الموضوعية في التفكير لدى المجتمعات العربية من فئة النخبة أو عامة الناس تعتبر من أكبر المشكلات، وإذا كان الخلل في الأولى فلا نتحدث عن الثانية وبالتالي من يقود من؟ أحب أن أتناول الموضوع من وجهة فكرية وفلسفية أكثر لكي نقف على الخلل. كيف نبني أرضية اتفاق عقلانية بعيدا عن الديماغوجيا والتفكير الفارغ من محتواه المعرفي الإنساني ونتعلم أن نخاطب غيرنا بكل عقلانية؟ متى ندرك فوضى الأنساق بيننا؟ أم أن التفكير لدينا تعود على اللا انسجام فأصبح من الصعب عليه الانسجام مع ذاته ومع الغير؟ يأخذني التفكير هنا إلى المقابلة بين العقلانية الفرنسية والعقلانية الأمريكية، حيث هناك اختلاف في التصور لعلاقة الإنسان بعالم الأشياء وحركة الذهن اتجاه تلك الأشياء. ولكن النظرة العميقة تدل على تكامل الخطاب المعرفي في التداول المعرفي والحضاري. لكن هل توجد لدى العقل العربي والإسلامي صورة موضوعية ينظر من خلالها للعالم والأشياء بمنهجية موضوعية يتفق حولها العقل العربي، رغم اختلاف الأنساق الفكرية والمعتقدات؟ يقول الفيلسوف الأمريكي: ”بيدرو آمارال” (to know something is just like being something- ويعني ذلك، حسب قوله أن المعرفة هي المشاركة في الوجود. وتعني المشاركة أسلوبا في الحياة ينسجم مع مبادئ الوجود الحقيقي. يتمثل فعل المعرفة، إذن، في قدرة العقل على أن يصبح كموضوعه، أو أن يكون مطابقا لموضوعه ومتماثلا معه، هذا مع العلم أن موضوع الفلسفة اليونانية هو الوجود بما هو موجود، حسب تعبير أرسطو. ينسجم هذا التصور للمعرفة، إلى حد ما، مع نظرية المعرفة الأرسطية. وتتبلور المعرفة في نظر أرسطو، من خلال تشكّل صورة الشيء في العقل. فإذا كان العقل يدرك صور الأشياء، فإن تلك الصور تساهم بشكل أساسي في تشكّل العقل، وهكذا يصبح العقل كموضوعه. ولذلك كان معيار الحقيقة في الفلسفة الأفلاطونية والأرسطية، على حد سواء، هو معيار التطابق أو التماثل بين الفكرة والموضوع. وما قام به ديكارت هو أنه غير هذا التصور للمعرفة وكيفية تحققها رأسا على عقب: أفرغ العقل والعالم من الصور، وألقى بمبدأ التماثل جانبا وعوضه بعملية التمثل الذهني؛ لم تعد المعرفة تتحقق من خلال تماثل العقل مع موضوعه، بل من خلال التمثل الذهني للموضوع بطريقة لا مكان فيها للتماثل الطبيعي. وإذا كانت غاية المعرفة في النظرية الأفلاطونية-الأرسطية هي تحقيق التماثل بين العقل والموضوع، فإن ديكارت انتقل بالمعرفة إلى مستوى أرقى من مستوى الإحاطة بالموضوع: لم يقف عند حدود تمثل الموضوع، بل جعل من التمثلات الذهنية نفسها موضوعا للتأمل العقلي، وبذلك دفع بعملية المعرفة إلى مستوى الميتا وهو التفكير في التفكير، وقادته تجربته الوجودية إلى اكتشاف بعد جوهري جديد من أبعاد الوجود الإنساني، ألا وهو الوعي ويقوم تصور ديكارت للوجود بصفة عامة على ثنائية الروح والجسد: هناك، من جهة، عالم داخلي ذو طبيعة روحية ومن خصائصه التفكير وعدم الامتداد في المكان، ويشمل الأفكار والمعتقدات والانطباعات الحسية وكل التجارب الذاتية؛ وهناك، من جهة أخرى، عالم خارجي ذو طبيعة مادية، وما يميزه هو الامتداد وانتفاء القدرة على التفكير، ويشمل الأجسام الطبيعية والقوى الفيزيائية. وينطبق مبدأ ثنائية الوجود على الإنسان نفسه، وتتجلى من خلال ازدواجية الروح والبدن. فميز ديكارت، إذن، بين الروح والجسد، ولكنه أقام بينهما علاقة، هي علاقة التفاعل المتبادل . الملاحظ في هذا التناول أن العقل العربي والإسلامي خاصة مازال بعيدا بمسافات عن فكرة وجود مشروع ثقافي نقدمه لغيرنا، ونبعد فيه العشوانية والإنية والإنفعال غير المجدي لحياة العقل الإسلامي العربي الذي يريد التفعيل والوجود والاستمرارية في هذا العالم، لأن ماهو قادم الأولوية فيه لمن يقدم للإنسانية معرفة أفضل تنسجم مع واقع أفضل هذا ما اعتقده، وإذا ظل الحال هكذا فلا مكان لنا بين الأنساق الفكرية التي تفرض نفسها على العالم من حولنا. وقدّمت النموذج الأمريكي والفرنسي بناء على فرض النمط العقلي لكل منهما على الجميع، لكن وفق أرضية يعود إليها، وهي الفلسفة اليونانية دائما. [email protected]