لقد كان الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله على يقين من أَنَّ جهاد الجزائر سَيُتوَّجُ، بحول الله، بالنَّصْرِ المبين، فوضع لهم دستورًا مختصرًا، جامعًا لعناصر الكمال الممكن، نشره في مجلته »الشهاب« في غُرة ذي القعدة 1356ه )جانفي 1938م( بعنوان )أصول الولاية في الإسلام(، اقتبسه من خطبة الخليفة الأول لرسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلم، أبي بَكْرٍ الصِّدِّيق، رضي الله عنه عندما بويع بالخلافة: وهذا نصُّ الخطبة: «أيُّها النَّاس! قد وُلِّيتُ عليكم ولَستُ بخيركم، فإنْ رأيتموني على حَقٍّ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدِّدُوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيتُهُ فلا طاعة لي عليكم». «أَلاَ إِنَّ أقوَاكم عندي الضعيف حتى آخذَ الحقَّ له، وَأَضْعَفَكُمْ عندي القَّوِي حتَّى آخذَ الحقَّ منه». « أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم». ثم راح الإمام ابن باديس يشرح هذه الخطبة القصيرة البسيطة في ألفاظها، الواسعة العميقة في معانيها، والتي تُعَدُّ بمثابة برنامج حكومة، تريد التزكية من البرلمان، وحلَّلَهّا إلى ثلاثة عشر "بَنْدًا" على منهاج القانونيين، سَمَّاهَا »أُصُولاً« وهي كما يلي: لاَ حَقَّ لأحد في ولاية أمر من أمور الأُمَّة إلاَّ بتولية الأمَّة، فالأمَّة هي صاحبةُ الحقِّ والسُّلطة في الولاية والعزل، فلا يَتَوَلَّى أَحَدٌ أَمْرَهَا إِلاَّ بِرِضَاهَا، فَلاَ يُورَثُ شيءٌ من الولايات، ولاَ يُسْتَحَقُّ للاعتبار الشخصي، وهذا الأصل مأْخُوذٌ من قوله »وُلِّيتُ عليكم« أي قد وَلاَّنِي غيري وهو أنتم. الأصل الثاني: الذي يَتَوَلَّى أمرًا من أمور الأمَّة هو أَكْفَؤُها فيه، لاَ خَيْرُهَا في سلوكه، فإذا كان شخصان اشتركا في »الخيرية« والكفاءة، وكان أحدهما أَرْجَحَ في "الخيرية"، والآخر أرجح في »الكفاءة« لذلك الأمر، قُدِّمَ الأرجح في الكفاءة على الأرجح في الخيرية، ولا شك أنَّ الكفاءة تختلف، باختلاف الأمور والمواطن، فقد يكون الشَّخصٌ أكفأ في أمرٍ وفي مواطن لاتّصافه بما يناسب ذلك الأمر، ويُفِيدُ في ذلك الموطن، وإن لم يكن كذلك في غيره، فيستحق التقديم فيه دون سواه، وعلى هذا الأصل ولَّى النَّبِيُّ – صلى الله عليه وآله وسلم – عمرو بنَ العاص غَزاَةَ )ذَاتِ السَّلاَسِلِ(، وأَمَدَّهُ بأبي بكر، وعُمَرَ، وأبي عُبَيْدَة بْنَ الْجَرَّاح، فكانوا تحت ولايته، وكلهم خَيْرُُ منه، وعليه عقَدَ لواءَ أُسامَةَ بْنَ زيد على جَيْشٍ فيه أبو بكر وعمرُ. وهذا الأصل مأخوذ من قوله: ولَسْتُ بخيركم. فأيُّ شريعة أو قانون في الأرض يشتمل على معاني هذا الأصل الثَّانِي، الذي يُمّيِّزُ بَيْنَ »الكفاءة« و»الخيرية«، أيها المبهورون بما عند الغير من قشور، الزاهدون فيما عندهم من كنوز لاَ تَنْفَذُ، وينابيع لا تنضُبُ!. الأصل الثالث: « لا يكون أَحَدُُ بمُجَردِ ولايته أَمْرًا من أمور الأمَّة »خيْرًا« من الأمة، وإِنَّمَا تُنَالُ الخيرية بالسلوك والأعمال، فأبو بكر، إذا كان »خَيْرَهُمْ«، فَلَيْسَ ذلك لمجرد ولايته عليهم، بل ذلك لأعماله ومواقفه، وهذا الأصل مأْخُوذُُ أيضًا من قوله: »ولستُ بخيركم حيث نفَى الخير عند ثبوت الولاية«. وأضيف إلى هذا الاعتبار، اعتبار أَهَمُّ منه، وهو الاعتبار القرآني في تقييم النَّاس تقييما ذاتيًا قائما على ما يقدم الإنسان لنفسه من خير، فالأفضلية – بالمفهوم القرآني – تكون بالإيمان والتقوى لا بالمنصب والمسؤولية، كما نصت على ذلك الآية 13 من سورة الحجرات:} يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُُ خَبِيرُُ{. الأصل الرابع: حَقُّ الأمَّة في مراقبة أُولِي الأمرِ، لأنها مصدر سلطتهم، وصاحبةُ النظر في ولايتهم وعزلهم. الأصل الخامس: حقُّ الوالي على الأمة فيما تَبذُلُه له من عون إذا رأت استقامته، فيجب عليها أن تتضامن مَعَه وتُؤَيِّدَهُ، إذ هي شريكة معه في المسؤولية. وهذا – كالَّذِي قبْلَهْ – مَأخُوذٌ من قوله: »إذا رأيتموني على حَقٍّ فأعينوني«. الأصل السادس: حَقُّ الوالي على الأمَّة في نُصحِهِ وإرشاده، ودلالته على الحقِّ، إذا ضَلَّ عنه، وتَقْويِمِهِ على الطريق إذا زاغَ في سلوكه، وهذا مَأْخُوذٌُ من قوله: »وإذا رأيتموني على باطل فَسَدِّدُونِي«. الأصل السابع: حَقُّ الأمَّة في مُنَاقشة أولي الأمر، ومحاسبتهم على أعمالهم، وحملهم على ما تراه هي، لا ما يرونه هم، فالكلمة الأخيرة لها لا لهم، وهذا كُلُّه من مقتضَى تسديدهم وتقويمهم عندما تقتنع بأَنَّهم على باطل، ولمْ يستطيعوا أن يُقْنعُوهَا أَنَّهُم على حَقٍّ، - وهذا مأخوذٌُ – أيضا – من قوله: »وإن رأيتموني على باطلٍ فَسَدِّدُوني«. الأصل الثامن: على من تَوَلَّى أمْرًا من أمور الأمة أن يُبَيِّنَ لها الخطَّةَ الَّتي يسيرُ عليها، ليكونوا على بصيرة، ويكون سائرا في تلك الخُطَّةِ عن رِضَى الأمة، إذْ لَيْسَ له أن يسير بهم على ما يرضيه، وإِنَّمَا عليه أن يسير بهم فيما يرضيهم، وهذا مَأْخُوذٌ من قوله: »أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم« فخطتُه هي طاعة الله، وقد عَرَفُوا ما هي طاعة الله في الإسلام. الأصل التاسع: لاَ تُحْكَمُ الأمَّةُ إلاَّ بالقانون الذي رَضِيَتهُ لنفسها، وعرفت فيه فائدتها، وما الولاة إلاَّ مُنَفِّذُون لإرادتها، فهي تطيع القانون لأنَّه قانُونُها، لاَ لأَنَّ سلطة أخرى، لفرد، أو لجماعة، فَرَضَتْهُ عليها، كائنا مَنْ كَانَ ذلك الفرد، وكائنة مَنْ كانت تلك الجماعة، فتشعر بأَنَّهَا حُرَّةٌُ في تصرُّفاتها، وأنهَّا تُسَيّرُ نفسها بِنَفْسِهَا، وأنَّها ليسَتْ ملكًا لغيرها من الناس، لا الأفراد، ولا الجماعة ولا الأمم، ويشعرُ هذا الشعورَ كُلُّ فردٍ من أفرادها. وهذا الأصل مَأْخُوذٌُ من قوله: »أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فَإِذَا عَصَيْتُهُ فلا طاعة لي عليكم«. فهم لا يُطِيعونَهُ، هو لذاته، وإنَّمَا يطيعون الله باتباع الشرع الذي وضعه لهم، وَرَضُوا به لأنفسهم، وإنَّمَا هو مكلف منهم بتنفيذه عليه وعليهم، فلهذا إذا عصى وخالف لم تَبْقَ له طاعةٌ عليهم. الأصل الناس كلهم – أمام القانون - سواء لا فرقَ بين قويِّهم وضعيفهم، فيُطبَّقُ على القوي دون رهبة لقوته، وعلى الضعيف دون رقة لضُعفه. الأصل الحادي عشر: صون الحقوق: حقوق الأفراد، وحقوق الجماعات، فلا يضيع حقُّ ضعيف لضعفه، ولا يذهب قويٌّ بحقِّ أحَدٍ لقوتّه عليه. الأصل الثاني عشر: حفظ التوازن بين طبقات الأمة عند صَون الحقوق، فَيُؤْخَذُ الحقُّ من القويِّ دونَ أن يقسو عليه لقوتَّه، فَيُتَعَدى عليه حتى يضعف وينكسر، ويُعطى الضّعيف حَقَّه، دون أن يُذلَّ لضعفه، فيُطغى عليه، وينقلب مُعتديا على غيره، وهذا الأصل، واللذان قبْلَهُ، مأخوذٌ من قوله : »ألا إنّ أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحقَّ لهُ، وأضعفَكم عندي القويُّ حتى آخُذَ الحقَّ منه«. الأصل الثالث عشر: شعور الرَّاعي والرَّعية بالمسؤولية المشتركة بينهما في صلاح المجتمع، وشعورهما -دائما- بالتقصير في القيام بها ليستمرّا على العمل بجد واجتهاد، فيتوجهان بطلب المغفرة من الله الرقيب عليهما. وهذا مأخوذٌ من قوله: »أقول قولي هذا وأستغفر اللّه لِي ولكم«. هذا ما قاله ونفّذه أوَّل خليفةٍ في الإسلام منذ أربعةَ عشر قرنًا، فأين منه الأمم المتَمَدِّنة اليومَ؟ فهل كان أبو بكر ينطق بهذا من تفكيره الخاص وفَيْض نَفسه الشخصي؟ كلاَّ! بل كان يستمدُّ ذلك من الإسلام، ويخاطب المسلمين يوم ذاك بما علموه وما لا يَخْضَعُون إلاَّ له، ولا ينقادون إلاّ به. وهل كانت هذه الأصول معروفة عند الأمم فضلا عن العمل بها؟كلا! بل كانت الأمم غارقة في ظلمات من الجهل والانحطاط، تَرْسُفُ في قيود الذلِّ والاستعباد تحت نِيرِ المُلكِ، ونِيرِ الكَهَنُوتِ. فما كانت هذه الأصول –واللّه إذن – من وضع البَشر، وإنَّما كانت من أمر اللّه الحكيم الخبير، نسأله –جلَّ جلاله – أن يتداركَنا، ويتدارك البشرية كُلَّها، بالتوفيق للرُّجوع إلى هذه الأصول التي لا نجاة من تعاسة العالَم، اليوم، إلاّ بها». من خلال البنود التي استعرضناها للدستور الجزائري، المنشود، معالمُ بارزة للعبقرية المؤمنة والتوفيق الرّباني، كما نلمس حرص العلماء الجزائريين، وفي مقدمتهم، الإمام الرائد الأستاذ الرئيس عبد الحميد بن باديس، على ربط الأمة، في شفافية واقتناع والتزام، بدستور ينظم شؤونهم الحياتية كلها، المادية منها والروحية، في حرية وكرامة، وعدلٍ، وحبٍ وتعاونٍ، وتكامل بين الحاكم والمحكوم في السَّراء والضَّراءِ، وفي تواضع، وإخلاص، وإذعان لقانون لا يضِّل ولا يخيب، ولقوة رحيمة لا قوة فوقها، ولا رحمة مثلها: قوة الواحد القهّار، ورحمة الرحمن الرحيم، دستور يساير مسيرة الإنسان في تطوره وتقلباته، في ثوابته، ومتغيراته، في شؤونه الفردية، والأسرية، والاجتماعية والدّولية، يحدوها، في ذلك كله، نصوص قرآنية ونبوية ثابتة لا تزيغ، واجتهاد لا ينضب مَعِينه، ولا تتكدَّر مياهه، يُؤجر صاحبه -إذا أصاب- أجريْن، ويُؤجرُ -إن أخطأ- أجرًا واحدا. ففي أي دستور أرضٍّي، غربيًّا كان أم شرقيًّا، يمكن العثور على مثل ما جاء في الأصل الثاني من مراعاة تقديم عنصر »الكفاءة« على عنصر »الخيرية« مثل ما سبقت الإشارة إلى ذلك في الأصل الثاني من دستور ابن باديس؟ وفي أي دستور أرضي نجد اشتراكَ الحاكم و المحكوم في المسؤولية لتحقيق سعادة المجتمع، وتعاونهما بإخلاص وتفان ونكران الذّات حتّى يتسابقا في أيهما يؤدي واجبه نحو شريكه على أكمل وجه. وفي الأخير يلتجآن إلى ربِّهما ليتجاوز عنهما فيما قد يُقصِّرُ فيه بعضهما نحو الآخر. وبهذا يحصل التكامل والتعاون بين الشعب والسلطة، وتُؤدى الواجبات وتُعطى الحقوق، وتُتقى الفتن ما ظهر منها وما بطن، ويسود الأمن والوفاق في إطار نظام عادل يستوي فيه الناس جميعا لا فرق بين الراعي والرعية، والقوي والضعيف... والله تعالى نسأل أن يقي الأمة الإسلامية عامة، والجزائر خاصة، شر الفتن والقلاقل، ويوفق الشعوب العربية الإسلامية وقياداتها إلى السير على خطى ما قرره الإسلام من أحكام وقواعد.