- كم نحن بحاجة إلى دراسة علوم جديدة، ومنها خاصة علوم التلقي، وما يدفعني إلى هذا القول التهم المجانية التي وجّهها إليّ البعض بالقول إنني حاولت تهديم رمزية بن باديس، ويبدو أنهم لم يتمكّنوا من تفكيك جملة “التضخيم المفرط”، والتي يقصد بها التضخيم المبالغ فيه جدا على حساب رموز جزائرية أخرى يحقّ لها أن تكون لها مكانة في الذاكرة. بل ما أردناه هو إعادة الاعتبار لرموز أخرى أهملت في تاريخنا، في الوقت الذي ضخمت بشكل كبير جدا رمزية بن باديس، فقد شوّهت رموز كبرى في مثل مقام بن باديس، كمصالي الحاج وفرحات عباس على سبيل المثال لا الحصر. كما لم أقصد المساس ببن باديس، بل فضح وضرب الذين يستغلون رمزيته لخدمة أهداف إيديولوجية وسياسوية، وهي بعيدة كل البعد عنه.. أريد أن أسأل هؤلاء ما علاقة بن باديس بإيديولوجيات مشرقية، وأعني بها كل هذه الإيديولوجيات التي جاءتنا من المشرق العربي، وغزت ديارنا، والتي لا علاقة لها لا بالأمة الجزائرية ولا ببن باديس، وغزت عقول بعض شبابنا، فطمست تاريخ أمتهم الجزائرية ورموزها ومعالمها الحضارية والثقافية والدينية، كما أنستهم جذور أمتهم العميقة والموغلة في عمق التاريخ. ونذكر من ضمن هذه التيارات السلفية والوهابية التي كانت وراء إرهاب التسعينيات، وتسعى اليوم لأخذ شرعية وطنية باستغلال رمزية بن باديس. وما علاقة بن باديس بالإخوان المسلمين أو بإيديولوجية القومية العربية التي أقصت جزءا كبيرا جدا من الجزائريين لأنهم يؤمنون بالأمة الجزائرية بكل مقوماتها ومكوناتها، ومنها الأمازيغية كثقافة ولغة، والتي كانت موجودة قبل الإسلام ولازالت إلى حد اليوم، والتي ما ينفك يردد بعض العروبيين أنها صنيعة فرنسا. ويجب أن نوضح ونميز بين العربية والعروبة، فالعربية هي ثقافة ولغة نعتز بها، وهي إحدى المكونات الأساسية للأمة الجزائرية مثل الإسلام والأمازيغية، أما العروبة فهي إيديولوجية شوفينية إقصائية وعنصرية، وتعود جذورها إلى الأمويين الذين قسموا المسلمين إلى العرب القرشيين في درجة أولى والمسلمين المتبقين مجرد موالي من درجة ثانية، ولهذا أسميت بعض العروبيين اليوم في العديد من كتاباتي ب«الأمويين الجدد”. للأسف، تأخذ هذه الإيديولوجية في كل موقع تكتيكا، فهي في المشرق لائكية وعلمانية كي لا تغضب المسيحيين العرب، لكننا نحن في الجزائر وبلاد المغرب الكبير ركبت ووظفت الإسلام الذي يرفض التعصب القومي، ويعتبرها جاهلية نتنة، وأصبحوا يرددون يوميا هذا الربط غير الطبيعي بين الإسلام والعروبة في المشرق وفي المغرب على حد سواء، متجاهلين أن هذا الربط هو وليد مخابر صهيونية لتحويل الإسلام، الذي هو دين الإنسانية جمعاء، إلى دين قومي، أي خاص بالعرب، كما خصّ بني إسرائيل اليهودية بهم، وكي يبعدوا غير العرب عن الإسلام. في الحقيقة ما لم يفهمه هؤلاء، للأسف، هو أنني أشرت إلى بن باديس كثورة في الممارسة الدينية، لكن دائما، للأسف، كلما حاولنا، نحن المسلمون، عبر تاريخنا التطور في إطار فهم جديد وتقدمي للممارسات الإسلامية، كي نتطوّر مع العصور في إطار التجديد، خاصة في بلاد المغرب، خرج علينا المشارقة بإيديولوجيات تراجعية، فيضيعون علينا الفرصة تلو الأخرى، فقد حدث هذا مع ظاهرية بن حزم وأفكار ابن رشد في الأندلس. وأذهب أبعد من ذلك بالقول إنه كلما ظهرت أفكار تطورية في إطار الإسلام في تاريخنا كلما عدنا القهقري إلى الوراء، بفعل أفكار متطرفة ومغلقة وجامدة. ويبدو أن هذا ما وقع مع بن باديس ذو البعد المغاربي، فبمجرد ما بدأت جمعية العلماء الاحتكاك بالمشارقة، مع الإبراهيمي، تراجعت الأفكار الإصلاحية والتجديدية التي حملها بن باديس، لدرجة أن يقف اليوم الكثير من الوهابيين ومن يسمون السلفيين، ليعتبروا أنفسهم استمرارية لبن باديس، وهم بعيدون عنه كل البعد. أما بشأن أن بن باديس كان إدماجيا في الثلاثينيات فهذا لا ينقص شيئا من عمله الإصلاحي والديني، فهو مثل فرحات عباس الذي تطور فيما بعد، ولم أقل قط إنه اندماجي، مثله في ذلك مثل فرحات عباس الذي اتهم بالإندماجية، لكنه كان إدماجيا وليس اندماجيا لفترة مثل بن باديس. لا يمكننا في هذه المقالة الغوص أكثر في مواقف بن باديس من أتاتورك والخلافة والديمقراطية، وكذلك شباب الجمعية، لكن أحيل القارئ في ذلك إلى كتابي “التيارات الفكرية في الجزائر المعاصرة”. أما بشأن كتابي عن الرمز بن باديس، فلو أعدت كتابته سأكتب فيه تقريبا الكلمات نفسها، فأنا لم أضخم فقط رمزية بن باديس، كما يفعل البعض الذين حصروا الجزائر في بن باديس لدرجة الاعتقاد بأنه هو مشعل فتيل الثورة، فقد ضخمتُ أيضا فرحات عباس ومصالي الحاج في الوقت الذي كان من الصعب الحديث عنهم، إضافة إلى رموز أخرى يجب أن تأخذ حقها في تاريخ الجزائر ونصيبها من الرمزية. كما أنه من غير الممكن أن نكتب سلسلة تربوية موجهة للناشئة، في إطار بناء الأمة، ونتحدث فيها عن أشياء لا يمكن لعقل الناشئة أن تفهمها أو تستوعبها، فقد جاءت “سلسلة أبطال من وطني” في تسعينيات القرن الماضي لبعث العديد من رموز الجزائر، بعدما أصبح بعض شبابنا، آنذاك، يستلهمون من شخصيات مشرقية مدمرة لأمتنا، كبن لادن وعبد اللّه عزام والبنا وآخرين. وفي الأخير، أوجه نصيحتي لبعض الذين سمّموا المجتمع الجزائري، ومهّدوا، دون وعي منهم حسب ما يبدو، لجرائم الإرهابيين ضد المثقفين، أن يكفوا عن ترديد النعوت بهدف زرع البلبلة والمغالطات، للضحك على الذين لا يمتلكون ثقافة مفاهيمية ومصطلحاتية، والتي لا تميز بين الفرنكوفوني والفرانكوفيلي وبين المسلمين والإسلاميين، وبين العربي والعروبي وبين الحداثي والمتغرب، وكلما فضحهم أحد رموه بسلاحهم الثقيل، المتمثل في سلسلة من النعوت كالفرنكوفيلية واللائكية والتغريبية والشيوعية وغيرها، والتي لا يدركها العامة، بل حتى بعض المثقفين، والتبست عليهم، بل يفهمها البعض، للأسف الشديد، أنها كفر وخيانة، لكن نسي هؤلاء أنفسهم بأنهم ساهموا بقسط كبير جدا في طمس تاريخ أمتنا العريقة وهويتها الحقيقية، والسعي إلى استيراد هوية مصطنعة بعملهم على “شرقنة” الجزائر بدعم “مشرقي”، فيشبهون في ذلك من يسمونهم المستغربين.. لكن فقط هم المتشرقنون الذين حطّموا مجتمعاتنا، وزرعوا الفتنة في جزائرنا تحت غطاءات شتى، ولو عاد بن باديس الرمز والحقيقي لكان عدوهم الأول، وحاربهما على حد سواء. [email protected]