إنّ الحجّ هدم لكلّ ركام الخطايا والذنوب السالفة. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ''مَن حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه''، فهو ميلاد جديد للإنسان. فصحيفته بيضاء نقية يوم عودته، كأنّما خرج إلى الدنيا من بطن أمّه. إلى كلّ مَن حجَّ بيت الله الحرام ووقف في تلك المواقف، حيث مشاهد التجلِّي الإلهي، وتنزّل الرّحمات، إلى مَن بسط في تلك المشاهد كفّيه، وحسر رأسه، وتجرَّد لله في لباس العبودية والذلّ والمسكنة، ودعا ربًّا عظيمًا، بَرًّا كريمًا، لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا فضل أن يعطيه، فأحسن ظنَّك بربِّك، وبالغ في الإحسان، فإنّ ربَّك عند ظنِّك، وعطاء الله أعظم من أملك، وجوده أوسع من مسألتك. احتسب عند ربّك يوم تجلَّى الله على أهل ذاك الموقف، وكنتَ معهم، فقال العزيز الجبّار لملائكته وهو أعلم: ''ما أراد هؤلاء، أتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحين، أشهدكم أنِّي غفرتُ لهم''. احتسب عند ربّك يوم أفاض أهل الموسم حاسري الرؤوس، وأنت معهم، فقال الله عزّ وجلّ: ''أفيضوا مغفورًا لكم''. قال ابن المبارك رضي الله عنه: ''جئتُ إلى سفيان الثوري عشية عرفة، وهو جاثٍ على ركبتيه، وعيناه تهمِلان، فالتفت إليَّ، فقلتُ له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الّذي يظنُّ أن الله لا يغفر لهم''. وروي عن الفُضَيل بن عياض، رضي الله عنه، أنّه نظر إلى نشيج النّاس وبكائهم عشيَّة عرفة، فقال: ''أرأيتم لو أنّ هؤلاء صاروا إلى رجلٍ فسألوه دانِقًا (يعني: سدس درهم) أكان يردُّهم؟ قالوا: لا. قال: والله، للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجلٍ لهم بدانِقٍ''. فكلّ عمل صالح ابتُغي به وجهه سبحانه وتعالى، فسبيله القبول والمضاعفة، وأنّ الله عزّ وجلّ أكرم وأفضل من أن يردّ على عبده عملاً صالحًا عمله خالصًا له، وأنّ مَن ظنّ بالله غير ذلك فقد ظنّ به ظنّ السُّوء. هنيئًا لكم حجاجنا الميامين، وبشرى وقرّة عين، فقد ولدتم بحجّكم هذا ميلادًا جديدًا، وتركتم وراءكم ركام الذنوب، وحصيلة العمر من الآثام، وعدتم كيوم ولدتكم أمّهاتكم، فاجعلوا من حجّكم بداية حياة جديدة، ومعاملة صادقة صالحة مع الله، واستأنفوا أعمالكم فقد كفيتم ما مضى، ولكن الشّأن فيما بقي. واعلم، أخي الحاج، أنّك ستبدأ بعد حجِّك جولة جديدة وأنت خفيف الظهر من تراكمات الماضي، وتبدأ حياتك برجاء كبير وإقبال على الله، تستكثر من الطّاعات، وتجاهد النّفس عن السّيِّئات، فإن زللتَ بسيِّئة أتبعتها حسنة، قال صلّى الله عليه وسلّم: ''وأتْبِعِ السيِّئَة الحسنة تَمْحُها''، وكلّ حسنة فسبيلها المضاعفة والتكثير، وكلّ سيّئة سبيلها المغفرة والتكفير. لقد كان السّلف الصّالح، رضوان الله عليهم، يتلقون الحجيج عند قدومهم يسألونهم الدعاء، ويقولون: استغفروا لنا، لأنّهم قد عادوا من حجِّهم بلا ذنب، فهم مظنَّة قبول الدعاء.. والله المستعان.