مرة أخرى، أذكر أن السينما هي التي حملتني إلى عوالم وليام فولكنر. شاهدت فيلم “الصخب والعنف” بطولة جوان وودوورد، ويول بروينر (هذا الممثل الأصلع الذي تربع على عرش هوليود إلى أن أزاحه الممثل ستيف ماكوين بفضل دوره في فيلم “المرتزقة السبعة”، ليسقط بدوره لاحقا بقدوم الممثل دسيتين هوفمان في فيلم “بابيون”)، فبحثت عن الرواية، ولما وجدتها بتلك السهولة التي ميزت مرحلة السبعينيات، صعب علي قراءتها نظرا لتعقد بنائها وخلوها من الانفعالات وجفاف أسلوبها وتوغلها في الرمزية، فكيف لشاب دأب على قراءة آغاتا كريستي وغي ديكار، أن ينتقل لقراءة “الصخب والعنف” التي كتبها فولكنر اعتمادا على أسلوب مليء بالصياغات والجمل الطويلة. تركت الرواية جانبا لسنوات عديدة، إلى أن قرأت إحدى “حلزونيات” رشيد بوجدرة في مجلة “الوحدة”، تحدث فيها عن فولكنر ورواية “الصخب والعنف”. كما أن بداية الشغف بارنست همنغواي وتتبع آثاره، جعلني ألتقي بفولكنر مجددا، فقد عاش بدوره في فرنسا خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وتصعلك بالحي اللاتيني ومونبرناس، مثلما تصعلك همنغواي وهنري ميللر، وسكوت فيتجيرالد، لكنه سرعان ما استقر في مدينة أكسفورد (مسيسيبي) وانزوى بها، ولم يعد يهتم بالسفر. ومن عزلته تلك، أبدع مدينة متخيلة تدعى “يوكناباتونا”، وجعل منها مدينة تدور فيها جل أعماله الروائية. وتندرج رواية “الصخب والعنف”، ضمن صرح روائي بدأه فولكنر بعد أن نشر رواية “سارتوريس”، حيث تبرز ملامح الجنوب الأمريكي الذي ولد فيه، بكل أبعاده التاريخية والأسطورية. وتشير الرواية إلى الارستقراطية الجنوبية، مجسدة في عائلة “آل سارتوريس”، حارسة التقاليد الأمريكية كما كانت تبرز وسط مزارع القطن، والتي تقوم على تسخير العبيد السود، وخسرت كل هيبتها وأملاكها عقب انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية سنة 1865. وأمام فقدانها لقاعدتها المادية، لم يبق أمام “آل سارتوريس”، سوى الانكماش على نفسها والالتفاف حول ذكريات الماضي، ذلك الماضي الذي لا رجعة له. وفي مقابل عائلة الكولونيل سارتوريس، هناك عائلة “آل سنوبس”، التي ترمز للطبقة البرجوازية الجديدة ذات الميول الانتهازية، والطبائع البليدة والأخلاق النفعية. لم تكن “الصخب والعنف”، في الأصل سوى قصة قصيرة، تدور أحداثها في مقبرة، عند دفن جدة آل كومبسون، وتتناول موضوع الموت وكيف ينظر إليه أطفال صغار. لكن القصة القصيرة أصبحت رواية وأي رواية. وهنا يشير فولكنر، وفق ما جاء في كتاب أندري بلايكاستن، إلى أنه مزق كل عناوين الناشرين وقرر قطع الصلة مع القراء، وقال لنفسه بأنه سوف ينكب على كتابة رواية كما يريدها هو، وليس كما يرغب فيها الناشر والقراء. أراد أن يفرض شخصيته ككاتب. وبالفعل، بدأ فولكنر في الكتابة لنفسه، وفق رغباته وشطحاته، فانفتحت أمامه عوالم الكتابة، وصرح لاحقا “لأول مرة لم يكن أمامي أي خطة”‘. ونجده يقول لاحقا “لا أدعي بأن للكلمات حياة مستقلة ولكني أعتقد أن الكلمات إذا جمعت بمهارة فائقة تنتج شيئا حيا، كما تخلق الجو والأرض والأحوال الملائمة للأشجار، فإن الكلمات كالأغصان لا تخلق الواحدة منها شجرة ولكن إذا جمعت فإنها ولاشك تنتج شجرة”. استخدم فولكنر في “الصخب والعنف” تقنية الزمن كتقنية سردية جديدة، فاختلف عن الروائيين التقليديين، وقال النقاد عنها بأنها تقنية إغريقية قديمة وظفها كتاب الملحمة أمثال هوميروس. لم تحقق الرواية أي انتشار، كتب فولكنر روايته بروح الفنان، فكان مصيره الفشل، وها هو صمويل بيكيت يكتب “أن تكون فنانا، معناه أن تفشل مثلما لم يجرؤ أحد على الفشل قبلك. الفشل هو عالم الفنان بامتياز”. رغم فشل الرواية، ظل فولكنر يعتقد بأن كتابه يندرج خارج التقاليد الأدبية، وسوف ينتقم لنفسه يوما. كان يدرك ذلك جيدا، فقال لأحد رفاقه “انظر لهذا الكتاب، إنه كتاب لقيط”.. ثم أضاف “لن يكون بإمكاني كتابة رواية تضاهي الصخب والعنف”.