لم يتوان السيد مصطفى سريدي، زميل الدراسة للرئيس الراحل محمد بوخروبة، المعروف بهواري بومدين، في استقبالنا ببيته. وهو الذي يرى في الرجل وصديق دربه، المتفوق والاستشرافي والعبقري، الغيور على سمعته، فحدثنا عن قساوة ظروفه التي تجاوزها الراحل، والتي ناضل وثار عليها إلى أن وصل إلى سدة الحكم. استقبلنا الأستاذ سريدي بمنزله الكائن بنهج ''سويداني بوجمعة'' بمدينة فالمة، بمعية ابنته المحامية منيرة وزوجته، وتحدث مطولا عن الفترة التي جمعته بالراحل ''هواري بومدين''، والممتدة بين سنوات (1938- 1947)، التي تمثل مرحلة الدراسة بمؤسسة ''ألمبير'' سابقا ''محمد عبده'' حاليا، الواقعة وسط مدينة فالمة. صفات التميّز رافقت الراحل منذ الطفولة.. رغم قساوة الظروف بكثير من الحنين إلى الماضي، حدثنا مصطفى سريدي، فقال ''أفضل أن أنادي الرئيس الراحل باسمه الحقيقي محمد، كان يكبرني بعام واحد، حفظنا القرآن معا عن الشيخ محمد سريدي، بمسقط رأسنا، في دوار بني عدي، حيث كنا نعيش متجاورين أرضا ومتلاصقين نسبا، ثم التحق بالمدرسة، التي أخذ بها مبادئ اللغة الفرنسية''. كانت ظروف محمد بوخروبة أشد قسوة من ظروف صديقه مصطفى، خاصة عندما انتقل بمفرده للتعلم، حيث لم يجد ملجأ بمدينة فالمة، فعهد به والده لعائلات متفرقة حتى أنهى فترة تعليمه. يصف مصطفى تلك الفترة بالقول ''لولا إرادته القوية لما تمكن من الاستمرار''. ويواصل سرد الظروف التي ميزت مرحلة الطفولة ''لم تكن ظروفنا ميسورة أيضا حتى تحتضنه عائلتي المتكونة من خمسة عشر فردا، وإذا ما أردت أن أدرس كان يتوجب علي وضع كرسي صغير عند عتبة الباب، أو ''جلدا للماشية'' فأجلس عليه وأقرأ''. عدّد محدثنا جملة من صفات الراحل، فيما يتعلق بدراسته وصبره وتحمله للشدائد والصعاب، فقال ''كان مجتهدا، صبورا، أنوفا، خجولا، يستحي كثيرا، ولا يفشي سرا، منطوي على نفسه كأنه حزين، ومن ينظر إليه يخال بأنه يتيم، ومن يشاهده يرى وكأن لا ناصر له ولا معين، يعتقد أنه يحمل هموما كالجبال. فنراه غريبا ولا نفهم سببا لعزلته، لأننا لم نكن ندرك ما تحمله نفسه من الهموم العظام. لا أحد استطاع أن يدرك حقيقته، وحتى من عملوا معه لاحقا عجزوا عن فهمه، لأنه كان يفوقهم عبقرية واستشرافا''. يواصل رفيق الطفولة وصفه لشخصية الراحل، وما يميزها: ''برنامج حياته منذ الصغر كان جهدا وإيمانا عميقا. والأهم زهده في كل شيء حتى مات على شاكلة الزهاد، كان القرآن الكريم وحده يملأ جنبات قلبه وبصره. وفكره مشغول بكل تلك الأحداث التي تأتي تباعا، يشاهد ما يجري على الساحتين المحلية والعالمية، خاصة في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وتعالي الدول على بعضها، وما صاحب ذلك من التهاب للأسعار واشتداد وطأة الحياة، وعموم الجراد الذي كان البعض يأكله من شدة الجوع، وفوضى السوق السوداء، حتى البطاطا والخبز كانوا أكثر مشقة على الناس، كل ذلك كان يحز في نفسه''. عندما حل عام 1942، الذي عرف بعام ''الفلي'' بالنظر إلى انتشار ''القمل''، حيث كان الفرنسيون متخوفين من انتشار مرض ''التيفيس''، وهو ما جعل إدارة المدرسة تفرض أن ''يُفلى'' التلاميذ بساحة المدرسة قبل أن يدخلوا الأقسام، ''ولأننا كنا نخشى الطرد كنا ننهض باكرا فنغتسل ونلبس ثيابا نظيفة حتى لو كانت مرقعة، وكان القسم حينها مكونا من 27 إلى 30 تلميذا، أما المدرسة فمقسمة إلى ثلاث طبقات نحن أدناها، ثم تأتي رتبة الطلبة الفرنسيين من الطبقة الوسطى، والعليا تعود لطبقة النبلاء. وعندما رأيناهم يهزأون بنا، استبدلنا حرصنا على التعلم باللهو، وكنا نتذرع بالقمل حتى نطرد، وكان محمد يخضع ل''الفلي'' لكنه لم يشاركنا فيما كنا نفعله، وتعرض هو وكغيره من أبناء الجزائريين للطرد'' يوضح محدثنا. كان محمد بوخروبة، حسب صديقه، الذي حدثنا عنه بنبرة الفخور بمعرفته للرجل، يتزعم ثلة من الطلبة النجباء في الخط، القراءة والحساب، ولطالما تفوق في الامتحانات الفصلية، ما جعل أقرانه يجدُّون لزحزحته من الطليعة. حفظ القرآن ونصّب نفسه معلما لأبناء قريته رغم مرور السنين، إلا أن ذلك لم يمحو من ذاكرة عمي مصطفى قساوة المعلم ''جوستي''، المعروف بتشدده الكبير، الذي كان يدفع التلاميذ إلى القسوة على أنفسهم. يسكت مضيفنا هنيهة ويواصل ''ثمة ثلة من الطلبة النجباء آنذاك في الخط، القراءة والحساب، وكان زعيمهم جميعا محمد بوخروبة، والآخران هما بارة عبد العزيز ولخضر زعطوط، والتنافس كان على أشده بين هؤلاء الثلاثة، وفي الامتحانات الفصلية كان التفوق دوما لمحمد، وهذا ما جعل أترابه يسعون جاهدين لإبعاده عن المرتبة الأولى. أتذكر أنه كان يمشي في اليوم 15 كلم على قدميه، وهذا ما يفسر الكثير من الأشياء بحياته، وخاصة حنقه عندما نزلت علامته إلى تسعة ونصف بدلا من عشرة، وفي مادة واحدة، ما جعله يثور ويحمر وجهه، وهي المرة الأولى والأخيرة في كامل مراحل تعلمه التي حصل فيها على علامة منقوصة. وهذا التصرف كان خلافا لطبيعته الانزوائية، فقد حاول دوما قهر نفسه وكبح جماحها، ولعل مدرسة الحياة كانت تهيئ له الأسباب حتى يكون رجلا وأي رجل.. من بين أسماء كثيرة عاصرته، منهم سليمان تواتي، السعيد أومدور، بشير سعيدي وإبراهيم زميتي''. ويضيف الحاج سريدي أن المعلم كان يكلفهم بأداء الفروض كتابة وحفظا، ويأمرهم بحفظ ما درسوه، ''ويأتي بها محمد بخط لاتيني آية في الروعة والجمال، وكان سريع الفهم والإدراك. يجر في هذا الجانب مثلا عنه بقوله إنه كان مرة قد تغيب عن درس في مادة التاريخ، وعندما حضر إلى القسم طلب المعلم من بعض التلاميذ استعراض الدرس، وقام محمد بإلقائه بعد اثنين أو ثلاثة من زملائه، بكل طلاقة وكأنما قضى الليل يحفظه. بقينا معا حتى بلغنا سن 14 سنة، حيث قامت إدارة المدرسة بفصلنا عن الدراسة، فعاد محمد إلى مسقط رأسه دوار بني عدي، فحفظ القرآن ونصب نفسه معلما لأبناء القرية. وكان يضع عمامة على رأسه ويرتدي سروالا عربيا فضفاضا بطياته الثمانين، مع عباءة قصيرة نوعا ما، وهو لباسه الاعتيادي خلال الفترة التي سبقت رحلته إلى قسنطينة، حيث التقى فيها بعلي كافي الذي أصبح فيما بعد قائدا للولاية الثانية ورئيسا للمجلس الأعلى للدولة. أما أنا فالتحقت بمدرسة مختصة في النجارة، قبل أن التحق بمقاعد الدراسة في قسنطينة وتعلمت اللغة اللاتينية''. قيادته للجيش في سن مبكرة جعلت الضباط يلتفون حوله وختم زميل هواري بومدين حديثه بالقول إن الرجل الذي تولى قيادة أركان الجيش، وعمره لا يتجاوز سبعة وعشرين سنة، في ظروف خطرة بذات حجم خطورة المسؤولية، جعل الضباط يلتفون حوله بدلا من القيادات التي كانت حينها. وعندما سألنا محدثنا عن توافر زعماء وقادة آخرين في تلك الفترة، قال إنه كان هناك رجالا كبارا، غير أن هواري كانت له قوة خاصة استمدها من عنايته الفائقة بالجيش، الذي طهره من التكتلات. وعندما تقمص الشخصية المزدوجة لهواري بومدين في عام 1957 لم تكن بطريقة عبثية، خاصة وأن التسمية مستقاة من ناحية الغرب، التي تولى فيها قيادة الأركان، رغم المؤامرات التي حيكت ضده. تماشيا مع تخليص تاريخ الثورة من التأثيرات السياسية هواري بومدين والتأثيرات الإيديولوجية يسود اعتقاد في أوساط النخب السياسية والمثقفة أن الرئيس الراحل هواري بومدين دخل إلى قيادة الثورة قادما من فراغ. ولعبت الآراء السياسية التي تتنافى مع أطروحاته وأفكاره دورا كبيرا في تشويه صورته، وتقديمه في صورة قائد ''دخيل تسلق الثورة''. والحقيقة أن الدور الذي لعبه الرجل ونجاحاته ترتبط بدور الإيديولوجية في مسار الثورة، وبالصراع الذي ساد بين جيلين ثوريين كانا يعبران عن تصورين مختلفين. حقق بومدين، بفضل الرحلة التي قادته إلى القاهرة في فيفري 1952، تكوينا فكريا وإيديولوجيا. ويروي محمد صالح شيروف، الذي رافقه في رحلته إلى مصر، أن بومدين كان يميل إلى القراءة والنقاش الفلسفي، وكان من أقرب أصدقائه في تلك المرحلة المرحوم مولود قاسم آيت بلقاسم. ويمكن وضع الشاب محمد بوخروبة في سياق فكري ينطلق من السياق المرجعي الذي كان يمثله حزب الشعب- انتصار الحريات الديمقراطية. ورغم عدم انخراطه في الحزب لكنه نهل من الفكر التحرري، وتشبع بفكرة الاستقلال منذ أحداث 8 ماي 1945، التي قال عنها للصحفي بول بالطا: ''لقد جعلتني أنضج مبكرا''، وكان عمره آنذاك عشر سنوات. ونستطيع القول إن تجربة بومدين في القاهرة سوف تمد الحركة الثورية، عبر جيله، بمزيد من الأدبيات السياسية والإيديولوجية فيما يخص البعد الاشتراكي للثورة. ومع جيل بومدين لم يعد يكفي التحرر من الاستعمار، بل كان يجب إيجاد إطار إيديولوجي للثورة الوطنية. والسؤال الذي يطرح اليوم هو ''كيف حقق بومدين قفزته داخل قيادة الثورة في ظرف زمني قصير جدا؟''. لما قامت حرب التحرير برزت قيادة ثورية تكونت من جيل ثوري ناضل في حزب الشعب، وانخرط في المنظمة الخاصة، وكون جبهة التحرير الوطني، واستطاع ''الباءات الثلاثة''، أن يجسدوا هذا الجيل إلى غاية سنة .1960 لكنهم سرعان ما فقدوا نفوذهم لصالح العقيد هواري بومدين عقب تأسيس هيئة الأركان العامة للجيش. فما الذي حصل؟ بعد التحاق الطلبة بالثورة، ابتداء من سنة 1956، تقوّت الثورة بجيل ثوري جديد ينتمي إلى فئة النخبة المثقفة، وقبل ذلك كانت فئات سكان الأرياف قد التحقت بالثورة، بشكل مكثف عقب هجمات الشمال القسنطيني في أوت 1955، وكان لأدبيات فرانز فانون دورا كبيرا في إعطاء الريف دورا أساسيا في مجريات الثورة. هذا الجيل المثقف كان بحاجة إلى تأطير إيديولوجي، وبما أن الثلاثي بلقاسم كريم، بن طوبال وبوصوف، كان منشغلا بأمور الحرب وبالصراعات التي كانت دائرة بينهم بخصوص القيادة، انفلتت من أياديهم فكرة التأطير الإيديولوجي، ولم يعطوا أهمية للاستجابة للانشغالات الفكرية، وتلك كانت القوة الأساسية للعقيد بومدين. وكان مقر قيادة الأركان بغارديماو بتونس مكانا لتنظيم النقاشات الفكرية، وكان يحتوي على مكتبة بها مؤلفات عديدة لكبار المفكرين والفلاسفة. أما بخصوص النظر إلى صواب تلك الخيارات أو عدم صوابها، فأعتقد أنه حان الوقت للابتعاد عن التأثيرات السياسية والعواطف الشخصية التي تقدم محاكمات بخصوص الرجل، دون أن تقدم نظرة موضوعية. فإلى اليوم تم تناول مسار هواري بومدين وفق تصورين، هما مع أو ضد، وهذا ما لا يخدم تاريخ الثورة، ولا يخدم بومدين نفسه. في الذكرى ال33 لرحيله فالمة تحتفي بابنها في ملتقى ''بومدين وأخلاق الرجال'' تنطلق، غدا الاثنين، الطبعة الثالثة للملتقى الوطني حول الرئيس الراحل هواري بومدين، بالبلدية التي تحمل اسمه، تحت شعار ''بومدين وأخلاق الرجال''، لتمتد على طول يومين، يحضرها كل ما عايشوا ورافقوا الراحل هواري بومدين، على غرار محي الدين عميمور، الذي سيشارك في الفعاليات بمداخلة تحت عنوان ''بومدين كما عرفته''. ويكشف الكثير من الأسرار التي لم يتطرق لها في مذكراته المنشورة عبر صفحات الجرائد، لأنه لم يعاصر الراحل فحسب، بل كان من ''أهل الثقة'' بالنسبة له. من جهة أخرى، من المرتقب أن يثير الدكتور محمد طيبي عدة نقاط للنقاش، بدءا من ''تجربة الحكم وذهنيات الرجل''، إلى ''إشكاليات السلطة والدولة''. وذكر مختار برشاوي، رئيس جمعية ''الوئام لترقية الأنشطة الشبانية''، المنظمة للملتقى على مستوى القاعة الرياضية، أن قائمة المدعوين تشمل وافدين من مختلف أنحاء الوطن، وبحضور أسرة الرئيس الراحل، ويتدعم حضور الأساتذة بوجود عبد الرزاق بوحارة، ومحمد الصالح شيروف رفيق درب الرئيس الراحل هواري بومدين، في رحلتهما الشهيرة إلى مصر مشيا على الأقدام. واعتبر مختار برشاوي، في تصريح ل''الخبر''، أن المناسبة ''ستعكس شخصية الرئيس التي كانت وستظل ركيزة صمدت عليها الدولة الجزائرية، في فترات متعاقبة من تاريخها في مواجهة متغيرات شتى، وحالت سياسته دون أن تنال الأطراف المغرضة من الوطن''.