تنتابك مشاعر الاحترام والتقدير، وأنت تبحث في شخصية الراحل مختار لعريبي، أحد مؤسسي فريق جبهة التحرير الوطني، وصانعي أمجاد الكرة المستديرة السطايفية، وهو الذي لطالما تمتّع بقدرة لامتناهية على العطاء للوطن ولفريق وفاق سطيف. ضحّى بلا مقابل، وأخلص ومنح بلا رياء، فكان عفيفا أخذ بكرامة. بشارع الجزائريين وبحي المحطة ''لا نفار''، وفي شهر فيفري من عام 1924 جاء إلى هذا العالم الطفل مختار، من والدين بسيطين. ولأنه فتى موهوب، بدت عليه ملامح الكبار منذ صغره، مُظهرا إمكانات رياضية كبيرة جعلته يلتحق مبكرا بعالم الكرة المستديرة. ومن أندية سطيف العريقة، كاتحاد سطيف، ولد اللاعب مختار لعريبي في صنف الأشبال. وبعد أن اشتدّ عوده، التحق بمولودية الجزائر سنة 1943 وساهم في تتويج النادي العاصمي بلقب البطولة، ليشدّ الرحال بعد سنتين إلى نادي سات الفرنسي، حيث ساعدته الأجواء على البقاء لمدة سبع سنوات كاملة، ثم تحوّل إلى نادي كان، ولعب موسمين، ومنه إلى لانس، وكان حينها لاعبا دوليا ضمن المنتخب الفرنسي. وعاد الراحل لعريبي من هناك إلى الوطن، مُفضّلا الوجهة العربية، فكانت محطته تونس، حيث درّب ولعب لنادي حمام الأنف، ليعود من جديد سنة 1957 إلى فرنسا من بوابة نادي أفينيون. رحل الرجل وفي جعبته الكثير من الأسرار ولأنه جزائري أصيل، نما وترعرع على حب الوطن، لم يدّخر أيّ جهد في خدمة القضية، وقد التحق مختار لعريبي رسميا بصفوف جبهة التحرير الوطني سنة 1957، حسب تأكيد ابن أخته ورفيقه الدائم اليزيد قيرواني، وكُلّف سنة 1958 رفقة آخرين من طرف الجبهة بتأسيس النواة الأولى لفريق جبهة التحرير الوطني، وكان لعريبي وراء الاتصال بشيخ المدربين عبد الحميد كرمالي، ورشيد مخلوفي وغيرهما، وكان مرفقا بفدائي مهمته تأمين سرية العملية. وقال قيرواني إن لعريبي أكد رفض البعض للفكرة، ورحل دون أن يكشف عن هويتهم، بل رحل وفي جعبته الكثير من الأسرار المتعلقة على وجه التحديد، بظروف تأسيس فريق جبهة التحرير الوطني. وبعد الاتصالات، غادر نحو سويسرا رفقة آخرين، وعقب عبورهم بخمس دقائق فقط الحدود الفرنسية السويسرية، انكشف الأمر، وحدث زلزال حقيقي في فرنسا، ممّا أسال الكثير من الحبر لدى الأوساط الإعلامية وقتها. وأردف المتحدث: ''بتونس بدأت مسيرة قادها لعريبي، لاعبا ومدربا، رافقت سنوات الكفاح المسلح، وساهمت بشكل كبير في صناعة رأي عام لصالح الثورة الجزائرية. وهي الفترة التي التقى فيها لعريبي رفقة أعضاء المنتخب بزعماء عالميين، على غرار ماوتسي تونغ، هوشي منه، الجنرال جياب، الملك الحسين، الرئيس بورفيبة، والعديد من ملوك ورؤساء العالم''. مختار عشق سطيف ولعريبي تزوّج وفاقها يقول اليزيد قيرواني: ''منذ أن أدرك مختار الوجود من حوله، عُرف بحبه الشديد لمدينة سطيف، فكان يعشقها بعمق، ويجد لذة وهو يتجه من بيته بحي بومرشي صوب مقهى ''البوتينيار'' المفضلة لديه.. ليجد نفسه فوق هذا متيّما بحب الوفاق المحلي، الذي درّبه من سنة 1962 إلى غاية .1989 حيث ظل مغادرا الوفاق وعائدا إليه''. يقلب المتحدث صفحات التاريخ، ثم يواصل موضحا: ''توّج مختار مع النادي بكأس الجمهورية الجزائرية، في أول نهائي لها في التاريخ سنة 1962/1963، وهو الموسم الذي لم يذق فيه الوفاق مع لعريبي طعم الهزيمة، وأعاد الكرة بعدها بموسم واحد، لتبدأ معه قصة غرام أخرى جمعت الوفاق بالكؤوس، حيث تحصل مع الوفاق على ثلاثة كؤوس أخرى، وكأس الأندية البطلة، فضلا عن بطولتين وطنيتين''. هذا ما حدث مع المطربة صباح وكانت لشيخ المدربين العرب، عبد الحميد كرمالي، مواقف كثيرة مع الراحل، خاصة أنه كان وراء انتقاله للعب بفرنسا. وممّا حدثنا به كرمالي واقعة فريدة وقعت على ضفاف نيل القاهرة، حيث قصد كرمالي مطعما عائما رفقة لعريبي وحجزا طاولة لهما، وهما في قمة نشوتهما هناك ''وإذا بالفنانة اللبنانية صباح تقصد المطعم نفسه، واتخذت من طاولة أخرى مكانا لها. وهنا، أبدى لعريبي رغبة في مراقصة الشحرورة، ترجيته أن لا يفعل ذلك خوفا من فضيحة قد تحدث أمام الملأ. غير أن مختار المعروف بثقته في نفسه وإصراره، والمشهود له بأناقته طيلة حياته، وعلى طريقة كبار الشخصيات في بهاء تام، اتجه نحو الفنانة صباح بكل وقار، وحيّاها بكل أدب، وطلب منها أن ترقص وإيّاه.. وافقت صباح، فتوقف الجميع عن الرقص، وتحوّلوا إلى متفرجين على مختار وصباح، وأدّى الثنائي رقصة جعلت الجميع يصفق لهما بحرارة''. موقف طريف وآخر مبكي روى رئيس شركة الوفاق الحالي، عبد الحكيم سرار ل''الخبر''، حكاية طريفة جمعته مع الفقيد لعريبي، قائلا: ''كنت ليلة لقاء مهمّ جمع في بداية الثمانينيات الوفاق مع اتحاد الحراش، أتجوّل بين أروقة مكان الإقامة لألقي إطلالات على اللاعبين في غرفهم. غير أن لعريبي شاهدني، فصاح عليّ طالبا مني المجيء. وخوفا منه، هربت واختبأت بغرفتي وأحكمت إغلاق الباب، ليطلب الراحل من إدارة الفندق المفتاح الثاني للغرفة، وأخذ يفتح الباب''. لحظتها، يواصل سرار: ''أصبت بالدهشة والخوف، ولم أجد أمامي سوى سجادة صلاة. وما إن همّ بالدخول، حتى كبرت تكبيرة الإحرام وأقمت الصلاة. حينئذ، وقف لعريبي ينتظر أن أفرغ من الصلاة، وأتذكر جيدا أنني صليت زهاء 18 ركعة بلا تسليم خوفا منه، وقرّرت ألاّ أتوقف عن الصلاة حتى ينصرف، وفعلا انصرف وهو يقول: لم أر في حياتي صلاة كهذه. وصباحا وبصرامته المعهودة، منعني من دخول غرف تبديل الملابس''. قصة مرضه ''الوفاق سيقتلني''.. كلمة نطق بها لسان لعريبي في الكثير من المرات، لاسيما أن العديد من سكان سطيف يجمعون على أنه كان يجهد نفسه كثيرا في أداء مهامه كمدرب للوفاق، وساعات الركض فجر كل يوم شاهدة على ذلك، والتي كان لها الفضل في ميلاد أسطورة النفس الثاني للوفاق الذي حقّق الكثير من انتصاراته في الأشواط الثانية، هذا الانشغال الدائم بالنسر الأسود جعله ينسى مرضه الذي بدأ معه منذ سنة 1986، وهي السنة التي شهدت حدوث عدة مشاكل مع إدارة ناديه الذي غادره، وعاد إليه بعد ذلك نزولا عند رغبة الجماهير. وكان الوفاق قد عرف هو الآخر مشاكل كبيرة ومؤامرات كثيرة، جعلته ينزل إلى القسم الثاني، الأمر الذي زاد الضغط على لعريبي وجعله يصمّم أن يعيد الفريق إلى مكانته، مُتحديا الظروف والمحيط والمرض. وبعد إلحاح العائلة والأصدقاء، قصد لعريبي أطباء مختصين، وكانت تُمنح له في كل مرة نفس الأدوية، إلى أن قرّر السفر إلى باريس للعلاج. رحلة علاج أخيرة وتوجيهات للوفاق عبر الرسائل من باريس أكد اليزيد قيرواني، رفيق لعريبي، في آخر رحلة علاج له بالعاصمة الفرنسية سنة 1989 أن مختار قصد طبيبا مختصا بباريس، أجرى له عملية جراحية بعد أن تأكد من إصابته على مستوى الأذن اليمنى بمرض خبيث. ودامت رحلة العلاج حوالي أربعة أشهر، تكفلت الدولة بشهر واحد. ورغم الداء وعبء الغربة، كان لعريبي يقدّم التوجيهات عبر البريد، وعاد بعدها إلى أرض الوطن، حيث حط الرحال بمعشوقته سطيف في حدود منتصف الليل، وفوجئ بحوالي 2000 شخص ينتظرون عودته سالما. وفي صباح اليوم الموالي ورغم المرض، طلب حضور اللجنة المسيّرة للوفاق إلى بيته واستفسر عن الأحوال، وعلم أن أحد اللاعبين تخلف عن الإمضاء للوفاق، فبعث إليه طالبا الإمضاء بلا تردّد وكان له ذلك. ولم تدم عودته إلى أرض الوطن بعد رحلة العلاج طويلا، حيث سرعان ما تجدد المرض، وساءت حالة لعريبي، مما اضطر ذويه لنقله إلى المستشفى العسكري بالعاصمة، غير أن المنية أبت إلا أن توافيه بمدينته وداخل منزله العائلي بحي بومرشي، في حدود الساعة التاسعة صباحا من يوم 4 سبتمبر من سنة .1989 سطيف تتوشّح بالسواد ولاعبوه يحملون نعشه بزيّ الوفاق بسرعة البرق انتشر خبر وفاته، وبسرعة مماثلة عمّ الحزن أرجاء مدينة توشّحت يومها بالسواد، وبكى أغلب مواطنيها لوعة على فراق رجل الإجماع في سطيف، وخيّم حزن شديد على الكبير والصغير، على المناصر والمواطن العادي، وحمل نعشه من بيته على أكتاف لاعبيه، وهم بزيّ الوفاق الأبيض والأسود، وقد شلّت في ذلك اليوم الحركة بالمدينة. سنوات العطاء قدّرت ب1325 دينارا قدّرت الجهات الوصية بعد وفاة رجل ساهم في تأسيس فريق جبهة التحرير الوطني، وصنع مجدا كبيرا للوفاق، بمبلغ 1325 دج فقط، ويتذكر اليزيد قيرواني جيدا لحظة انهار فيها أمام ساعي البريد الذي أحضر حوالة بالمبلغ، وخوفا من انهيار والدة المرحوم، أخفى الأمر لكنها علمت بذلك بعد مدة وقالت لحفيدها: ''هكذا قيّموا ولدي مختار''، وهي تذرف دموعا على تضحيات لم تقدّر حق قدرها، والأغرب هو إحجام الكل عن تنظيم حتى دورة كروية تليق بمقام الرجل منذ وفاته وإلى اليوم.