رسالة غير موقعة وصلتني حملت هذا النص الجميل وهذه الحكمة البليغة: ''.. في أحد الألغاز المنطقية، يُحكم على رجل بالإعدام، ولكن الملك في ذلك الزمان يُقدر الذكاء، فيعطي للمحكوم عليه فرصة نجاة، فيرسله إلى مفترق طرق، فيه طريقان، يؤدي أحدهما إلى المشنقة والآخر إلى النجاة. وفي مفترق الطرق هذا، يتناوب على الجلوس رجلان، أحدهما يكذب دائما والآخر يصدق. والمطلوب من المحكوم عليه أن يطرح سؤالا واحدا على الرجل الموجود، وهو لا يعرف الكاذب من الصادق. هذه حالنا أستاذ مصطفى، محكوم علينا بالإعدام بعد 10 ماي.. لكن السلطة أعطتنا فرصة للنجاة، وهي الانتخابات التشريعية، ووضعت على الطريق صنفين من الناس، الصنف الأول يكذب حتى في درجات الحرارة، وهم أتباع السلطة وأدواتها، والصنف الثاني التمسنا فيه الصدق، وهم بعض المترشحين لهذه الانتخابات، بالإضافة إلى علماء وأساتذة ومثقفين. علينا الآن أن نسأل السؤال الوحيد والأوحد لننجو، وهو: لو كان الصنف الثاني يقف هنا، فأي طريق سيختاره لنا للنجاة؟ عندنا وفي كلتا الحالتين، نصطدم بكذب الصنف الأول. إذن، نسمع الإجابة ونأخذ الطريق المعاكس، لأن هذا هو حلّ اللغز. لم نعد نثق في هذه السلطة، حتى إن صدقت، فقد كُتبت عندنا مخادعة''. صاحب الرسالة لخّص، بشكل بسيط، ما حملته رسائل السلطة من الانتخابات الأخيرة، وما يحمله الجزائريون من تيه في البحث عن الطريق المؤدي إلى النجاة. نعم، لقد تعوّد الناس على عدم صدق السلطة وعلى خداعها. لكن المسألة بلغت مستوى عال من الأهمية السياسية والتاريخية. ففي الوقت الذي تحتفل الجزائر بالذكرى الخمسين لاستعادة السيادة، مازلنا أمام مشكلة أساسية: النظام الكولونيالي مستمر فينا. مستمر في تصرّفات الحاكم وسلطته، ومستمر في العلاقة بين هذه السلطة والناس، ومستمر في هذا الخوف الرهيب للسلطة من الشعب، وفي يأس الشعب من هذه السلطة. من ناحية أخرى، فإن الوضع الحالي لا وصف له إلا أنه وضع استبدادي. فلا شيء يحدّ من سلطة السلطة، وهي دائمة الهروب إلى الأمام، وباعتماد أساليب إدارة من الزمن الغابر، حتى إن استخدمت تقنيات حديثة. إنها ترفض، مثلا، التخلي عن تقنية الوساطة، والتي تجعل المنتخبين مجرد وسطاء تختارهم هي لتمثيلها عند الناس. وتلك تقنية آتية من زمن حكم الانكشارية والدايات وبعدها الاستعمار، في حين أن الديمقراطية تستلزم أن يختار الناس من يحمي مصالحهم ويمثلهم في مؤسسات الدولة. قد يكون في تعريف الاستبداد ما يجيب على الكثير من التساؤلات، وحتى تبيّن طريق النجاة. وفي هذا يمكن الاستناد لتعريف الكواكبي البليغ، حيث يقول في كتابه ''طبائع الاستبداد'': ''.. الاستبداد لو كان رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: أنا الشرُّ، وأبي الظلم، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسْكَنة، وعمي الضُّرّ، وخالي الذُّلّ، وابني الفقر، وابنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي، فالمال.. المال.. المال''. نعم، الاستبداد أصل التخلف والانحطاط، وأصل الفقر والظلم والذل، وأصل الجهل وهيمنة المال الفاسد. وذلك يعني، في ما يعنيه، أنه لا بد أولا من استئصال الاستبداد من أجل الدخول في مسار آخر، مسار يفتح لنا الطريق لمعالجة كل هذه الأمراض. طريق النجاة الحقيقي هو في استئصال الاستبداد أولا، وقد لا يكون ذلك ممكنا إلا من خلال ديناميكية سياسية، كتلك التي عاشتها البلاد غداة أحداث أكتوبر .1988 وحتى هذا قد لا يكون ممكنا، لأن أطراف الحكم الفاعلة اختارت بوضوح مزيدا من الاستبداد، ومزيدا من الاحتكار والرداءة والفساد والإفساد. أعجبني هذا التعليق للكاتب الصحفي المعروف، غسان شربل، في صحيفة ''الحياة''، إذ يقول في مقال بعنوان ''دولة طبيعية'' ما يلي: ''.. لقد انتهى عهد الكسر والخلع والقسر. الشعب يريد دولة طبيعية. لا معنى للربيع العربي إن لم يُخرجنا من أقبية التوتر وأحلام السيطرة إلى رحاب دولة القانون والمؤسسات واحترام الأرقام بدلاً من إدمان الأوهام..''