قيام اللّيل هو دأبُ الصّالحين وتجارة المؤمنين وعمل الفائزين؛ ففي اللّيل يخلو المؤمنون بربّهم ويتوجّهون إلى خالقهم وبارئهم، فيشكون إليه أحوالهم ويسألونه من فضله.. فنفوسهم قائمة بين يدي خالقها، عاكفة على مناجاة بارئها، تتنسَّم من تلك النّفحات، وتقتبس من أنوار تلك القُربات، وترغَب وتتضرَّع إلى عظيم العطايا والهبات. قال الله سبحانه وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} السجدة: .16 قال مجاهد والحسن: يعني قيام اللّيل، وقال ابن كثير في تفسيره: يعني بذلك قيام اللّيل وترك النّوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة. وقد حثّ سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قيام اللّيل ورغّب فيه، فقال عليه الصّلاة والسّلام: ''عليكم بقيام اللّيل فإنّه دأب الصّالحين قبلكم، وقُربَة إلى الله تعالى ومكفّرة للسيئات ومنهاة عن الإثم ومطردة للدّاء عن الجسد'' رواه أحمد والترمذي. إنّ الكثير من النّاس إذا سمعوا بأخبار اجتهاد السّلف الصّالح في قيام اللّيل، ظنُّوا ذلك نوعاً من التنطُّع والتّشدُّد وتكليف النّفس ما لا يُطاق، وهذا جهل كبير، لأنّنا لمّا ضَعُف إيماننا وفترت عزائمنا وخمدت أشواقنا إلى الجنان وقَلّ خوفنا من النّيران، رَكّنَّا إلى الرّاحة والكسل والنّوم والغفلة وصرنا إذا سمعنا بأخبار الزهّاد والعبّاد وما كانوا عليه من تشمير واجتهاد في الطّاعات نستغرب تلك الأخبار. وهناك الكثير من الأخبار عن اجتهاد السّلف الصّالح في قيام اللّيل.. قيل للحسن البصري رضي الله عنه: ما بال المتهَجِّدين باللّيل مِن أحسن النّاس وجوهاً؟ فقال: لأنّهم خلوا بالرّحمن فألبَسَهُم من نُوره. وقال سعيد بن المُسيِّب رحمه الله: إنَّ الرجل ليُصلِّي باللّيل، فيجعل الله في وجهه نوراً يُحِبُّه عليه كلّ مسلم، فيراه مَن لم يره قطٌ فيقول: إنّي لأحبُّ هذا الرجل. كان العبد الصّالح عبد العزيز بن أبي روّاد، رحمه الله، يُفرَش له فراشه لينام عليه باللّيل، فكان يضع يده على الفراش فيتحسّسه ثمّ يقول: ما ألْيَنَكَ، ولكن فراش الجنة ألين منك، ثمّ يقوم إلى صلاته! قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: إذا لم تَقْدِر على قيام اللّيل وصيام النّهار، فاعْلَم أنّك محروم مُكَبَّل، كبَّلَتْك خطيئتك. وقالت امرأة مسروق بن الأجدع رحمهما الله: والله ما كان مسروق يصبَح من ليلة من اللّيالي إلاّ وساقاه منتفختان من طول القيام، وكان رحمه الله إذا طال عليه اللّيل وتعب صَلَّى جالساً ولا يتْرُك الصّلاة، وكان إذا فَرِغ من صلاته يزْحَف (أي إلى فراشه) كما يزحف البعير! عن أبي غالب رضي الله عنه قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما ينزل علينا بمكة، وكان يتهَجَّد من اللّيل، فقال لي ذات ليلة قبل الصبح: يا أبا غالب: ألاَ تقوم تُصلِّي ولو تقرأ بثُلث القرآن، فقلت: يا أبا عبد الرّحمن قد دنا الصبح فكيف أقرأ بثلث القرآن؟! فقال: إنّ سورة الإخلاص {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد} تعدل ثلث القرآن. وكان أبو إسحاق السبيعي رحمه الله يقول: يا معشر الشباب جِدُّوا واجتهدوا، وبادِرُوا قُوَتَكُم، واغْتَنِموا شَبِيبَتكُم قبل أن تعجُزوا، فإنّه قَلّ ما مَرَّت عليّ ليلة إلاّ قرأتُ فيها بألف آية! عباد الله.. لمّا كانت قلوب السّلف الصّالح مُعَلّقَة بالله عزّ وجلّ، سطّروا لنا تلك المفاخر العِظام، ونحن لمّا ركَنّا إلى الدنيا، وتنافسنا على حطامها، صِرْنا إلى شَرِّ حال.. فأفِيقوا رحمكم الله من هذه الغفلة.