكبت والقهر والظلم والحصار إلى موطن الحرية والعدالة والمساواة والعز والتمكين، وكان ذلك بصحبة الصديق رضى الله عنه، وكانت هناك الكثير من العبر والدروس المستفادة من هجرته ، ومنها: - معية الله لأوليائه المؤمنين ونصرته لهم، ويتجلى هذا في حفظ رسول الله في الغار من أن تناله أيدي المشركين ثم نجاته من سراقة بن مالك. - الثقة المطلقة بالله وبنصره وتأييده، ويتجلى هذا الدرس في قوله : "ما ظنك باثنين الله ثالثهما". ثم في عدم تلفته عندما لحقه سراقة، وكأن الأمر لا يعنيه ، ثم في إعطائه سراقة كتاب أمان، وهو الذي يخرج من بلده مهاجرًا، لكنه كان يرى نصر الله له ويرقبه ويتيقنه كما يتيقن الشمس في رابعة النهار. - الأخذ بالأسباب المادية لا ينافي التوكل، فها هو صلى الله عليه وسلم حال هجرته يأخذ شتى الوسائل المادية المتاحة له، فيستخفي بالظهيرة ثم بسواد الليل ثم بتجويف الغار، ويسلك طريقًا غير معتادة، وينطلق جهة الجنوب ومقصده الشمال، ويستعين بكافر قد أمنه... لكن ذلك كله لم ينسه أن يتوكل على ربه ويعتمد عليه. وهذه الأسباب التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن كافية لإبعاد قريش عنه، فقد وصلت قريش إلى غار ثور، لكن الله حجبه عنهم فلم يصلوا إليه بسوء. يقول ابن حجر: "فالتّوكّل لا ينافي تعاطي الأسباب؛ لأنّ التّوكّل عمل القلب وهي عمل البدن، وقد قال إبراهيم عليه السّلام: {وَلَٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]. وقال عليه الصّلاة والسّلام: "اعقلها وتوكّل"[1]. وقال الشّيخ أبو محمّد بن أبي جمرة رحمه الله: "مهما أمكن المكلّف فعل شيء من الأسباب المشروعة لا يتوكّل إلا بعد عملها؛ لئلاّ يخالف الحكمة, فإذا لم يقدر عليه وطّن نفسه على الرّضا بما قدّره عليه مولاه، ولا يتكلّف من الأسباب ما لا طاقة به له".قال ابن حجر: "الأسباب إذا لم تصادف القدر لا تجدي"[2]. وقال بعد أن ذكر أقوال العلماء في العلاقة بين الأسباب والتوكل: "والحقّ أنّ من وثق باللّه وأيقن أنّ قضاءه عليه ماض لم يقدح في توكّله تعاطيه الأسباب اتّباعًا لسنّته وسنّة رسوله, فقد ظاهر في الحرب بين درعين, ولبس على رأسه المغفر, وأقعد الرّماة على فم الشّعب, وخندق حول المدينة, وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة, وهاجر هو, وتعاطى أسباب الأكل والشّرب, وادّخر لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السّماء, وهو كان أحقّ الخلق أن يحصل له ذلك, وقال الّذي سأله: أعقل ناقتي أو أدعها؟ قال: (اعقلها وتوكّل)، فأشار إلى أنّ الاحتراز لا يدفع التّوكّل, واللّه أعلم"[3]. - جواز استخدام المعاريض في دفع الشر والبلاء، كما صنع الصديق حين كان يخبر من قابله في طريق الهجرة بأن النبي دليله في الطريق، فيفهم المخاطب أنه طريق السفر، وهو يقصد الطريق إلى الجنة. قال ابن تيمية في بيان جواز استخدام المعاريض في بعض المواطن، بل وجوبها: "وقد يكون واجبًا إذا كان دفع ذلك الضرر واجبًا ولا يندفع إلا بذلك، مثل التعريض عن دم معصوم وغير ذلك، وتعريض أبي بكر الصديق رضى الله عنه قد يكون من هذا السبيل"[4]. وبيّن -رحمه الله- الفيصل بين ما يحل وما يحرم من المعاريض فقال: "والضابط أن كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام لأنه كتمان وتدليس، ويدخل في هذا الإقرار بالحق والتعريض في الحلف عليه، والشهادة على الإنسان والعقود بأسرها، ووصف العقود عليه والفتيا والتحديث والقضاء إلى غير ذلك، وكل ما حرم بيانه فالتعريض فيه جائز بل واجب"[5]. قال ابن حجر: "ومحلّ الجواز فيما يخلّص من الظّلم أو يحصّل الحقّ, وأمّا استعمالها في عكس ذلك من إبطال الحقّ أو تحصيل الباطل فلا يجوز"[6].وقال النووي: "استعمال المعاريض عند الحاجة ... وشرط المعاريض المباحة ألا يضيع بها حقّ أحد"[7]. - العفة والزهد فيما عند الناس رغم الحاجة إليه؛ درس آخر من دروس الهجرة، حيث عرض سراقة بن مالك عليه الزاد والعون وهو أحوج الناس يومذاك إليه، يقول سراقة: وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قال: "أخف عنا"[8].وفي الصحيح عنه أنه قال: "ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله"[9]. - جواز الاستعانة بالمشرك إذا أمن شره ومكره؛ فقد استعان النبي بعبد الله بن أريقط فكان دليله في سفره وكان "هاديًا خرّيتًا (والخريت: الماهر بالهداية) قد غمس حلفًا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش فأمناه"[10]. - بذل الصحابة أنفسهم وأموالهم وأهليهم فداء لنبي الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد نام عليٌّ في فراشه ليلة خروجه، وكان الصديق شريكه في أهوال رحلة الهجرة، فيما جهد ولداه عبد الله وأسماء ومولاه عامر في خدمة النبي ، وهذا من علامات الإيمان وضروراته، قال : "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين"[11]. - دلائل صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ثباته في الغار، وحين دهمهم سراقة، وذلك لا يتأتى إلا لمن علم أن ربه لا يسلمه إلى عدوه. ومنه أيضًا معجزاته عليه الصلاة والسلام فقد ساخت يدَا فرس سراقة لما همه بالسوء، كما حلبت شاة أم معبد وهي عجفاء لم يطرقها فحل -كما جاء في بعض الروايات- لما مسّ ضرعها.