صراعات الأشخاص، والجدل الذي يثيرونه من حين لآخر، ليس هو التاريخ. هو جزء من الذاكرة لا غير. وبين التاريخ والذاكرة، يوجد فرق شاسع. الذاكرة هي اعترافات الأشخاص الفاعلين في الحدث التاريخي. هي مذكرات تكتب لتخليد دور الفرد في حركية التاريخ. أما التاريخ، فهو علم له قواعده، وله صرامته العلمية التي تغربل الشهادات والمذكرات وفق نظرة علمية تبتعد عن الذاتية وتقترب من الموضوعية. في مجال الذاكرة، يصبح الصراع الشخصي وتصفية الحسابات هما الأمران الغالبان. أما في التاريخ، فالغلبة للموضوعية. مع صراع الأشخاص الفاعلين، قد يتحسس الإنسان، لأن الشهادة تقوم على الذاتية، وعلى المعايشة الشخصية، وهي تكتب من قبل إنسان فاعل، بميوله وتوجهاته وأفكاره التي تطغى على كل شيء. لكن مع التاريخ، لا مجال لهذه الذاتية التي تطغى على الشهادة التي يقدمها الفاعل. وفي أغلب الأحيان، يصفي الفاعل حساباته مع التاريخ. أما المؤرخ، فهو بعيد عن هذه الخزعبلات، لا يعمل لتصفية حسابات يملكها مسبقا، ولا شيء من هذا القبيل. فهو يتجرد من تلك النزعة التي ترمي إلى تصفية حساب ما. وهذه النزعة تصبح جزءا من جهد علمي يسعى المؤرخ لإبرازه، قصد دحضه وتفكيكه، اعتمادا على منهج علمي صارم، لا يقبل التلاعب بالأحداث، ولا يُغلب الذاتية، ولا يسعى لتصفية أية حسابات. حتى المذكرات ليست هي التاريخ، بل إنها خطوة نحو كتابة التاريخ. هي جزء من التاريخ. وخطوة ضرورية، ولا بد منها، بالأخص بعد تغييب دور الفرد خلال الثورة، والاعتماد على فكرة أن الشعب هو البطل الوحيد. ومنذ التسعينيات، ساعد الانفتاح الديمقراطي على منح الفرد فرصة للحديث والكلام والتعبير عمّا قام به خلال الثورة أو الحركة الوطنية. لكن للأسف، هذه الفرصة جاءت محمّلة بكثير من الأحقاد الماضية. حملت كل شيء. جاءت مليئة بالترسبات التي نتجت عن خلافات ما قبل الثورة. اعتمدنا على تصور خاطئ لكتابة تاريخ الثورة. بحيث تم الخلط بين الذاكرة والتاريخ، وكل ما كتب من مؤلفات قبل التسعينيات كان عبارة عن صراع الذاكرة مع المستعمر. قدمنا الذاكرة، وأقصينا التاريخ. وهنا، تكثر الطرائف التي كنا نشاهدها في الأشرطة الوثائقية التي كانت تبث في التلفزيون خلال مرحلة الثمانينيات، كان يعطى لخيال الفاعلين أولوية قصوى للحديث عن الحقائق، دون الاعتماد على رأي المؤرخين، حتى وإن كان هؤلاء قد اندمجوا خلال تلك المرحلة ضمن تصور سياسي معيّن لا يقبل النظرة العلمية، بقدر ما يقبل التمجيد والتبجيل اللذين يسيران بالموازاة مع الذاكرة، وليس مع التاريخ. المؤرخون، بدورهم، ساهموا في تأزم الوضع. وإلى اليوم، نجدهم غائبين عن النقاش، ولا يعطون لنفسهم عناء التدقيق في التصريحات والصراعات التي نشاهدها هنا وهناك، بين الحين والآخر. صمت المؤرخ لم يخدم الحقيقة العلمية، ولم يخدم تاريخ الثورة، وكل مجهود المجاهدين والشهداء والشعب الذي ساهم في الفعل الثوري. أبقي الأمور بالقرب من الشك، والاعتقاد بأن الثورة ليست سوى لحظة تقوم على الصراعات الشخصية، بينما الحقيقة غير ذلك تماما. وعليه، لا بد أن نضع تفرقة بين صراعات الأشخاص الفاعلين والتاريخ. بين المذكرات والذاكرة من جهة، والتاريخ كعلم من جهة أخرى. تاريخ الثورة ليس هو صراع بين رجل وامرأة. [email protected]