تقليعات الكتابة الروائية في أمريكا قليلة جدا بحكم أن فن الرواية ارتبط ارتباطا وثيقا بفن السينما، أي إن السرد هو المسيطر في هذا الشأن. الكاتب الروائي يضع روايته وليس له من هم فني آخر سوى سرد حكاية معينة، سواء أكتب على طريقة وليام فولكنر، رائد الرواية في أمريكا، أم على طريقة قرينه إرنست همنغواي. ويمكن القول إن تقنيات الكتابة الروائية في أوربا الغربية تعتمد عنصر السرد بقدر ما تعتمد إدخال بعض التقنيات الجديدة. وليس أدل على ذلك من أن تيار الوعي في الرواية ولد في إنجلترا على يدي جيمس جويس الإيرلندي، وفرجينيا وولف الإنجليزية، ثم نشأ على يدي ويليام فولكنر في أمريكا خلال نفس الفترة، أي العشرينات من القرن السالف. في هذه المرة، تطلع على دنيا الفن الروائي تقنية جديدة في أمريكا، وأعني بها تلك التي نشأت على يدي الكاتب الراحل، كورت فونيجوت، مؤلف رواية (المسلخ رقم 5)، هذه الرواية المدوخة حقا. ففي روايته التي صدرت في أخريات أيام حياته (فطور الأبطال) عمد هذا الروائي إلى تزويدها بالكثير من الرسوم التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالحكاية. لكن، لا يبدو أن هناك من سار على نهجه في هذا الموضوع، وقد يعود الأمر إلى أن هذه التقنية صعبة جدا، وتتطلب التمكن من فنون الرسم أولا، إلى جانب أن الرسوم نفسها جزء من السرد الروائي، أي إنه لا يمكن قراءة الرواية دون مراعاة تلك الرسوم. وكان الروائي الإيطالي (إيتالو كالفينو) مؤلف رواية (لو أن مسافرا ذات ليلة من ليالي الشتاء) قد فعل نفس الشيء قبله في إحدى رواياته التي يعالج فيها موضوعا خياليا مائة في المائة، معتمدا في ذلك على ترتيب أوراق اللعب عبر فصول الرواية. ونجح في ذلك أيما نجاح، لكن لم يتجرأ روائي آخر على أن يسير على نهجه. هذا الميل إلى الجمع بين السرد والرسم موجود أيضا في بعض الكتابات النثرية التي لا علاقة لها بالحكاية مثلما هو الشأن عند الروائي الباحث (ميشال بوتور) كما نرى ذلك في كتاباته عن الموسيقى والفنون التشكيلية بصورة عامة. فهل اللغة عاجزة عن تأدية جميع الوظائف؟ وهل مفاتيحها محدودة إلى درجة أن بعض الكتاب صاروا يلجأون إلى توظيف الرسم والاستعانة بقدراته الخارقة على تأدية المعاني؟ في الأدب العربي الحديث، كانت هناك موجة مماثلة خلال النصف الأول من القرن العشرين لدى بعض كتاب أدب الأطفال، وخاصة بين أولئك الذين أعادوا صياغة ملحمة (عنترة بن شداد) وغيرها من القصص التراثية الأخرى. لكن، لا يبدو أن الرواية العربية رغبت في المزاوجة بين السرد والرسم، وقد يعود ذلك إلى أن وراء الكتابة النثرية في العالم العربي تاريخا طويلا يقوم على الوصف في المقام الأول. إذ أن اللغة العربية هي التي اضطلعت بفن الرسم إن صح التعبير بدلا من الريشة، وذلك في وقت حرم فيه البعض كل ما يمت بصلة إلى التجسيد. هذه المحاولات كلها من أجل كسر الرتابة السردية ما زالت في بداياتها مشرقا ومغربا. وقد يعمد الكتاب الروائيون إلى إنشاء قوالب فنية جديدة تجمع بين السرد والرسم بالاعتماد على قدرات الحاسوب في المستقبل.