تشكّل تفاعلات الوضع الأمني في شمال مالي صداعا لسلطات البلد الذي يعاني الانقسام، وللجارة الإقليمية القوية الجزائر، ويمثل هاجسا للدول الغربية الكبيرة، بدءا بالقوة الاستعمارية سابقا فرنسا. وترى بعض البلدان أن التدخل بواسطة مجلس الأمن ضروري لحسم الموقف، حتى لا تتجذر الجماعات السلفية أكثر فأكثر بالمنطقة. لكن من يدفع إلى خيار التدخل الأجنبي يرغب في أن يتم ذلك عبر طلب رسمي من الاتحاد الإفريقي والمجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا. استمرار الأزمة وغياب الحل تخوّف من امتداد حرب مالي إلى دول الجوار مثلما كانت مالي الضحية المباشرة لتداعيات الحرب وسقوط النظام في ليبيا، جراء ما خلّفته من عودة للمسلحين مدججين بالسلاح، سرّعت من الفوضى في شماله، والانقلاب العسكري في جنوبه. مثلما قد تؤدي هذه الفوضى في مالي لانتقال عدواها إلى النيجر، موريتانيا وبوركينافاسو، وحتى للجزائر. سُجلت مناوشات قبلية في الحدود بين مالي وبوركينافاسو، على خلفية حالة الفوضى التي دخلت فيها مالي منذ ما يزيد عن شهرين. وإن بقيت تلك المشادات بين قبائل البلدين تخص أسباب اقتصادية وفلاحية بحتة، فإن انتشار السلاح، بشكل فوضوي، في ربوع مالي يطرح عدة تخوفات من احتمال استغلاله لتصفية الحسابات بين قبائل البلدين، خاصة في ظل غياب حكومة مركزية في باماكو. ونفس التخوفات تطرح مع الجار الآخر لمالي، النيجر، الذي لجأ إليه ليس فقط النازحون من العائلات المالية الهاربة من جحيم الاقتتال في شمال مالي، أو المهجرين من ليبيا بعد سقوط نظام القذافي، بل أيضا يتواجد به مئات الجنود الماليين الذين فروا بعد سيطرة أنصار الدين وحركة الأزواد وإعلان ''استقلال'' منطقة شمال مالي، وهو ما جعل النيجر تواجه ضغوط ليس بوسعها مواجهتها. من جهة لهشاشة الوضع الأمني، جراء انتشار عصابات التهريب والمخدرات بها، وكذا للصعوبات الاقتصادية التي يواجهها البلد الذي لم يتعاف بعد من أزمة انقلابه العسكري الأخير، وتمرد التوارف به في السنوات الماضية. وتكون هذه التداعيات لأزمة مالي، التي بدأت تجد طريقها إلى دولة النيجر، وراء مرافعة وزير خارجيتها لصالح ''الحل العسكري''، لإنهاء أزمة مالي عوض الحلول الدبلوماسية، التي تأخذ ربما وقتا طويلا ليس في صالح نيامي. ورغم قدرتها العسكرية مقارنة بمالي والنيجر، غير أن شظايا أزمة شمال مالي قد ترمي بإرهاصاتها على موريتانيا، التي تعرف حالة غليان سياسي داخلي بين نظام عبد العزيز والمعارضة، يضاف إليها سوء الوضعية الاقتصادية، جراء الجفاف وارتفاع أسعار المواد الغذائية التي تفاقمت منذ إعلان التمرد الأزوادي في شمال مالي. ولعل هذه الوضعية وراء ما ذهب إليه قائد أركان الحرس الوطني الموريتاني، اللواء فليكس نكري، من أن الحرس سيظل دائما في خدمة الدولة لرفع التحديات الأمنية التي تواجه البلاد، والتي تتميز بوجود وسط متقلب. وإذا كانت الجزائر توصف بأنها القوة الإقليمية الأولى في المنطقة، وتملك قدرات عسكرية واقتصادية هامة تمكنها من مواجهة أي تداعيات، غير أن ذلك لا يجعلها بمنأى عما يجري في حدودها الجنوبية، ولعل تفجيرات تمنراست ليست سوى الجزء الظاهر من جبل التحديات الأمنية التي تولدت عن أزمتي ليبيا ومالي، دون حساب بقية المشاكل الأخرى، على غرار قضية اختطاف الدبلوماسيين الجزائريين في غاو، وانتشار مهربي السلاح، وما لذلك من ضغوط على القرار الجزائري. الجزائر مع محاورة المتمردين وفرنسا تريد تدخل مجلس الأمن سيناريوهات متعددة تدفع لخيار القوة العسكرية هل تتوجه الأزمة في مالي نحو الانفراج بسبب تصدرها قضايا مناقشات الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي، وحتى في الاتصالات الثنائية بين دول الميدان ودول مجموعة ''الايكواس'' لغرب إفريقيا؟ أم أن سيناريو ''الصوملة'' مرشح تكراره في مالي جراء تغليب الخيار العسكري على الحل الدبلوماسي من قبل الدول الكبرى؟ سئل العقيد مايغا، الحاكم السابق لمنطقة سيكاصو في مالي، عن رؤيته لكيفية معالجة التمرد الحاصل في الشمال الذي أعلن الاستقلال، فرد بأن ''هجوما عسكريا، من خلال قصف جوي لمعاقل المتمردين، بإمكانه إعادة الأمور إلى وضعها السابق''، وهو نفس الإجراء الذي اقترحته منظمة ''الايكواس'' بإرسال 3000 جندي إلى مالي، قبل أن تضع الفكرة جانيا. لكن العارفين بالواقع الميداني يقولون إن محاربة حوالي 2000 مسلح من أنصار الأزواد وحركة أنصار الدين وعناصر القاعدة الذين يسيطرون على منطقة شمال مالي منذ شهرين، لا يمكن بشن حرب بجيوش نظامية بقدر ما يحتاج إلى عمل مخابراتي، من خلال إشراك سكان المنطقة وعمليات عسكرية خاطفة. لكن هذه الخطة ليست في أجندة الرئيس البينيني والرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي توماس بوني يايي، الذي أخذ بنصائح نظيره الفرنسي فرانسوا هولاند، بخصوص إخطار مجلس الأمن الأممي من أجل إنشاء ''قوة عسكرية افريقية للتدخل في مالي''. وأوضح أن هذا الحل العسكري الذي يمكن أن تكون قوته إفريقية تحت راية الأممالمتحدة، يجب أن يأتي بعد مرحلة الحوار، لكن هذا الحوار لا يجب أن يستمر طويلا. وقال الرئيس البينيني ''لا نريد أفغانستان في غرب إفريقيا''. لكن أمام قرع طبول الحرب والتدخل العسكري الخارجي في مالي، عرض الوزير المنتدب المكلف بالشؤون المغاربية والإفريقية، السيد عبد القادر مساهل، المقاربة الجزائرية بشأن أزمة مالي، أمام وفد من الاتحاد الأوروبي. هذه المقاربة تقوم على ضرورة ''الحفاظ على السلامة الترابية لمالي وسيادته، وتسوية مسألة الشمال من خلال تنظيم حوار مع المتمردين، للتكفل بمطالبهم الشرعية، والتكفل بالمسائل الإنسانية، ومكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة''. وذكر السيد مساهل فيما يخص الوضع في مالي ''بالضرورات الملحة التي على البلد مواجهتها مع دعم المجتمع الدولي''. ويتعلق الأمر باستكمال مسار العودة إلى النظام الدستوري، وإقامة حكومة توافقية قوية وشرعية، والحفاظ على السلامة الترابية وسيادة مالي''. وحسب وزارة الخارجية، فإن اللقاء الذي يندرج في إطار المشاورات المنتظمة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي تمخض عنه ''تقارب في وجهات النظر حول ضرورة استكمال المسار الدستوري، وتعزيز الهيئات الوطنية المالية، والبحث عن حل سياسي لمسألة الشمال في إطار احترام السلامة الترابية للبلاد''، ما يعني أن الأوروبيين والأمريكيين يدعمون وجهة النظر الجزائرية المبنية على ''الحوار''، وليس على التدخل الأجنبي في حل أزمة مالي. حوار الخبير المغربي في الجماعات الإسلامية محمد ظريف ''تخوّف الأزواد من ربطهم بالقاعدة تسبب في تعثر الوحدة مع أنصار الدين'' ما هي قراءتكم لخطوة انصهار جماعة أنصار الدين وحركة تحرير أزواد في كيان واحد قبل أن تتعثر الوحدة؟ خطوة الانصهار بين أنصار الدين والحركة الوطنية لتحرير أزواد من أجل إقامة دولة إسلامية تفيد بأن هناك أولا ارتباكا على مستوى تدبير قضية قيام الدولة الإسلامية في شمال مالي، تستجيب لتطلعات قبائل التوارف. والحركة الأزوادية لا تملك من القوة ما يمكّنها من تثبيت هذه الدولة على الأرض، وهي كانت في حاجة لغطاء ديني. وعمليا يبدو أن الاتفاق هو نوع من التحالف بين الأزواد التي تمتلك عماد السلطة السياسية للدولة وأنصار الدين، التي تمثل السلطة الدينية التي تضمن غطاء دينيا للسلطة، وبالتالي كان هناك التقاء مصالح موضوعي بين حركة الأزواد ذات النزعة الانفصالية وحركة أنصار الدين التي تريد تطبيق الشريعة والأنصار، فكان تفاعلا بين السياسة والدين. هل توافقون الرأي الذي يقول بأن التوارف الماليين أقاموا دولة إسلامية في شمال مالي بالوكالة عن القاعدة؟ من الصعب الدفاع عن هذا الطرح بصورة مطلقة، فقبل ذلك يجب أن ننظر إلى تاريخ تواجد قيادات الجماعة السلفية للدعوة والقتال في شمال مالي. فمنذ اعتداءات سبتمبر 2001 رأينا كيف تم التضييق على الجماعات الإسلامية المسلحة وتصفية عناصرها، ونحن نعرف الظروف التي قُتل فيها القيادي في الجماعة الإسلامية المسلحة عنتر زوابري، ثم النقاش الذي فتح داخل الجماعة السلفية للدعوة والقتال، بين التركيز على العمل داخل التراب الجزائري وبين التيار الداعي إلى توسيع العمليات خارجيا لتشمل كل المنطقة، وهو التيار الذي فرض منطقه بقيادة عبد المالك دروكدال، الذي أعلن التحاقه بالقاعدة، ومنه تم تأسيس فرع القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. وفي سياق هذه الملابسات فإن العديد من قيادات جماعة الدعوة والقتال وجدت نفسها مضطرة للبحث عن ملاجئ في مالي والنيجر والتشاد. ووجدت ملاذا آمنا عند بعض القيادات الإرهابية. هل التحالف بين السلفيين الجهاديين والتوارف الانفصاليين يدفع في اتجاه تدخل عسكري أجنبي؟ أعتقد أن خاصية قيادات الحركة الوطنية لتحرير أزواد بعضها مرتبط بالمنطقة، وآخر مرتبط بالغرب، والحركة حتى تدخل في حرب تحتاج إلى دعم. والغرب يريد أن يعيد التجربة التي قام بها في أفغانستان، حيث كان هناك تحالف بين طالبان والقاعدة، ولعبت أمريكا على التناقضات الموجودة بين الحركتين، وهذا اللعب على التناقضات وجّه ضربات قاتلة لقيادة القاعدة. والآن الغرب يتحدث عن فتح الحوار مع طالبان. والأمر يمكن أن يطبق في المنطقة بين حركة الأزواد، التي تميل إلى التيار الصوفي وحركة أنصار الدين ذات التوجه السلفي الجهادي، والغرب بصدد اللعب على هذه التناقضات، واحتواء الوضع من خلال تفجير هذه التناقضات، إلى جانب أن شيوخ قبائل التوارف يملكون معلومات مهمة حول قيادات القاعدة. الجزائر: حاوره رضا شنوف الخبير في الشؤون الأمنية بن جانة بن عمر ''الأزواد أُرغمت على التحالف مع أنصار الدين وفرنسا تبحث عن التدخل العسكري'' كيف تقرأون مسعى الوحدة بين أنصار الدين وحركة أزواد في شمال مالي؟ أعتقد أن هذه العلاقة والاتفاق الذي حصل بين الأزواد وأنصار الدين هو اتفاق ذهبت إليه حركة الأزواد مرغمة، لسببين أساسيين، يتعلق الأول بكون الجماعات المسلحة الموجودة في المنطقة هي خمس مجموعات، القاعدة وأنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا وحركة الأنصار، وهي كلها مسلحة تسليح قوي ولها تجربة ميدانية، وتتبنى فكرا جهاديا متقاربا وتسعى لتطبيق الشريعة، وهذه المجموعات توجد في مقابل حركة الأزواد التي تعتمد الأسلوب العلماني، لذلك وجدت هذه الأخيرة نفسها مرغمة على توقيع هذه الوحدة. كيف تعلّقون على طلب الرئيس الفرنسي الجديد من هيئات إفريقيا اللجوء إلى مجلس الأمن لحسم الأزمة في مالي؟ محاولة فرنسا نقل الأزمة من الهيئات الإفريقية الساعية حاليا إلى حلحلة الأزمة ومحاصرتها، هو شكل من أشكال البحث عن شرعنة دولية للتدخل في الأزمة في مالي، وفرنسا تتحمل جزءا من المسؤولية في تأزيم الوضع في مالي، عبر دورها في الأزمة الليبية وتدخلاتها المتعددة في المنطقة، بالنظر إلى أن الأزمة في مالي هي نتاج أزمة ليبيا، والوضع أثبت أن التدخلات الخارجية والتدخل العسكري والأجنبي لهما دائما عواقب وخيمة، أمنيا واجتماعيا وسياسيا. ويمكن أن نتصور منطقة شمال مالي التي تمثل ثلث مساحة مالي، في حال وقع تدخل أجنبي كيف ستتحول إلى مستنقع حقيقي، يستجلب معه المتطرفين، على غرار ما وقع في مناطق أخرى في العالم. لماذا لا نرى وجودا لهيئة أركان الدول الأربع المشتركة، في ظل التطورات الأخيرة في مالي، كاختطاف القنصل الجزائري والتحالف بين الأنصار والأزواد؟ أعتقد أن دول المنطقة فضلت أن تسمح لدول ''الايكواس'' بطرح مبادرتها، وهي في حالة ترقب بشأن ما تؤول إليه التطورات في مالي، كما أن مالي لم تعد لها أسس دولة، وليس لها قدرات ذاتية تتيح لها المساهمة بالشكل الكافي في محاربة الإرهاب، وليس فيها سلطة مركزية، وبالنسبة للنيجر يمكن أن تكون الضغوط خارجية، هي التي تسعى إلى التدخل العسكري وراء صمتها، إضافة إلى أن الوضع الهش لموريتانيا يجعل من الجزائر الدولة المحورية والمركزية الوحيدة في المنطقة التي تضغط من أجل إبعاد الحل الأمني والعسكري، واستبعاد التدخل الخارجي للأزمة التي أصبحت خطيرة، وقد تحوّل المنطقة إلى مستنقع. الجزائر: حاوره عثمان لحياني