كان يكفى أن يتعرض شاب بطال لمصادرة طاولة البيع من طرف مصالح الشرطة في أحد شوارع مدينة سيدي بوزيد، حتى تنتقل شرارة الغضب الشعبي بسرعة النار في الهشيم، وتمتد شرارتها إلى عدة مدن تونسية في ظرف قياسي، رغم مسارعة نظام الرئيس بن علي وأجهزته القمعية إلى محاصرة المحتجين. وحتى وإن غذت مطالب اجتماعية بسيطة شرارة الغضب، إلا أن تلك البساطة لم تترك أي مجال للشك في أن تونس توجد فوق كف عفريت، ويكفي هبوب نسمة وليس عاصفة هوجاء، ليهتز عرش الرئيس بن علي، وهو ما عكسته أحداث سيدي بوزيد التي يتجاذب اليوم أكثر من جهة من أقصى اليسار إلى اليمين إلى الإسلاميين، لرسملتها لصالحه وكسب نقاط ومواقع تحسبا لمرحلة ''انفتاح'' في تونس آتية عاجلا أو آجلا، بعدما أحرق نظام بن علي طيلة 20 سنة من القبضة الحديدية، كل أوراقه إلى درجة أن مسح ''الموس'' في الأيادي الخفية أو اتخاذ وزراء ككبش فداء لم تعد تغير أو تقنع أحد في الشارع التونسي الذي يرى أن تونس التي ضيعت قطار الديمقراطية مقارنة بجيرانها المقربين، ليس بمقدورها أن تظل تخزن رأسها كالنعامة في عصر لم تترك فيه تسريبات ''ويكيليكس'' مجالا للدبلوماسية العالمية للتفاوض تحت الطاولة أو فوقها، خصوصا ما تعلق بالحقوق السياسية والاجتماعية. بعد 20 سنة من القبضة الحديدية وقمع المعارضة في تونس نظام الرئيس بن علي أمام معادلة التجدد أو التبدد هل كانت أحداث سيدي بوزيد في تونس بمثابة دق الطبول على نظام الرئيس بن علي الجاثم على قلوب التونسيين منذ عام 87 وإيذانا له بأنه وصل إلى حدوده القصوى، وأن حالة ''الثوران'' للبركان التونسي الخامد لا يمكن أن يوقفها سوى المبادرة بفتح المجال لديمقراطية حقيقية تتماشى وتطلعات الشعب تونس؟ يشبه العديد من نشطاء حقوق الإنسان أو رجال السياسة في تونس، نظام الرئيس بن علي في تسييره للشؤون البلاد بأنه أقرب ما يكون إلى تسيير ''ثكنة كبيرة'' بسبب سياسة التضييق والغلق السياسي والإعلامي المفروض على تحركات الأحزاب والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني. وحتى ما يتباهى به النظام من تحقيقه لنسب نمو اقتصادي ومن رخاء اجتماعي في ميادين التعليم والصحة والسياحة، لتغطية محرماته في مجال الحريات العامة، لا يرى فيه البعض نتائج تحفظ ماء وجه النظام، لكونها نتائج لم يشعر بها كافة التونسيين، بدليل أن احتجاجات سيدي بوزيد كشفت أن عملية التنمية تسير بخطى عرجاء ولم تمس كل مناطق البلاد. وبعدما كانت الاحتجاجات والمظاهرات السابقة على قلتها في السنوات الماضية، يطالب نشطاؤها خصوصا من المحامين والحقوقيين في الرابطة التونسية لحقوق الإنسان بإصلاحات سياسية ودستورية وبمزيد من الانفتاح على المعارضة، اختلفت الصورة هذه المرة خلال المظاهرات التي انطلقت شرارتها الأولى من منطقة سيدي بوزيد المعروفة بأنها أحد قلاع النشاط النقابي بتونس، بحيث تصدرت المطالب الاجتماعية على غرار البطالة وفتح مناصب شغل جديدة ومسألة غلاء الأسعار لائحة القضايا المطروحة من طرف المحتجين، وفي ذلك رسالة على أن الأطروحة التي ظل الرئيس بن علي يواجه بها خصومه في الداخل ويسكت بها ضغوط الشركاء في الخارج التي تطالبه بإصلاحات ومزيد من الانفتاح والديمقراطية، من أنه حقق أفضل معيشة للتونسيين، ونجح في تطوير الاقتصاد، لم تعد تقوم لها قائمة بعد هذه الأحداث التي فضحت كل شيء وأظهرت تونس في صورة مغايرة تماما عما كان يسوقه النظام، صورة لشبان تونسيين في قمة اليأس والبؤس الاجتماعي. إذ عندما يقدم شاب على الانتحار من أجل الظفر بمنصب شغل، فهي صورة تعكس لوحدها أن نظام بن علي لم يعد بمقدوره فتح آفاق جديدة وقد وصل إلى حدوده القصوى، خاصة وأن طالبي العمل يملكون شهادات جامعية وأعدادهم بالآلاف. فكيف تتجاهلهم مخططات التنمية إن كانت موجودة حقا؟ وسبق أيضا أن هجر سكان المناطق الحدودية بتونس باتجاه الجزائر منذ سنتين، فرارا مما أسموه تدهور ظروف المعيشة بفعل غياب برنامج تنموية في هذه المناطق التونسية المعزولة، ويومها حاول النظام التونسي تبرير ذلك بكونها عمليات معزولة لا علاقة لها بالوضع العام في تونس.. استمرار النظام في سياسة الهروب عن مواجهة الواقع واعتماده سياسة الغلق السياسي قد جعل الغليان الاجتماعي شبيه بالهواء المضغوط داخل طباخة ''الكوكوت مينوت''، خصوصا وأن هذا السلوك ظل معتمدا من طرف نظام بن علي منذ أكثر من 20 سنة. فهل بالإمكان كتم أنفاس التونسيين طيلة عقدين دون أن يحدث ذلك الانفجار؟ إذا كان التونسيون قد تنازلوا كرها عن حقوقهم السياسية والديمقراطية، بعد مطالب أجهضت بهراوات البوليس في الكثير من المرات بشوارع تونس، فلا يبدو أنهم مستعدون للتنازل عن حقوقهم الاجتماعية في العيش الكريم، والتي لم يعد النظام قادرا على تحقيقها، ولم يعد أيضا مقنعا ببعبع الإرهاب أو الإسلاميين الذي ظل الرئيس بن علي يستعمله كشماعة لتخويف المواطنين ودفعهم لقبول أطروحاته برفض أي إصلاح سياسي في البلاد. والنتيجة أن تونس تمر بحالة مخاض قد يولد معها عهد جديد، فهل حانت ساعة الحقيقة. الناشطة سهام بن سدرين تقرأ ل''الخبر'' أحداث سيدي بوزيد''بدون فرنسا لا يمكن لنظام بن علي أن يستمر'' تعتبر الصحفية والناشطة الحقوقية التونسية سهام بن سدرين، الأوضاع المضطربة التي تعيشها تونس بمثابة ''تكذيب لاذع للصورة التي سوّقها نظام بن علي بخصوص ازدهار اقتصادي مزعوم في تونس''. وترى بأن النظام التونسي ما كان ليستمر لولا دعم الاتحاد الأوروبي وخاصة فرنسا. قالت الناشطة التونسية المعروفة سهام بن سدرين، في اتصال هاتفي مع ''الخبر'' إن أحداث تونس ''كذبت تكذيبا قاطعا مزاعم النظام التونسي والصورة التي قدمها للعالم حول رفاهية تونس، والمجالات التي نجحت فيها وفشل جيرانها''. وأفادت بأن تلك الصورة التي يعرفها العالم عن تونس ''انتزعتها الأحداث بشكل فظيع، وأظهرت البلد على حقيقة جلية هي وجود اختلالات كبيرة في التوازن بين جهات البلاد''. ويتميز الوضع في تونس، حسب الصحفية التي تواجه مشاكل كبيرة مع السلطة في تونس، بغياب تام لفرص العمل ''ولكن أيضا وهو الأخطر أن السلطة تتعامل مع الشباب العاطل عن العمل بعقلية أمنية بوليسية، وتعتدي يوميا على كرامته''. وتقول إن الشاب الذي أقدم على حرق نفسه في سيدي بوزيد ''كان القطرة التي أفاضت الكأس، فالبوليس يداهم المقاهي التي يرتادها الشباب لاقتيادهم إلى مخافر الشرطة بدون تهمة ولا حتى شبهة، وإنما لترهيبهم وفرض استراتيجية الخوف على الشعب''. ودفع هذا الوضع، حسب بن سدرين، بالشباب التونسي ''إلى المخدرات كملجأ يهربون إليه، وإلى البحر يركبونه نحو أوروبا، ويجدون في الانتحار في بعض الأحيان وسيلة للهروب من واقع مرير''. وقد اتهم الرئيس زين العابدين بن علي ''أياد أجنبية'' كتفسير للأحداث. عن مدى صحة ضلوع طرف أو أطراف من خارج تونس، في ''ثورة البطالين''، تقول سهام بن سدرين ''لا أعرف لمن تتجه هذه التهمة بالضبط، لكن ذلك تكتيك قديم يحتمي به نظام بن علي عندما يواجه متاعب، فهو دائما يلقي بالمسؤولية على الآخرين ولكنكم تلاحظون أنه لم يذكر أية جهة لأنه ببساطة لا يوجد أي أحد من خارج تونس متورط في تلك الأحداث، فما وقع رد فعل عفوي على الاعتداء على كرامة المواطنين التونسيين''. ولا تجد بن سدرين مبررا للأزمة الاجتماعية التي فجرت الأوضاع فجأة في تونس، وتقول إن البلد يتوفر على طاقات وقدرات كبيرة ''لكنها محل نهب من طرف عائلة بن علي، وما لا يعرفه الكثير من خارج تونس أن شركات عمومية تم خوصصتها وتملكتها عائلة بن علي. يكفي فقط أن أذكر بأن كل المؤسسات الإعلامية الخاصة بدون استثناء، يملكها أفراد عائلة بن علي''. ومن بين هذه المؤسسات، إذاعات ''موزاييك أف أم'' و ''جوهرة أف أم'' وأكسبريس أف أم'' و''شمس أف أم'' و''راديو زيتونة''. وحول احتمال أن تدفع الأحداث بالنظام إلى فتح المجالين السياسي والإعلامي، كما وقع بالجزائر بعد أحداث 5 اكتوبر 1988، تقول بن سدرين ''كان رجاؤنا أن يستوعب النظام الرسالة فيبادر بحل سياسي للأزمة، لكن الجميع سمع خطاب الرئيس بن علي الذي غلبت عليه لغة التهديد، فهو لا يتقن إلا لغة الهراوة''. وتضيف الناشطة التونسية ''بدون فرنسا والاتحاد الأوروبي لا يستطيع هذا النظام أن يستمر، لهذا أطبقت باريس وعواصم أوروبا الصمت إزاء الأحداث رغم خطورتها، فهم متواطئون مع النظام''. الجزائر: حميد يس نظام بن علي يتهم الغاضبين بتسييس الملف دون توصيف احتجاجات شعبية تبحث عن ''تبني'' سياسي الاحتجاجات الشعبية التي تقوض محافظة سيدي بوزيد ومناطق أخرى بتونس، منذ أيام، أظهرت مدى هشاشة المعالجة الرسمية لاحتجاجات كثيرا ما أثارت تساؤلات إن كانت عفوية أم مخطط لها؟ سياسية أم اجتماعية بحتة تحركها البطالة والفقر؟ يشبه المتتبعون الاحتجاجات الحاصلة في منطقة سيدي بوزيد ومناطق أخرى بتونس، بانتفاظة خمسة أكتوبر 1988 في الجزائر التي وإلى الآن لم يحصل هناك إجماع حول دوافعها وأسبابها الحقيقية، بيد أن نتائجها حملت مؤشرا على أن الأسباب كانت ضمان الانتقال من نظام الأحادية إلى التعددية، ما حصل فعلا، غير أن أحداث سيدي بوزيدبتونس انطلقت من حادث واحد، تمثل في حرق مواطن جسده بالبنزين، قبل أن يستفحل الغضب بأرجاء المنطقة، ثم تونس ككل انتقاما من أوضاع اجتماعية مزرية وبطالة خانقة. واختلفت التخمينات حول إن كان المنحى الخطير الذي اتخذته الاحتجاجات، حركته أطراف وجدت في انتفاظة المواطنين قطار يركب إلى حلم ''التغيير'' فزادت تطعيمه بشحنات من الغضب لم تعهده تونس قبل اليوم، غير أن فرضية ''اليد الخفية'' مازالت لم تنضج بعد، وإن اتهم الرئيس بن علي المتظاهرين بتسييس القضية، إلا أن الجهة المحركة -إن وجدت- بقيت خفية، في مقابل سعى الحقوقيون إلى تفنيد ''مزاعم'' السلطة على أن ''الاحتجاجات ذات خلفية اجتماعية والمطلوب الاستجابة لمطالب المواطنين''، ويقول مدافع حقوق الإنسان، التونسي إياد الدلهامي المقيم بباريس في تحليله الوضع ''هناك حالة من الاحتقان السياسي والاجتماعي في البلاد، وغياب لكل الأطر للحوار والتفاوض مع السلطة، مما يحول هذا الاحتقان في لحظة من اللحظات وبفعل وجود حدث معين إلى انفجار الوضع، مثلما حدث في منطقة الحوض المنجمي، ومدينة الرديف تحديدا، أو مثلما حدث في بن قردان، أو مثلما حدث أيضا ولو بشكل ونسب متفاوتة في مدن أخرى مثل الصخيرة، أو بوسالم، أو جندوبة أو أريانة''. وأضفت تحليلات الخارج على الوضع في تونس صبغة سياسية كون ما يحدث بمثابة فسحة للتنفيس على كبت اجتماعي فرضته حالة القمع السياسي وكبت الحريات العامة في البلاد. التحليل الذي أيده العديد من المحامين في تونس، بينما قدم الاتحاد العام التونسي للشغل إشارات على أن هناك أسباب خفية للاحتجاجات، دعا في بيان له، السلطات إلى ''البحث عن أسباب الحقيقية ومعالجتها''. وإن كانت انتفاظة سيدي بوزيد قد سبقتها احتجاجات في السابق، إلا أنها لم ترق من حيث القوة إلى مصاف الاحتجاجات الأخيرة، التي تفادى فيها المحللون تحمل مسؤولية اتهام أي جهة سياسية بالوقوف وراءها، رغم أنها تحمل بصمة سياسية في الأسباب الظاهرة للتصعيد، على اعتبار أن عديد الحقوقيين والمنظمات غير الحكومية حذرت نظام بن علي من عواقب الاستمرار في غلق المجال السياسي. ورغم أن الإسلاميين، التيار الأقرب لتحمل ''التهمة'' نظرا لمعارضة نشطائه للنظام الحاكم وانتقادهم المستمر لسياساته، وتأييدهم للمطالب المرفوعة، إلا أنهم لم يتهموا صراحة، من أي طيف سياسي، حتى وإن كان التيار العلماني أو القريب من التوجه العلماني المحسوب عليه عائلة بن علي. وعوض الغضب الشعبي في تونس، ما عجز عنه السياسيون، أمام ''نظام الحكم المنغلق''، ما يعني أن الانفجار الاجتماعي سهل الحدوث في ظل هذا الوضع، ولا ينتظر صفارة من سياسيين معارضين، بل إن السياسيين في حالة احتجاجات سيدي بوزيد هم من استأنسوا بالمحتجين وليس العكس. ويوضح في هذا الشأن المحامي التونسي الدهماني ''النظام التونسي نظام منغلق، ليس فيه فضاءات للحوار. وبنية النظام استبدادية، ولهذا تطالب قوى المعارضة بضرورة إجراء حوار وطني يشارك فيه الجميع، من أجل مراجعة هذه السياسات، ومن أجل تنمية اقتصادية واجتماعية تكفل التوازن الجهوي''. الجزائر: محمد شراق بن علي وصف أحداث تونس ب''عمل إرهاب'' وصف الرئيس التونسي الاحتجاجات الدامية التي عاشتها تونس في الأسابيع الماضية بالأعمال ''الإرهابية''واتهم ''أطرافا خارجية'' و''عصابات ملثّمة'' بتأجيج الأوضاع، في خطاب تلفزيوني ألقاه أمس. وأعلن في نفس الوقت عن مشاريع هامة لإنشاء 300 ألف منصب شغل في جميع المجالات. ودعا إلى الاستشارة بين الأطراف الفاعلة في المجتمع. في هذه الأثناء تواصلت الاحتجاجات وسقط ضحايا في المواجهات بين المحتجين وأعوان الأمن. فيما ندّد الاتحاد الأوروبي بالقمع الذي مورس ضد المحتجين، ودعت الحكومة التونسية إلى إطلاق سراح المعتقلين. كما أدانت فرنسا تلك الانتهاكات ودعت الولاياتالمتحدة سفير تونس بواشنطن للاستفسار في وقت سابق. ق. د 25 قتيلا والسلطة تتفهم مطالب المحتجين بلغ عدد قتلى الاضطرابات الاجتماعية التي تعيشها تونس منذ الثامن عشر من الشهر المنصرم 25 ضحية حسب المصادر النقابية التونسية، التي يبدو أنها تؤطر الاحتجاجات، أربعة عشر من هؤلاء القتلى سقطوا يوم أول أمس بمدينتي تالة والقصرين المحاذيتين للحدود الجزائرية. في هذا الوقت، أخذ خطاب السلطة من هذه الأحداث الدامية منحنى مهادنا، حيث أعلن وزير الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة التونسية، سمير العبيدي، تفهم السلطة للاضطرابات، وقال بأن الحكومة فهمت جيدا الرسالة وستتخذ إجراءات تصحيحية، وقال في حوار له مع قناة الجزيرة القطرية ''سنستخلص العبرة من أجل تصحيح ما يمكن تصحيحه''. ق.د