''التهريب وسيلتنا الوحيدة لكسب العيش.. ولنا حيلنا ولمصالح الأمن حيلها'' أبناء المنطقة لم يعودوا قادرين على منافسة مهرّبين من 48 ولاية ما يزال الشريط الحدودي لولاية تلمسان يشكل الرواق المفضّل للمهرّبين ولمرتكبي الجريمة العابرة للحدود، بفعل كثرة التجمّعات السكانية وسهولة التضاريس. وبرغم تعزيز وتشديد الرقابة على طول الشريط لرصد حركة تنقّل الأشخاص والممتلكات، إلا أن سكان الزوية، باب العسة، سيدي بوجنان، بوكانون،، وحتى مغنية والغزوات، يفضّلون العمل بقاعدة ''إما كسر الجدار أو اختراق السقف'' لضمان قوتهم اليومي، ويقولون ''لنا حيلتنا ولمصالح الأمن حيلتها''، بل ويعترفون أن فتح الحدود بين الجزائر والمغرب، في الوقت الحالي، لا حدث، وسيُلحق بحياتهم اليومية أضرارا أكثر ممّا سيدرّ عليهم أرباحا. الزائر للمنطقة القريبة من الشريط الحدودي الغربي، وبالضبط الرواق الممتد من مغنية إلى بوكانون، بوسعه أن يمشّط بعينيه، إن لم يتمكّن من زيارة عدد من المداشر والقرى الواقعة على نقاط تماس التراب الجزائري والمغربي، مظاهر طوابير سيارات من نوع ''رونو 21''، و''625'' و''مرسيديس''، بعد أن لحق بالركب أصحاب شاحنات. مهرّبون للوقود من سطيفوقسنطينة والعاصمة والشلف.. فبمنطقة الشبيكية، أول منطقة زارها الرئيس الراحل هواري بومدين لبدء حملة تدشين القرى الاشتراكية، بحسب روايات عدد من سكانها، اصطفت عشرات السيارات والشاحنات للتزوّد بالوقود منذ الساعة التاسعة صباحا، على أمل تهريبه إلى الضفة الأخرى من الحدود، مع أنه، قبل نحو العام، كان من يسمّونهم ''الحلاّبة'' لا يتردّدون على محطات الوقود إلا عند حلول الساعة الثالثة مساء. هذا المعطى الجديد فسّره عدد من أصحاب سيارات الأجرة بكون المنطقة الحدودية تحوّلت إلى أرض تتقاطع فوقها طموحات وأطماع القادمين من 48 ولاية، وصارت مسرحا يحتضن ملابسات عديدة، ''ومع ذلك بقيت تهمة التهريب لصيقة بسكان مغنية وضواحيها''، يضيف السعيد. الروايات التي يقدّمها عدد من ''الحلاّبة'' عن تهريب الوقود، خلال الفترة الأخيرة، تفيد أن أبناء مغنية، باب العسة، سيدي بوجنان، بوكانون، السواني، وحتى الغزوات لم يعودوا قادرين على منافسة الوافدين الجدد من ''الحلاّبة'' القادمين من ولايات أخرى، ولا سيما من قسنطينة، سطيف، البليدة، المسيلة، بومرداس وحتى من الجزائر العاصمة، حتى إن مراد، وهو شاب ذو 24 عاما، ألف تهريب الوقود، يقول''إنّي أعرف سائقين محترفين قدموا من سطيفوقسنطينة والعاصمة ولهم شاحنات، بعد أن اكتشفوا أن العملية مدرّة لأرباح كبيرة''. فمن الشبيكية إلى سيدي بوجنان، مرورا بباب العسة، وصولا إلى بوكانون، بوسعك أن تقف على مشاهد استعراضية هوليودية يصنعها ''الحلاّبة'' في الطريق، حيث لم تشفع لا الممهلات التي أُنجزت بباب العسة وبوكانون، وسيدي بوجنان، ولا حتى نقاط المراقبة التي أقامها حرس الحدود والجمارك في الطريق، لمعرفتهم بالمسالك والدروب الوعرة. هؤلاء ''الحلاّبة'' يجتازون الممهلات بسرعة تزيد عن 100 كيلومتر في الساعة، وكان يكفي القائمين على ضبط قانون المرور في الجزائر أن يخصّصوا بنودا بشأن تحذير المواطنين من السلوكات الهمجية لهؤلاء ''الحلاّبة''، حيث، ولمرتين، على التوالي، كدنا نتعرّض لحوادث مرورية مميتة بسببهم. فيما يروي آخرون تعرّضهم للضرب بعد عمليات تلاسن وشجار معهم. وكان قائد المجموعة الولائية للدرك الوطني بتلمسان قد اعترف، قبل أشهر، أن ولاية تلمسان يتمّ تزويدها ب17029000 لتر من البنزين، و38168000 لتر من المازوت شهريا، يُستهلك الجزء الأكبر منه، والباقي يتمّ تهريبه إلى المغرب. التهريب تضاعف معدّله برواق مغنية-الغزوات رغم تعزيز وتشديد الرقابة على طول الشريط الحدودي، بتعزيز أجهزة الرؤية الليلية وتكثيف الطلعات الجوية لحوامات الدرك الوطني، وإقامة مزيد من نقاط الملاحظة على الشريط، من أجل ضمان مراقبة أكبر لحركة تنقّل الأشخاص والممتلكات وضبطها، إلا أن المهرّبين مازالوا يفضّلون رواق تلمسان، بمحوريه مغنية والغزوات، حيث لا يزال الوقود والمخدرات والنحاس والمواد الغذائية والسجائر والماشية وقطع الغيار في صلب اهتمامات شبكات التهريب، بدليل أن مصالح الجمارك حجزت كميات معتبرة من النحاس والسجائر، خلال تواجدنا بمغنية. بل إنّ التقرير المشترك الذي قُدّم للوزير الأول، نهاية سنة 1102، عن التهريب، بشكل عام، يفيد أن معدّلات التهريب بالشريط الحدودي الغربي ارتفعت ب44 بالمائة، بالرغم من التعزيزات الأمنية الإضافية التي كانت قيادة الدرك الوطني قد سخّرتها لدعم الحزام الأمني الأول لحرس الحدود، في جانب تكثيف الطلعات الجوية للحوامات الذي يندرج في إطار تشديد الخناق على شبكات التهريب وإحباطها في الحين، بالقيام بعمليات مشتركة بين فصائل الأمن والتدخّل للمجموعة الإقليمية مع عناصر الحدود، ثم يليه مخطّط الانتشار الأمني لوحدات أمن الطرقات، مع تفعيل العمل الاستعلامي الذي تقوم به الفرق الإقليمية بالتنسيق مع فصيلة الأبحاث، دون نسيان التحقيقات الكبرى التي تتمّ بالتنسيق مع الشرطة القضائية. ويتكامل ذلك كله مع عمل مصالح الجمارك، التي فتحت، بدورها، مراكز مراقبة على الشريط الحدودي يكمل عمل حرس الحدود. أحزمة الفقر وسماسرة الانتخابات التفسير الذي يقدّمه عناصر حرس الحدود والشرطة والجمارك لتفضيل شبكات التهريب رواق مغنية، بالدرجة الأولى، وضواحي الغزوات، يكمن في كثرة التجمّعات السكانية القريبة من نقاط تماس التراب الجزائري المغربي، مثل الزوية، السواني، المعازيز، المصامدة، إلى جانب مداشر أخرى تابعة لسيدي بوجنان، باب العسة، بني بوسعيد، سيدي مبارك وغيرها، وكذا سهولة التضاريس الموجودة بها. لكن الزائر لبلدية باب العسة ومداشرها، مثلا، بوسعه أن يقف على مظاهر البؤس والحرمان العالقة بوجوه أهلها، فكل روايات شبابها تتقاطع في خانة واحدة، هي أن التنمية المحلية التي ينعم بها شباب وسكان باقي بلديات الوطن لا أثر لها في باب العسة ومداشرها، التي لا تزال تمثّل أحزمة تحتضن الفقر، فلا الشباب استفاد من مناصب شغل، ولو في إطار الشبكة الاجتماعية، ولا العائلات استفادت هي الأخرى من مشاريع سكنية. هذا الوضع المزري ينسحب، أيضا، على سكان سيدي بوجنان، المعازيز، المصامدة، سيدي أمبارك، سيدي بوسعيد، الزوية وغيرها.. ''فمنذ الاستقلال لم تحتضن هذه المداشر الواقعة على الشريط الحدودي أي مشروع تنموي يمتص البطالة، بل حتى التلاميذ في المنطقة عادة ما يغادرون مقاعد الدراسة مبكّرا للالتحاق بمهنة تهريب الوقود وباقي السلع''، يقول أحمد. هذا الوضع جعل سكان القرى والمداشر مجبرين على الانخراط بقوة في لعبة تهريب كل شيء، بل وتحوّل أشخاص منهم إلى مشاريع مبرمجة في أجندة بعض ''البارونات''، التي تجيد تهريب المخدّرات وباقي السلع الأخرى. وما عدا وحدة إنتاج الرخام وأخرى خاصة بالزيت بمغنية ومصنع للزنك بالغزوات، فإن المنطقة الممتدة من مغنية إلى بوكانون مرورا بالغزوات، تعتبر فقيرة من حيث التنمية. ولا تنتعش البلديات الموجودة بها إلا أثناء الحملة الانتخابية، حين يأتي سماسرة الانتخابات ويمطروا سكان أحزمة البؤس بالوعود، وحين يمر الموعد الانتخابي تعود القرى والمداشر والبلديات إلى واقع بؤسها ويأسها. حين سألنا محمد، شاب يقطن بالزوية، عن الكيفية التي يحصل بها سكان الزوية على قوت يومهم، ولاسيما بعد أن عزّزت مصالح الأمن (حرس الحدود، الشرطة) والجمارك من وسائل مراقبتها للحدود، وخاصة أجهزة الرؤية الليلية، قال ''إنه لا بديل عن التهريب، فهي الوسيلة المتاحة لكسب العيش، فلمصالح الأمن حيلها ولسكان المناطق الحدودية حيلهم''. وعلى هذا النحو تستمر الحرب الباردة في وضح النهار وتحت جنح الظلام، بين المهرّبين وحرس الحدود والجمارك والشرطة، حرب يجنّد لها المهرّبون حمير، مستودعات، عجائز، نساء حوامل، شباب قصّر وحتى أطفالا. الشارع في مغنية: ''الحدود لن تُفتح..'' ولكن الشارع في مغنية وتلمسان يعترف أن المناطق الحدودية تستثمرها ''مافيا'' كبيرة ترفض الخروج للضوء، ولكنها تقبل بتوزيع الكعكة على الشريحة التي تهرّب الوقود العارفة بمسالك ودروب الحدود. فمن سائق سيارة الأجرة إلى الجمركي إلى القهواجي إلى بائع المواد الغذائية إلى مهرّب الوقود، وصولا إلى العقيد والشهيد.. من مغنية إلى الغزوات كلهم قدّموا لنا تفسيرا واحدا وقراءة واحدة عن الكميات الكبرى من المخدّرات المحتجزة، خلال الأشهر الأخيرة، والمقدّرة بالأطنان والقناطير، مفادها أن السلطات الجزائرية تريد تمرير رسالة واحدة للرأي العام، الوطني والدولي، مفادها أن الحدود البرية التي تمّ غلقها سنة 1994 لن يتمّ فتحها وستبقى مغلقة، لأنه في حال فتحها ستكون المخدّرات في صدارة المواد التي ستدخل الجزائر. هذا الطرح يدافع عنه عبد القادر، سائق سيارة أجرة، يشتغل على خط مغنية الغزوات: ''نحن اليوم نواجه صعوبات في تحصيل قوت يومنا، فما بالك حين يتمّ فتح الحدود، سيظهر هناك تنافس على مناصب الشغل، فضلا عن أن المغرب ليس بوسعه إفادة الجزائر بأي شيء، كل ما سيأتي، من عندهم، هو المخدرات، المشروبات الكحولية والنساء''، فيما يشير نور الدين، له سيارة من نوع ''رونو 12'' يستعملها لتهريب الوقود، إلى أن ''فتح الحدود لا يعني شيئا في الظرف الحالي، بل هو لا حدث، لأن العملية ستضرّ الجزائريين أكثر ممّا ستنفعهم، فعندما يتمّ فتحها يُحرَم المئات من أبناء مغنية والغزوات وتلمسان من تهريب الوقود، لأن المغربي باستطاعته شراءه بنفسه من الجزائر وبيعه في المغرب''. والقناعة نفسها تسكن علي، شاب يبيع الوقود بنوعيه في منزله بقلب مغنية: ''أنا أعرف المغاربة والمغرب جيدا، ولن يفيدونا في شيء، هم سيأتوا لنا بالمخدّرات، المشروبات الكحولية والنساء وقطع الغيار، فيما سيتولّون بأنفسهم تهريب المواد ذات الاستهلاك الواسع المدعّمة من قبل الدولة، وخاصة حليب الأطفال، العجائن، السميد، السكر، والفرينة.. فضلا عن كون هذه المواد أسعارها مرتفعة وغير مدعمة في المغرب''. ويرى سنوسي، تاجر في المواد الغذائية، أنه ''لا فائدة، في الوقت الراهن، من فتح الحدود، على اعتبار أننا شاهد عيان على ما يجري في الحدود، ولا نرتقب أي جديد سيأتي من المغرب، طالما أننا، كل أسبوع، ندخل سوق مليلية المتواجد بالقرب من وجدة، هذه السوق تجد بها كل المواد الغذائية المنتجة في الجزائر، بل وحتى المواد التي أُنتجت في الجزائر ومفقودة في السوق، هُرّبت إلى المغرب لتُباع بأسعار مضاعفة''. جمركيون: تجربة فتح الحدود العقيمة مع التونسيين ستتكرّر مع المغاربة.. ويقدّم جمركيون التقيناهم بمغنية منظورا يتساوق مع طروحات أبناء المنطقة، مفاده أن المعادلة التي كانت سائدة في الجزائر حتى منتصف التسعينيات قد تغيّرت، حيث كان للجزائريين الأموال قبل أن تتقهقر عملتهم، ولم تكن لديهم سوق لشراء حاجياتهم ما جعلهم يتردّدون على المغرب لشراء ما يحتاجونه، ولكن اليوم أصبح للجزائريين كل الحاجيات في بلدهم، ألبسة، مأكولات، وسيارات، ويؤكدون أن تجربة فتح الحدود التونسية الجزائرية ستتكرّر عند فتح الحدود الجزائرية المغربية، ''فالتونسيون عندما يأتون إلى الجزائر يبيتون في الحمامات وليس الفنادق، ولا يدخلون المطاعم الفخمة بل يكتفون بالأكل في أشباه مطاعم، حتى لا يدفعوا أكثر ولا يشتروا أي شيء من الجزائر''. وعلى هذا الأساس، و''بحكم التجربة في الميدان، لا ننتظر أي جديد من فتح الحدود، حيث سيقوم المغاربة باقتناء المواد ذات الاستهلاك الواسع والنحاس والوقود، ويأتوا بمخدّرات وألعاب نارية وسجائر وألبسة ومشروبات كحولية وقطع غيار مستعملة.. بل وحتى نوعية البرتقال والطماطم التي تصلنا من عندهم هي من النوعية الرديئة''. وفي سياق كل ذلك، المغرب لم يصادق على اتفاقيات محاربة التهريب ومحاربة الإرهاب، والهجرة غير الشرعية ولا محاربة المخدّرات، مع أن الرأي العام قد لا يُدرك خبايا رهان فتح الحدود، خاصة وأنها شأن سيادي إستراتيجي يتعدّى مسألة ''التراباندوا''، والموضوع يكتسي حساسية كبرى.