العلاقات الجزائرية الصومالية "متينة وأخوية"    وزارة التضامن الوطني تحيي اليوم العالمي لحقوق الطفل    فلاحة: التمور الجزائرية تصدر إلى أكثر من 90 دولة    وزير الصحة يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 44056 شهيدا و 104268 جريحا    أيام إعلامية حول الإثراء غير المشروع لدى الموظف العمومي والتصريح بالممتلكات وتقييم مخاطر الفساد    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة:عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة التعاون الإسلامي: "الفيتو" الأمريكي يشكل تحديا لإرادة المجتمع الدولي وإمعانا في حماية الاحتلال    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    عميد جامع الجزائر يستقبل رئيس جامعة شمال القوقاز الروسية    فلسطين: غزة أصبحت "مقبرة" للأطفال    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    يد بيد لبناء مستقبل أفضل لإفريقيا    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    بحث المسائل المرتبطة بالعلاقات بين البلدين    حج 2025 : رئيس الجمهورية يقرر تخصيص حصة إضافية ب2000 دفتر حج للأشخاص المسنين    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    الجزائرية للطرق السيّارة تعلن عن أشغال صيانة    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يثمن الالتزام العميق للجزائر بالمواثيق الدولية التي تكفل حقوق الطفل    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    الجزائر تشارك في اجتماع دعم الشعب الصحراوي بالبرتغال    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    تكوين المحامين المتربصين في الدفع بعدم الدستورية    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    رئيس الجمهورية يشرف على مراسم أداء المديرة التنفيذية الجديدة للأمانة القارية للآلية الإفريقية اليمين    سعيدة..انطلاق تهيئة وإعادة تأهيل العيادة المتعددة الخدمات بسيدي أحمد    ارتفاع عدد الضايا إلى 43.972 شهيدا    فايد يرافع من أجل معطيات دقيقة وشفافة    القضية الفلسطينية هي القضية الأم في العالم العربي والإسلامي    حقائب وزارية إضافية.. وكفاءات جديدة    تفكيك شبكة إجرامية تنشط عبر عدد من الولايات    انطلاق فعاليات الأسبوع العالمي للمقاولاتية بولايات الوسط    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رابح لونيسي ل«البلاد»..الحديث عن تجريم الاستعمار صار تهريجا وسجلا تجاريا
نشر في البلاد أون لاين يوم 30 - 03 - 2012

يعتقد الدكتور رابح لونيسي، أن ما نملكه الآن هو الذاكرة، حيث لم نصل بعد إلى كتابة أكاديمية لتاريخ الثورة التي يمكن أن تعتمد على نقد هذه الذاكرة وكل الخطاب التاريخي حول الثورة بواسطة منهج خاص بتاريخ أعظم حركات التحرر في العالم..

̄ تحتفل الجزائر قريبا بالذكرى الخمسين للاستقلال.. ماذا حققت البلاد طيلة هذه المدة.. وهل ترى أن هناك فعلا مظاهر حقيقية للاستقلال بكافة أشكاله؟
أولا يجب أن ندقق في مصطلح «الاستقلال» الذي نحبذ عليه مصطلح «استرجاع الاستقلال»، ومصطلح «الاستقلال» غير صحيح بالنسبة للأمة الجزائرية تاريخيا ولا قانونيا، لأن الجزائر لم تكن أبدا جزءا من فرنسا كي تستقل أو تنفصل عنها. كما كانت الأمة الجزائرية دائما حريصة على استقلالها عبر تاريخها الطويل، فهي تقاوم كل الغزاة وتطردهم، وذلك منذ الغزو الروماني في القديم الذي عرف مقاومة عنيفة لا مثيل لها، وهي تشبه تقريبا نفس المقاومة التي عرفتها ضد فرنسا، وحتى عندما اعتنق أجدادنا الإسلام مائة بالمائة – وهي الظاهرة الوحيدة في تاريخ الشعوب الإسلامية-، فإنهم رفضوا أن يكونوا تابعين للدولة الأموية في دمشق آنذاك، بل أسسوا أول دولة مسلمة جزائرية مستقلة عن دولة الخلافة سميت الدولة الرستمية. ومن هنا أعود إلى سؤالك، وهو ماذا حققنا بعد استرجاع الجزائر استقلالها، وأشير إلى أنه عبر تاريخنا كلما تعرضنا لغزو نتوحد ونقاوم ونطرد المستعمر الدخيل، لكن من عيوب الأمة الجزائرية عبر هذا التاريخ وسلبياتها هو أنه بمجرد ما نطرد الغازي نعود مرة أخرى إلى صراعاتنا الداخلية ويقل بذل المجهود في العمل من أجل البناء. ولهذا يمكن أن نوصف بأننا محاربون وحريصون على استقلالنا، لكننا لا نعمل من أجل الحفاظ عليه بتقوية الأمة، ولهذا لم نحقق الكثير في ظرف نصف قرن مقارنة بتضحيات شعبنا، ونتعجب كيف أن الجزائري يضحي بدمه من أجل استرجاع استقلاله، ثم يصبح عاجزا عن التضحية بعرقه لبناء الجزائر، وبقينا بعد نصف قرن تابعين اقتصاديا لا أقول للغرب بل للنفط، لأننا أبقينا هذه الثروة ريعا تتحكم في أسعاره الاقتصاد الغربي، وأصبحنا تحت رحمته، وذلك بدل التفكير في استثمار أموال النفط لإقامة اقتصاد منتج، وعلى رأسها الاستثمار في البحث العلمي والصناعة والزراعة فنحقق ثروة مستقلة عن النفط، أي صناعة وزراعة وطنية. وبتعبير آخر؛ الانتقال من اقتصاد ريعي مدمر وتابع إلى اقتصاد منتج ومستقل.
̄ ماذا عن الاستقلال الثقافي واللغوي؟
ثقافيا، يجب أن نشير أيضا إلى عيوب وسلبيات أمتنا عبر التاريخ، وهي خدمة ثقافة الآخرين بدل خدمة ثقافتنا، حيث دائما بدل ما تنمي ثقافتها الوطنية المعبرة عن هويتها الأمازيغية العربية المسلمة، نجد التبعية الثقافية للخارج؛ فجزء من الجزائريين يمدون عيونهم إلى الضفة الشمالية للمتوسط، أي أوروبا، وجزء آخر يمدها إلى المشرق العربي، فيعمل كل طرف ضد الثقافة الجزائرية، فأحدهما يعمل على تغريب المجتمع الجزائري والآخر يشرقنه نسبة إلى المشرق. ويحتقر كلاهما الذات الجزائرية، وما يؤسف له هو أن كلاهما يدخلان في صراعات ثقافية قاتلة، وتصل في بعض الأحيان إلى العنف دون أي اعتبار للثقافة الجزائرية الحقيقية، وهي ظاهرة تتكرر عبر تاريخنا الطويل أي منذ القدم إلى حد اليوم. ولهذا أنا أطالب من المؤرخين والأنتروبولوجيين وعلماء الاجتماع البحث من أجل فهم أسباب هذه الظواهر السلبية في أمتنا وإقامة قطيعة معها، لأنها تبدو لي بصفتي مؤرخا؛ أحد العوامل التي تعرقل وعرقلت مسيرة الأمة الجزائرية عبر تاريخنا الطويل.
̄ ألا ترى أن هناك شبه قطيعة بين جيل الشباب وتاريخ الثورة؟
هناك مفهوم يجب أن نعرف تداوله وهو «الرأسمال الرمزي»، وهي مجموعة قيم الأمة، وبالنسبة لنا نحن الجزائريون تتمثل في الإسلام والعربية والأمازيغية والتاريخ الوطني، ومنه تاريخ الثورة. وهذا الرأسمال الرمزي عادة ما يوظفه السياسوي كرأسمال يوصله إلى السلطة أو يبقيه فيها، وأقول السياسوي بمعنى الذي يقوم ب«البولتيك»- حسب مالك بن نبي- وبتعبير أمهاتنا قديما، أي بمعنى الكذب والخداع والمخاتلة، ولا أقول السياسي لأن العمل السياسي عمل نبيل إذا استهدف تسيير الشأن العام للأمة، فالسياسويون وظفوا تاريخ الثورة وحولوها إلى سجل تجاري، وهو أمر خطير جدا لأنه يمكن أن يأتي يوم ويكفر الشباب بتاريخ هذه الثورة العظيمة، فبدل ما يكون هذا التاريخ مصدر استلهام لكل الجزائريين تحول إلى أداة للخداع والمخاتلة. وما نخشاه إذا واصلنا على نفس الطريق أن يحدث للبعض من المتاجرين والمستخدمين لهذا الرأسمال الرمزي نفس ما وقع لطبقة النبلاء ولرجال الكنيسة بعد الثورة الفرنسية عام 1789، وما نقوله على تاريخنا الوطني ورموزه نقوله أيضا على الرموز الأخرى وهي الإسلام والأمازيغية والعربية.
̄ يقول البعض إن الجزائريين قاموا بثورة كبيرة وحصلوا على منجزات صغيرة.. كيف ذلك؟
هذا لا ينطبق فقط على تاريخ ثورتنا التي دفعنا فيها مليون ونصف مليون شهيد، وأذهب أبعد من ذلك، فالشعب الجزائري يمكن أن يكون قد دفع سبعة ملايين شهيد أثناء الاستعمار الفرنسي، وهذا ليس جديدا في تاريخ أمتنا فهي معروفة عبر تاريخها منذ القدم بدفع التضحيات من أجل استرجاع استقلالها. لكنها للأسف بعد تحقيق ذلك تعود تلك العيوب والسلبيات الأنتروبولوجية التي ذكرناها عند الإجابة على سؤالكم الأول، وهو التقاتل والصراع فيما بيننا وعدم المثابرة والعمل والتبعية ثقافيا إلى قوى خارجية، وهو نفس ما وقع في الماضي البعيد ووقع بعد استرجاع الاستقلال عام1962، وهو ما يجب معالجته وإيجاد الحلول لذلك، وأنا بإمكاني أن أقترح في هذه العجالة بعضها، ونعتقد أنه بالنسبة للعمل لا بد من تثمينه وترك حرية المبادرة الاقتصادية والتجارية. أما بالنسبة للمجال الثقافي لا بد من العودة لبناء الأمة الجزائرية بدون أي إقصاء لكل مكوناتها المتمثلة في الإسلام والعربية والأمازيغية، والذي يشكل المثلث الذهبي بأضلاع ثلاث، وأي إبعاد لأي ضلع فيه تتكسر الأمة وتسقط. أما الصراع خاصة حول السلطة؛ فقد حلها الغرب ويتمثل في الحل الديمقراطي الحقيقي بالتداول السلمي على السلطة بواسطة اختيار الشعب واحترام الحريات الأساسية دون أي إقصاء لأي طرف كان، فيتحول الصراع إلى صراع سلمي بدل ما نكرر تجربتنا التاريخية وهو الوصول إلى السلطة بالعنف، والتي تتطلب إنفاقا أمنيا باهظا للحفاظ عليها. ويمكن أن أحيلك إلى إحدى كتبي في ذلك، وهو كتاب «أسس وميكانيزمات جديدة لدولة مسلمة معاصرة وديمقراطية» وكذلك كتاب آخر صدر لي مؤخرا عن «دار المعرفة» للنشر بعنوان «النظام البديل للاستبداد».
̄ طيب.. هل أنصفنا تاريخ الثورة من حيث الكتابة؟
أنا أعتقد أن ما نملكه الآن هو الذاكرة، لكن لم نصل بعد إلى كتابة أكاديمية لتاريخ الثورة التي يمكن أن تعتمد على نقد هذه الذاكرة وكل الخطاب التاريخي حول الثورة بواسطة منهج خاص بتاريخ الثورة، لأنه لا يمكن لنا كتابة تاريخ ثورتنا بالمنهج التقليدي بسب الإتلاف الذي كان يطال الوثيقة أثناء الثورة كي لا تقع في يد المستعمر. كما أن الاعتماد على الأرشيف الاستعماري فيه مخاطرة لأنه بإمكان مستعمر الأمس أن يغالطنا بالتلاعب فيه، وقد وضحت المنهج العلمي الجديد الواجب إتباعه في كتاب صدر لي بعنوان «تفكيك الخطاب التاريخي حول الثورة الجزائرية.. من أجل منهج علمي جديد».
̄ كيف تنظر إلى قضية استرجاع الأرشيف الخاص بالثورة ومرحلة الاحتلال الفرنسي؟
أنطلق في الإجابة على هذا السؤال من شعار أو مبدأ لا يفهم معناه الكثير للأسف الشديد، وهو أن «التاريخ معرفة الماضي لفهم الحاضر من أجل بناء المستقبل»، فلا يدرك الكثير أن فرنسا لم تأخذ فقط الأرشيف الخاص بالثورة والفترة الاستعمارية، بل نقلت كل أرشيف الفترة العثمانية، فمعنى ذلك حرمتنا من فهم حاضرنا، لأن الوظيفة الأساسية للتاريخ هو فهم الحاضر كي نبني المستقبل على أساس وأرضية سليمة، وهو ما يحتاج إلى بحث علمي دقيق وموضوعي لفهم المجتمع الجزائري وتفسير كبواته وغيرها. وعدم استرجاع أرشيفنا معناه أصبحنا تابعين ورهن القوة الاستعمارية السابقة في هذه العملية التي تخص المستقبل، لكن ما يؤسف أن أغلب صناع القرار عندنا لا يدركون ذلك، كما أن البعض ممن يعتبرون أنفسهم مؤرخين لا يفهمون هذه العملية، وعاجزون على ربط مهمتهم بحاجة المجتمع والدولة وصانع القرار إلى التاريخ الذي يجب أن يكون في هذه الحالة أكاديميا بحتا كي يؤدي هذا الدور البنائي، أي فهم الحاضر لبناء المستقبل، وليس التمجيد والتزوير للحقائق. وطبعا نفصل ونميز بين التاريخ الذي يستهدف عملية الفهم والبناء والتاريخ التربوي الذي يستهدف بناء الأمة الجزائرية وتمتين وحدتها وتماسكها، وذلك بالاهتمام بكل تاريخها ورموزها مند القدم إلى اليوم، كي تستلهم الأمة وشبابها منهم.
̄ هل تعتقد أن ما كتبه «المؤرخون» و«الباحثون» الفرنسيون عن التاريخ والثورة قدم للجزائريين شيئا جديدا إيجابيا، أم صور الثورة وفق النظرة الفرنسية؟
هناك ثلاث أنواع من الكتابات التاريخية الفرنسية، هناك جيل عايش الثورة وتاريخها، فهؤلاء كانوا تحت تأثير تلك الأحداث، ومنهم بعض الجنرالات الذين كتبوا مذكراتهم، وهذا ليس تاريخا. لكن اليوم تعرف فرنسا الكثير من الأعمال الأكاديمية التي استعانت بالأرشيف، وقدمت أعمالا موضوعية نسبيا، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر «رفاييلا برانش» حول التعذيب، وكذلك «سيلفي تينو» حول القضاء في الجزائر أثناء الثورة، كما يمكن أن نذكر «جيلبير مينيي» بكتابه «التاريخ الداخلي لجبهة التحرير الوطني». وقد اعتمد هؤلاء كلهم على أرشيف مصلحة تاريخ الجيش البري الفرنسي الذي وضع في يد المؤرخين منذ عام 2004. أما هل خدموا نظرة معينة، فنعتقد أن ذلك له علاقة بمدى العلمية والموضوعية التي يلتزم بها المؤرخ، ونعتقد أن هذا الجيل الفرنسي الجديد ملتزم نوعا ما بالأكاديمية، لأن هناك فرق بيننا وبينهم، فهم حريصون على حرياتهم الأكاديمية، وليسوا مستعدين للتنازل عنها، وهو عكس ما هو موجود عندنا أين يكثر المطبلون سواء عند الناس أو المثقفين عامة أو المؤرخين المستعدين لتزوير التاريخ إما خوفا بممارسة الرقابة الذاتية أو طمعا وتزلفا وخدمة لمصالح أشخاص أو مجموعات معينة، وذلك على حساب العلمية والأكاديمية. ولا يعلم الكثير أن الانتهازيين والوصوليين أشد خطرا وفتكا بالأمة من العدو، فهم يشبهون المنافقين الأشد خطرا على الإسلام من الكفار، ويبدو أن هذه التصرفات اللا أخلاقية هي التي تدفع بعض شبابنا لعدم الاهتمام بتاريخنا العظيم واحتقار نخبنا السياسية والثقافية وغيرها.
̄ المذكرات التي كتبها بعض قادة الثورة أو من كانوا ضمن الحركة الوطنية، يعاب عليها، وفق رأي البعض، أنها تمجد بطولات أصحابها، بعيدا عن التأريخ الحقيقي للوقائع والأحداث.. ما رأيك؟
إن المذكرات ليست تاريخا بل هي مجرد شهادة لصاحبها تحتمل الصحة كما تحتمل البهتان، وطبعا تتحكم في المذكرات والشهادات عدة عوامل تجعلها تخفي أشياء وتضخم أشياء أخرى، وفي بعض الأحيان تمس بشهداء عظام لأننا كنا نختلف أو في صراع معهم وغيرها. وقد وضحت في كتابي «تفكيك الخطاب التاريخي» الذي أشرت إليه آنفا إلى كيفية التعامل مع المذكرات والشهادات، وطبقت ذلك عمليا على البعض منها كي نستخرج منها الحقائق ونبعد الأكاذيب.
̄ طيب.. لماذا يتم تدريس التاريخ وفق النظرة الرسمية للدولة؟
هنا تحيلني إلى مسألة أخرى، وهي الدولة المستقرة والنامية هي عندما تكون دولة- الأمة كلها دون أي استثناء أو إقصاء، ففي هذه الحالة يتم تدريس تاريخ الأمة كلها بكل مكوناتها الإيديولوجية والطبقية والثقافية وغيرها، لأن الدولة في هذه الحالة تجسد الأمة كلها. لكن إذا كانت الدولة هي دولة-مجموعة أو حزب أو إيديولوجية معينة فإنه يتم الانتقاء عند تدريس التاريخ حسب مصالح تلك المجموعة أو الحزب أو الإيديولوجية التي استولت على الدولة وحولتها إلى جهاز لخدمة مصالحها الضيقة بدل مصلحة الأمة كلها دون أي استثناء أو إقصاء لأي مكون من مكوناتها. وهذا ما يقع في كل بلدان العالم، فالدول الديمقراطية تدرس تاريخ الأمة كلها أما الدول الشمولية مثل الدول الشيوعية في السابق مثلا فتدرس تاريخا انتقائيا وإقصائيا.
̄ «التاريخ الرسمي» يتجاهل الصراعات التي كانت قائمة بين قادة ثورة التحرير.. لماذا في رأيك؟
كي نفهم ذلك علينا أن نعود إلى طبيعة النظام في الجزائر مباشرة بعد استرجاع الجزائر استقلالها، فهو نظام يرفض كلمة الصراع والاعتراف بأن التناقضات أمر طبيعي في كل الأمم والمجتمعات، ويعتبر أي صراع فتنة ووراءه طرف خارجي وعادة هو المستعمر. كما كان يرفض تناقضات المجتمع الجزائري الثقافية والطبقية والسياسية والإيديولوجية، بل يرى أن كل شيء واحد، وأي فكرة معارضة معناه إثارة فتنة، ولهذا لا يريد أن ينظر إلى أن الصراع والاختلاف أمر طبيعي في الأمم، لأن الاعتراف بذلك معناه البحث عن حلول لتسيير تلك التناقضات والصراعات. وهنا حتما إذا طرحت المسألة بهذا الشكل وأقتنع بأن الصراع طبيعي سيأتي حتما اقتناع الجميع بضرورة الحل الديمقراطي السلمي للصراع الذي هو طبيعي وموجود في كل الأمم والمجتمعات، لكن رفض الاعتراف بطبيعية الصراع واعتبار أي مخالف أو معارض أنه يثير الفتنة معناه رفض الحل الديمقراطي واستبداله بالدكتاتورية والعنف وحل الأقوى.
̄ هل كانت ثورة نوفمبر مثالية؟.. يعني خالية من الأخطاء؟
رغم عظمة الثورة الجزائرية، وهو ما لا يمكن أن ينكره أي إنسان أو باحث ملتزم بالموضوعية، لكن أن تكون خالية من الأخطاء فلا، فقط من لا يعمل هو الذي لا يخطئ. وطبعا الذين قاموا بالثورة بشر مثلنا تتحكم فيهم روح التضحية والفداء وحب الوطن، كما يمكن أن نجد فيهم نزعات مختلفة مثل حب السلطة عند بعضهم والغيرة بل الحسد.. يعني كل النزعات الموجودة لدى كل البشر، وأكثر من هذا وهو المهم، وجود اختلاف الرؤى، بالإضافة إلى وجود تناقضات إيديولوجية وسياسية وطبقية وثقافية أيضا. لكن ما لا يمكن أن ننكره هو أن الثورة قامت بها كل الأطياف الإيديولوجية والثقافية والسياسية والطبقية وغيرها، أي الأمة كلها، ولهذا كان من المفروض أن يجد كل هؤلاء أنفسهم في الدولة التي نشأت بعد استرجاع الاستقلال، والتي يجب أن تكون دولة- الأمة الجزائرية كلها بكل مكوناتها وأطيافها.
̄ كيف تنظر إلى النقاش الدائر حول اعتذار فرنسا عن جرائمها في الجزائر كشرط لتطبيع العلاقات؟.. وهل تعتقد أن فرنسا ستعتذر أصلا؟
ما يؤسف له أنه لا وجود لأي نقاش علمي وعملي لذلك، والسائد هو توظيف المسألة سياسويا لا أكثر ولا أقل، ويدخل ذلك فيما قلناه سابقا توظيف واستخدام «الرأسمال الرمزي»، بل أعتقد أن هذا التهريج قد أثر سلبا، في الوقت الذي يجب أن نعمل نحن المؤرخون على الفضح الأكاديمي لهذه الجرائم. وحديث سياسيينا الممل عن جرائم الاستعمار أدى إلى فعل عكسي لأنه يدفع غير العارفين إلى التساؤل «أليس الاستعمار ذاته هو جريمة كافية ارتكبت في حق الشعوب، فهل هناك استعمار غير مجرم». أما الاعتراف فقد اعترف جنرالاتهم بذلك، بل يفتخرون بما كانوا يفعلونه، فيكفينا قراءة ما كتبه «سانت آرنو» و«بليسيي» و«أوزاريس» وغيرهم الكثير عن جرائمهم. لكن ما نخشاه هو هذا التوظيف السياسوي للقضية مما يجعل الكثير من شبابنا الذي مل من هؤلاء أن ينتهوا من العودة إلى تلك الجرائم، لأنه كلما أكثرنا الحديث عن أمر ما سياسويا يؤدي إلى عكسه. أما فرنسا فلا أعتقد أنها ستعترف أصلا إلا إذا كنا أقوياء وبإمكاننا الضغط عليها اقتصاديا، ونعتقد أن الانتقام لأجدانا يجب أن يكون بالعمل والكدح بصمت كي نبني الجزائر في كل المجالات فتصبح قوية مسموعة الكلمة ومهابة في العالم، فليكف هؤلاء عن التهريج ومن تحويل القضية إلى سجل تجاري، وينكبوا على العمل لإخراج الجزائر من محنتها وبناء دولة- الأمة الجزائرية كلها قوية يعترف بها الكبير والصغير كما كان يحلم بها شهداؤنا الأبرار ألف رحمة عليهم.
̄ يذكر العديد من المؤرخين أنه تم مخالفة مبادئ بيان أول نوفمبر غداة استرجاع الاستقلال.. كيف ذلك؟٫٫
يجب أن نفهم بعض الأمور التي وقعت غداة استرجاع الجزائر استقلالها كي نفهم العديد من الأشياء في جزائر اليوم، ونذكر مثلا أزمة صيف 1962 وهي صراع بين الفرقاء حول أخذ السلطة بكل الوسائل بدل الاستناد على الشرعية الشعبية والعودة إلى الحل الديمقراطي السلمي لكل الصراعات كما نص عليه بيان أول نوفمبر عندما يشير إلى إقامة دولة ديمقراطية واجتماعية ضمن إطار المبادئ الإسلامية في الجزائر.
وبدل ذلك تم اللجوء إلى العنف خاصة من طرف تحالف بن بلة- بومدين، لكن لم يتوقف الأمر عند ذلك، ولم يكتف هذا التحالف على الداخل بل استعان بالخارج لمواجهة خصومه عكس بن خدة رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وزملائه الذين رفضوا أي مساعدة خارجية. ويتمثل هذا الخارج الذي دعم تحالف بن بلة- بومدين في مصر جمال عبد الناصر التي لعبت الدور الحاسم في انتصار تحالف بن بلة- بومدين.
̄ تقول في أحد كتبك إن الدستور الجزائري وضع من طرف مجهولين لم يخترهم الشعب ولا يمثلونه.. وعليه فإن الدساتير اللاحقة غير شرعية.. كيف تشرح لنا الأمر؟
إن أبسط قواعد القانون الدستوري في البلدان التي تحترم نفسها هو أن أي دستور جديد يجب أن ينبثق عن مجلس تأسيسي ممثل بكل أطياف الأمة الإيديولوجية والسياسية والثقافية والطبقية وغيرها، ثم يصاغ بشكل توافقي كي تجد الأمة كلها نفسها في هذا الدستور الذي هو اللبنة الأولى لكل القوانين والتنظيمات التي ستنبثق عنه. ولهذا فإن الأمة الأمريكية مثلا دستورها له أكثر من 250 سنة لأن كل الأمريكيين يجدون أنفسهم فيه، ونحن في الجزائر توجد داخل اتفاقيات «إيفيان» ولا يتكلم عنها الكثير بأن عملية انتقال السلطة ستتم بواسطة مجلس تأسيسي الذي سيأتي عن طريق انتخابات حرة تشارك فيها كل الأطياف. لكن الذين استولوا على السلطة عام 1962 صمموا مجلسا تأسيسيا على مقاسهم، ورغم ذلك رفضوا العودة إليه بل صيغ دستور 1963 في «سينما الماجستيك» وهي «الأطلس» حاليا من طرف أناس معينين وخدمة لمصالح المجموعة التي استولت على السلطة.
وأثار هذا الأمر حفيظة فرحات عباس الذي استقال من رئاسة المجلس وكذلك آيت أحمد وكريم بلقاسم وآخرين فيما بعد، والذين يرفضون اليوم فكرة المجلس التأسيسي بالقول إنه عودة إلى 1962، فالدعوة إلى مجلس تأسيسي الممثل لكل مكونات الأمة ما هو في الحقيقة إلا دعوة لبناء دولة مستقرة آمنة وتصحيح لخطأ فادح ارتكبه تحالف بن بلة- بومدين في بداية استرجاع الجزائر استقلالها، لا زالت تعاني منه الجزائر إلى حد اليوم.
̄ وأين مؤتمر الصومام 1956 من كل هذا؟
مؤتمر الصومام عام 1956 قد وضع في الحقيقة نواة أساسية لدولة- الأمة الجزائرية كلها، عندما نجد إصرار عبان رمضان وبن مهيدي أن تمثل في المجلس كل أطياف ومكونات الأمة وشرائحها وجهاتها وحتى الطلبة كانوا ممثلين بواسطة الشاب الطالب محمد الصديق بن يحي. لكن وقع الانحراف عن هذه الفكرة الأساسية في مؤتمر القاهرة عام 1957 بتأثير مصري، وبقينا على نفس المنوال عام 1962، فلم نؤسس لدولة- الأمة الجزائرية كلها بل لدولة- حزب تسيطر عليه مجموعة صغيرة من الأمة استولت على رمز وهو جبهة التحرير الوطني الذي يعد أيضا رأسمال رمزي نخادع به ونوظفه لأخذ السلطة والحفاظ عليها في الوقت الذي يجب أن يعود إلى الأمة كلها شأنه في ذلك شأن الإسلام والعربية والأمازيغية وتاريخنا الوطني وكل رموز الأمة الجزائرية منذ القدم إلى اليوم نستلهم منهم جميعا. وهم ملك لكل الأمة، لكن لا نوظفهم من أجل الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها، وهو ما يجب تصحيحه اليوم إذا أردنا تصحيح المسار وتجنيب الجزائر أي رياح مدمرة تمس بأمن واستقرار هذه الأمة ودولتها التي ضحى من أجلها ملايين الشهداء رحمة الله عليهم وألف رحمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.