لقد حطمت البراغماتية تدريجيا الروابط التاريخية التي ألحقتها بالإمبريقية والنفعية، وهي الروابط التي ظلت تظهرها تشبه بالخصوص لدى فلاسفة من أمثال هيدغر، أدورنو، هابرماس وفوكو) وكأنها إحياء مة أخرى لما أسماه هابرماس بالعقل التقني·شكّل ريتشارد رورتي ظاهرة متميزة في عالم الفكر الأنغلوساكسوني المعاصر· فقد دافع عن فلسفة من دون الفلسفة وبحث عن الحقيقة في اللاحقيقة وقد أمكنه بأفكاره المثيرة للجدل أن يبعث البراغماتية من جديد على ساحة الفلسفة العالمية ويصبح المحرك الأول للمذهب البراغماتي الجديد· يُعرف الفيلسوف الأمريكي ريتشارد ماك كاي رورتي Richard McKay Rorty بأنه أحد أهم الفلاسفة الأحياء - قبل وفاته في جوان 2008م- في العالم اليوم، وهو المحرك الرئيسي لفلسفة البرغماتية الجديدة كما يعرف بأنه صاحب مشروع بعث حوار فلسفي جدي وجسر بين الفلسفتين التحليلية Analytique (الأمريكية ( والقارية Continentale (الأوروبية (*)(Européenne. وبالنظر إلى أن البرغماتية فلسفة أمريكية المنبت في نهاية القرن التاسع عشر فإنها، وعلى مدى قرن من العطاء والتواجد الفلسفي، قد عرفت تحولات هامة حيث يرى رورتي أنه إذا اتجهنا بأنظارنا صوب نهاية القرن العشرين وليس إلى بداياته سنجد أن البرغماتية عرفت نوعا من البعث أو الميلاد الجديد لكنه لم يكن شبيها بتلك النزعة السيكولوجية panpsychisme التي ترد كل مادة إلى طبيعة نفسية أي إشارة إلى ما طبع البراغماتية في بداية عهدها مع وليام جيمس خاصة· البراغماتية والأمركة: غالبا ما توصف البراغماتية بأنها الفلسفة الأمريكية بامتياز، من حيث أنها نشأت وتطورت في أمريكا من دون غيرها من البلدان بل في تصورنا أنه كان يعتذر ظهورها في غير هذا البلد، ذلك أن الظروف والعوامل التي اجتمعت وتضافرت لتجعل من بروز البراغماتية أمريكية المولد· إذ يكفي أن نتمعن في نشأة المذهب البراغماتي أمريكيا وانتشاره المحدود في بعض المناطق المحدودة في أوربا (إيطاليا، بريطانيا، فرنسا على سبيل المثال) ولم يجد له كثير من المؤيدين والأنصار خلافا لبعض المذاهب الفلسفية الأخرى التي انتقلت من موطنها الأصلي ووجدت أتباعا وعرفت ذيوعا في أماكن غير منشئها كالمثالية والماركسية وهو الأمر الذي يؤكد الصلة الوثيقة بين البراغماتية والأمركة· غير أن هذا الربط بين البراغماتية وأمريكا تتباين فيه المواقف التي تبعث جميعها على ازدراء البراغماتية أو على الأقل النظر إليها بشيء من التشكيك والارتياب واعتبارها أقل قيمة ووزنا من الفلسفات التي عززت مواقعها في خريطة الفكر الفلسفي وغدت نظرياتها محل تداول وتقدير، وحتى الفلاسفة اليوم يقول رورتي الذين يتحدثون بنوع من الإيجابية حول جيمس وديوي في الوقت الذين يشيرون بسلبية إلى كل من دلتاي وبرغسون إنما يتحدثون بشكل كبير عن المنطوقات ولكنهم لا يقولون شيئا كثيرا عن الأفكار والتجربة بوصفها مقابلة لاتجاهات القضايا مثل الاعتقادات والرغبات(1)، وفي هذا إشارة من رورتي إلى نقطتين هما: - مواضيع الاهتمام والصدارة في نوعي البراغماتية الكلاسيكية والجديدة ليست واحدة فقط حصل فيها تحول ولم تعد الأفكار والخبرة هي ما يحوز اهتمام براغماتيي نهاية القرن العشرين وإنما مواضيع أكثر التصاقا باللغة في منطوقاتها وقضاياها· - أمكن للبراغماتية في صيغتها الجديدة من تحرير مكان لها وسط زخم التيارات الفلسفية وفرض رؤيتها التي تحمل وجاهة ومصداقية ينبغي أخذها بالجدية الكافية· فقد رأى برتراند راسل أنها فلسفة سطحية تتبع وجهة تجارية وهي تتلاءم مع بلد يعوزه النضج أما أكثر الجوانب سواءا في البرغماتية- حسب راسل- فقولها بأن/الصدق العقلي هو ما يفيدك أن تعتقده··· فإذا سلمنا بأن الصدق العقلي مسألة تقديرية، وأنه ينتمي لأحداث بشرية خالصة هي الاعتقادات، فإنه لا يترتب على ذلك أن درجة الصدق في اعتقاد ما تعتمد على ظروف إنسانية بحتة/(2)· وفي تصور راسل فإن تصور البراغماتية للصدق العقلي تتولد عنه نتائج سلبية وخطيرة على الفرد والمجتمع على حد سواء وتكون نهايته مفجعة، هذا من ناحية الذين يزدرون البراغماتية وموطنها، ومن ناحية ثانية، نجد أن الذين يمتدحون البراغماتية يحاولون إبعاد صيغتها الأمريكية ويماثلون بين البرغماتية والديمقراطية إلى حد يجعلهم يوازنون بين معارضة البراغماتية مع معارضة كل شكل للحياة الديمقراطية(3)· وإذا كان رورتي لا يقبل مثل هذا التداخل بين البعد الفلسفي والمضمون السياسي في علاقة البراغماتية بالديمقراطية أو من جهة اتخاذ البراغماتية نموذجا أصيلا،شرعيا ورسميا وحيدا للفكر الفلسفي في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهي في رأيه تداخل غير مقبول، فما يتضمنه من ازدراء غير مبرر وما كان من تلازم فهو غير معقول· إضافة إلى هذا فإن رورتي لا يوافق أن تكون بالضرورة القناعات السياسية منسجمة مع الآراء الفلسفية بمثل ما أن الاختلافات الفلسفية لا تمنع من تقاسم نفس الفكرة السياسية، إن ديوي على سبيل المثال قد يتفق مع نيتشه حول مواضيع فلسفية ويتفقان في اختلافهما مع فلسفات أفلاطون وكانط لكنهما قد لا يتفقان حول مواضيع سياسية تتصل بالإخاء الإنساني وبقيمة الديمقراطية· غير أن رورتي على الرغم من اعتراضه على مثل هذا التداخل لكنه في نفس الوقت يرحب بموقف جون ديوي حينما ينصب البراغماتية فلسفة الديمقراطية وأن توحيدهما عبارة عن نفس الذهنية التجريبية الفياضة بالأمل في إمكانية تحسين الأشياء، ويقول رورتي معلقا على موقف ديوي: / أعتقد بأن أقصى ما يمكن أن نفعله بربط البراغماتية بأمريكا، هي القول بأن هذا البلد وفلاسفته الأكثر تميزا يقترحون علينا بأننا قادرين، في السياسة، أن نضع الأمل بدل المعرفة وهو الأمر الذي سعى الفلاسفة إلى بلوغه/(4)· أما ما يسعى رورتي إلى التأكيد عليه فهو بالضبط هذا التفاؤل في المستقبل الذي كرسته بالخصوص براغماتية ديوي وهذا الأمل الذي يلح رورتي غلى حد جعله يوليه مركز الصدارة ويصير أولوية على المعرفة - بالمعنى النظري المجرد وهو في تقديره جهد فلسفي لن يكون له كبير الأثر على حياة الناس بينما الأمل قمين بأن يحول باطن ويدفعه إلى العمل- فذلك يتماثل ويتناغم مع الفكرة البراغماتية القائمة على تثمين العمل ورفعه على النظر· البراغماتية الجديدة: في الغالب أيضا إننا عندما نتحدث عن البراغماتية الكلاسيكية بينما للبراغماتية وجهها الجديد الذي يمثل تيارا أمريكا محضا يدعونا رورتي إلى ضرورة التمييز بين البراغماتيتين بين تيار كلاسيكي مثله بيرس، جيمس وديوي من جهة وبين تيار جديد من أبرز شخصياته كواين ، غودمان، بوتنام وديفيدسون إضافة إلى رورتي نفسه، التمييز الذي يدعونا إليه رورتي معياره هو المنعطف اللغوي الذي اتجه إليه الفلاسفة في الوقت الذي هجروا فيه موضوع أساسيا وبالتالي ساروا على خطى فريغه بدلا من لوك (· البراغماتية الجديدة أو المحدثة أو ال نيو براغماتية أو هي التسمية التي تطلق على تيار فلسفي برز في الظهور مع بداية الستينيات في الولاياتالمتحدةالأمريكية مع أفول نجم الفلسفات التي عرفت رواجا واسعا في الأوساط الفكرية الأمريكية قرابة عشرين سنة وبالخصوص الفلسفات التحليلية بداية من خمسينيات القرن العشرين إلى غاية الستينيات منه وكذلك ما بعد البنيوية التي حملتها معها العقول المهاجرة إلى أمريكا فازدهرت هناك وشكلت حركة واسعة داخل المجال الأكاديمي وخارجه أي في الساحة الثقافة بعامة ولفترة قاربت/عقدين من الزمن ظلت الوضعية المنطقية العنصر الأهم في حركة التحليلية الفلسفية في الولاياتالمتحدةالأمريكية مانحه بذلك امتداد جغرافيا لمؤسسة عرفت النور في فينا بالنمسا حول موريس شليك ، رودولف كارناب وأوتو فون نويراث)· مثلما أن تاريخ الفلسفة شاهد على إحياء نزعات ومذاهب فلسفية عديدة عرفت أنصارها ومؤيديها كيف يعيدون إليها الحياة أو يمنحونها فرصة الظهور ثانية بمحاولات تجديدها، فقد عرفت المذاهب الأفلاطونية والطوماوية والكانطية والهيغيلية والماركسية والواقعية وغيرها أيضا وجدت طريقها إلى البروز ثانية وأصبحت تحمل تسميات الأفلاطونية الجديدة والطوماوية الجدية والكانطية الجديدة والهيغيلية الجديدة والماركسية الجديدة والواقعية الجديدة وما إليها من مذاهب شهدت هذا النوع من التجديد الذي لا يعني فحسب نوعا من إعادة تأهيل وتحيين هذا المذهب بما يتناسب مع المستجدات والمعطيات الجديدة، فيغدو منسجما ومتكيفا مع الأوضاع الحديثة بل يرى فيه أصحابه القدرة والصلاحية التي تجعل منهجه، رؤيته ومضمونه قابلا لأن يفسر بقناعة ويبرهن على صحة دعواه وأنه لا يزال يمتلك القدرة والجاذبية اتجاه تصوراته الفريدة والمتميزة· انطلاقا من هذا المنظور، يعتبر رورتي هو الوجه البارز والمحرك القوي في العودة إلى البراغماتية(5)، وهي عودة يتقاسمها معه نخبة من مثقفي الولاياتالمتحدةالأمريكية الذين برزوا بشكل خاص في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أي الفترة التي امتدت من الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين واستمرت هذه العودة التدريجية إلى البراغماتية في وجهها الجديد في اكتساح الفضاء الثقافي والأكاديمي الأمريكي لتصبح معلما فكريا جليا في الثقافة الأمريكية المعاصرة خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين ولا تزال كذلك إلى اليوم· لكن موقف الفلاسفة المعاصرين- أو على الأقل بعضا منهم- يعتبر أن البراغماتية حركة فكرية متقادمة، ويتحاشون اعتبارها فلسفة أو أنها ليست من الفلسفة الحقيقية وهي في ظنهم- بحسب رورتي- حركة عرفت نهايتها في بداية القرن العشرين، في ظل أجواء محلية ويتوجب من الآن فصاعدا النظر إليها على أنها متهافتة ومنتهية(6)، لكن واقع البحث والدرس الفلسفي يبين أنها أعيدت إلى الحياة من جديد بنفس الجذور ولكن بكساء مغاير في ظرف مائة سنة على أول ظهور لها مع تشارلز ساندرس بيرس بمقاله كيف نجعل أفكارنا واضحة؟ سنة 1878م، ?How to make our ideas clear، فالأفكار التي بحث عن صحتها في هذا المقال ورأى بأن حقيقتها ومعناها لا تعني شيئا آخر سوى آثارها ونتائجها المترتبة عنها، مثل هذه الرؤية الفكرية والمنهجية الناضجة ظلت كالكنز الدفين إلا أن أعيد اكتشافها ثانية ابتداء من ستينيات القرن الماضي· إن البراغماتية هي الفلسفة التي وجد فيها رورتي الصورة الحقيقية للثقافة الأمريكية، وهو يعتبر أن البراغماتية التي كانت فلسفة سيدني هوك- صديق لعائلة رورتي- ومن قبله ثلة من الفلاسفة الأمريكيين أمثال بيرس، جيمس وديوي، هي كذلك في ظنه الفلسفة غير المعلنة وغير الرسمية لمعظم المتفقين الآخرين في نيويورك والذين عدولوا وتراجعوا عن الماركسية وماديتها الجدلية على الرغم مما كانت توصف به البراغماتية في أوقات من انحباسها وتقهقرها على يد بعض أساتذة الفلسفة في جامعة شيكاغو من أمثال هيتشينس Hutchins وأدلر Adler من أوصاف سلبية وتتهم بكونها مبتذلة، عامية، نسبية ونافية لذاتها(7)، وكانوا يقودون حملات عنيفة وانتقادات شديدة ضدها، لكن من المفيد الإشارة، وضمن سياق تاريخ الفلسفة البراغماتية، وعلى الرغم من تراجع رقعة انتشار البراغماتية وتلاشي نفوذها وسط المفكرين الأمريكيين لفترة من الزمن تراوحت بين الثلاثين والأربعين سنة إلا أن ذلك لم يمنع تواجد الأفكار البراغماتية واستمرارها لذلك يشيد كورنل ويست بمساهمات من حافظوا في حقل نشاطهم الفلسفي على بقاء التراث البراغماتي خلال فترة ازدهار الوضعية المنطقية ومن هؤلاء: جون ماك درموتJohn Mc Dermott وجون سميث John Smith، ريتشارد برنشتاين Richard Bernstein ومورتون وايت Morton White. لقد فضل ماك درموت بشكل عام استخدام الأسلوب النقدي الثقافي المرتبط بالطابع البراغماتي لروح العصر الحاضر· أما سميث فقد قدم أحسن تصور مبدئي للبراغماتية الأمريكية بتحقيقه آثارا واسعة في الفحص الذي غالبا ما تجاهله فلاسفة التحليل، وأما برنشتاين فقد كتب أفضل الدراسات المقارنة المشرقة عن البراغماتية والفلسفة القارية ومنها، الماركسية، الوجودية والظواهرية أو الفينومونولوجية، علاوة على ذلك، فقد أثار المظاهر والمعالم البراغماتية لعدد من وجهات النظر الفلسفة التحليلية بطريقة حادة وبصيرة، لقد شدد ببراعة بإقناع على أن البراغماتية بمثابة المحاور والمتكلم الجاد في المحادثة الفلسفية المهنية أو الاحترافية عندما لا يبدو ذلك جليا بالنسبة للكثيرين، أخيرا، فإن مورتون وايت حافظ على تقليد بارز ومميز للتاريخ الثقافي مبني ومركز في الغالب على البراغماتية الأمريكية هل رورتي من أنصار موت الفلسفة ؟ نجد في خطاب رورتي الفلسفي وفي مشروعه بصورة عامة حديث وإشارات إلى عبارات من قبيل الفلسفة ما بعد تحليلية، ما بعد الفلسفة، ما بعد حداثية أما عبارات صريحة إلى نهاية الفلسفة أو موتها بهذه الألفاظ لا نكاد نعثر عليه في قاموس رورتي غير أن المطلع بتأني على فقرات نصوصه يستشف أن رورتي يريد تقديم صورة عن الفيلسوف لكن من دون فلسفة· فالبراغماتي الجديد على شاكلته- وهو فيلسوف- يرغب في وصف العالم بلغة غير فلسفية· وما يستفاد من هذا أن رورتي لا يعني بموت الفلسفة زوالها واندثارها بقدر ما يعني انبثاق فلسفة جديدة تختلف في طرائقها ومفاهيمها وأوصافها عن الفلسفة التي انتقدها· فمن الصحيح /أن صورة الفيلسوف التي اقترحها كانط في طريقها إلى الالتحاق بصورة الكاهن في القرون الوسطى· إذا كان الأمر كذلك، فإن الفلاسفة سيتخلون عن اتخاذ بجدية الفكرة القائلة بأن الفلسفة تؤسس وتُبرر باقي الثقافة، أو أن الأمر يرجع إليها في تنظيم المسائل القانونية فيما يتعلق بالميادين المرتبطة خاصة بفروع أخرى/(4) على الرغم من أن ريتشارد رورتي لا يقر صراحة بموت الفلسفة من حيث انتهائها وانقضاء دورها لكن بعض من نقاده ذهبوا إلى أنه واحد من الذين تحدثوا عن ذلك· ففي حوار معه منشور في عدد خاص بجريدة العالم يجيب رورتي عن سؤال هل يمكن أن نستخلص من ذلك، كما يقول الكثير، بأن الفلسفة انتهت أو ماتت ؟ - لا أعتقد فعلا أن الفلسفة يمكنها أن تموت يوما ما، يمكنها أن تتغير· وقد فعلت ذلك عدة مرات في تاريخها· في زمن ديكارت، على سبيل المثال، هجر الفلاسفة العالم كما رآه أرسطو، ليتبنوا فيما بعد نظرة نيوتن للعالم·/(5) إن الفلسفة التي يتحدث عنها رورتي هنا هي الرؤى الفلسفية التي نقرؤها ونتعرف عليها في تاريخ الفلسفة، هذه الرؤى حسب رورتي ما فتئت تتغير كما تشهد على ذلك التغيرات الحاصلة حتى في داخل النسيج الفلسفي الواحد كما هو الشأن بالنسبة للفلسفة اليونانية وهي تتوزع بين رؤى تفسيرية لمختلف الظواهر أو رؤى ثورية وفي العادة، في عالم الفكر تحصل هذه التغيرات التي نصطلح عليها بالثورية أو الراديكالية· وهذا ما ينبئ عن حدوث أزمات في مثل هذه الحالات يغلب الميل على الاعتقاد بموت الفلسفة· والأمر لم يكن كذلك مطلقا· وإنما فقط أزمات وتوترات· بالفعل، فإن الأزمات التي مرت العلوم كذلك في نهاية القرن التاسع عشر وليس الفلسفة فحسب كانت وراء الدعوات إلى إعادة النظر في مفهومنا للعلم وتعاطينا معه وظهرت عقب ذلك أصوات من داخل العلم نفسه تدعو إلى مراجعة نظريات العلم الحديث انطلاقا من فرضياته مبادئه ونتائجه وطبعا هذه المراجعات كان لها الأثر الكبير على الفلسفي ليس فقط من ناحية علاقة الفلسفة بالعلم التي ستنهض على أسس جديدة بحيث ستتولى الإبستمولوجيا أداء هذا الدور الوسيط بين الفلسفة والعلم وإنما الأثر الذي كان على الفلسفة نفسها من حيث ردود فعلها إزاء المستجدات العلمية في البيولوجيا وفي الفيزياء· فقد أحيت نظريات التطور وفيزياء الذرة طروحات فلسفية قديمة وأخرى حديثة ووضعتها على طاولة النقاش مجددا وهو ما جعل البعض يتحدث في نهاية القرن التاسع عشر عن أزمة في الفلسفة، وهي الأزمة التي أفضت بحسبهم إلى قرب انتهاء عصر الفلسفة أو بتعبير آخر فإن مصير الفلسفة هو المتحف· لم تعد الفلسفة هي رائدة الثقافة كما كانت في العصور الماضية ولن تعد هي الضامنة لثقافة عقلانية كما أدرادت الأنوار الأوربية فقد حل العلم محلها وإذا كانت الفلسفة قد أخذت مكان الدين فإن العلم الحديث بدوره قد أزاح الفلسفة وأصبح هو النموذج الثقافي المهيمن· إن من تحدثوا عن الفلسفة حينها كانوا يستهدفون الميتافيزيقا او أنهم اختزلوا الفلسفة في الميتافيزيقا ومن خلال الانتقادات اللاذعة التي وجهت إلى الفلسفة الأولى على يد الفلاسفة التجريبيين (هيوم خاصة) العقليين (كانط) الوضعيين الكلاسيكيين الجدد (كونت وماخ وشليك وجل الوضعيين المناطقة) وتسرب هذا النشاط النقدي للميتافيزيقا إلى عديد التيارات الفلسفية المعاصرة في بداية القرن العشرين ومنها الفلسفة البراغماتية التي جاءت في ظل وضع ثقافي متوتر بين الديني والسياسي والعلمي تصارعت ضمنه الآراء الفلسفية لتعلن عن ميلاد تفكير جديد وانتهاء آخر أو تبحث ببساطة عن إنتاج خطاب فلسفي كفيل بإحداث توازن بين العلمي والأدبي· في تقييم رورتي قد نختلف مع رورتي في بعض أفكاره ونوافقه على البعض الآخر أو قد نتحفظ على بعض طروحاته خصوصا ما تعلق منها بنتائج البراغماتية في البيئة الأمريكية والتي يعترف هو نفسه أنها قد تظل حبيسة تلك البيئة أي أنها فلسفة ولدت لأمريكا بتجربتها التاريخية الفتية نسبيا والمؤسسة على نظام ليبرالي ديمقراطي واقتصاد رأسمالي حر تطورت في أحضانه مؤسسات تدافع عنه وتسعى إلى تثبيته على الرغم من نقائصه التي تريد من الفلسفة البراغماتية لاسيما في صيغتها الجديدة تبريرها ومحاولة تجاوزها· لكن مع هذا كله لا يمكننا أن ننكر على رورتي دوره الرئيسي في تجديد الفكر البراغماتي وجعل أفكاره محور نقاش وجدل واسع تلتف حوله الأقلام والندوات والكتابات وتترجم أعماله إلى لغات عديدة وصار اسمه قرينا - خاصة في الربع الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين- بأسماء الفلاسفة وحاضرا مع زملاء له في الحكمة العالمية أمثال هابرماس، راولس، دريدا، تايلور وآخرين· ميزة رورتي في كل ما قدم أنه أعاد الاعتبار بشكل ما إلى البراغماتية فأعادها إلى الساحة الفلسفية العالمية وجعلها محط الأنظار من جديد· لقد أمكن ل رورتي من خلال النقاشات التي بعثها حول مواضيع فلسفية كثيرة بروح براغماتية جديدة في الطرح خاصة - من زاوية منهجية - أن يعيد نسج علاقات وطيدة بفلسفات تتقارب في نظراتها مع البراغماتية - حتى وإن رأى البعض في ذلك تعسفا- غير أن رورتي قام بذلك انطلاقا من اعتقاده الجازم بهذه الإمكانية المتاحة في المحادثة الفلسفية· وهكذا نجد عناصر - تبدو متنافرة - ومن نزعات وتيارات فلسفية شتى في داخل الفلسفة الرورتية من براغماتية، كليانية، تأويلية، نزعة إسمية، وجودية، فلسفة التواصل· إن هذا التنوع يجسد في ذاته المحادثة الفلسفية التي حملها مشروع رورتي الفلسفي والذي تأسس انطلاقا من ثلاث تصورات مركزية: - تصور مناهض للماهوية ، من حيث أن الحقيقة لا تستند إلى تعريف للماهيات، للصور أو الأفكار التي يعود إليها الواقع· - تصور مناهض للتأسيسية ، من حيث أن المعرفة لا تتأتى بمنهج خاص يخرج عن إطار التجربة البشرية· - تصور مناهض للتمثيلية ، من حيث أن موضوع العلم لا يكمن في تمثيل في مستوى أعلى ما هو معطى في مستوى أدني ، أي في مستوى الواقع· ضرورة العقلانية والنزوع إلى الكونية سواء نظرنا إلى العالم الحديث، في ثنائيته الأولى الشرق والغرب أو في ثنائيته الأخرى الشمال والجنوب، فإن ما يميّز هذه الثنائيات هو هيمنة وتحكّم العقل الحديث في طرح مفاهيم عقلانية آداتية· لا سيما ما تعلّق منها بالبعدين السياسي والاقتصادي وما ينتج عنهما من نتائج وآثار· ولذا يكون من المفيد التساؤل: هل العقلانية ضرورية ؟ هل هي واحدة ؟ بمعنى هل تصلح نموذجا كونيا ؟ تلك هي الأسئلة الجوهرية التي دارت حولها النقاشات في الفلسفة المعاصرة، وهي في عمومها تندرج وفي أغلب الأحيان ضمن مسار تقييّمي للعقلانية ومدى ما حققته للإنسان فردًا وجماعة· ضمن إشكالية الحداثة يسعى هابرماس إلى إعادة وحدة العقل ضمن تعدّدية أصواته· إن الحداثة وما تتسّم به- حسب هابرماس- من تعقيد تتوزّع بين مصادر شتى، بين عقلانية قد تنصرف صوب العارضية بحكم الطابع الإجرائي وبين مصادر الأنشطة أو القيم العملية أو التعبيرية التي تمثّلها· إن المنظور العقلاني، الذي رأى فيه كانط أداة تتسرب وتشرف على كل ميادين الثقافة، هو نفسه المفهوم الذي يأخذ به هابرماس ويحاول التمسك به إزاء دعاة النسبية والعارضية، مستندا إلى كانط ومقولتي العقلانية والكونية بينما يقابل هذا الطرح الهابرماسي رورتي معبّرًا عن رفضه لكل عقلانية كونية· العقلانية كأساس أو كحاضر أو حتى كزعم نحو النضج أو غائية أو صلاحية يمكن بلوغها مستقبلا· من الحقيقي التأكيد أن نقد العقلانية ليس فعلا رورتيا محضا· إنه بالأحرى موقف فلسفي معروف عند جملة من الفلاسفة من ماركس وفرويد إلى أدورنو وماركيز، ومن نيتشه وهيدغر إلى فوكو ودريدا· غير أن التخوّف من تحوّل هذا النقد من العقلانية إلى اللاعقلانية، هو ما يسمح لخصوم العلم بتعزيز مواقفهم بمثل هذا الاستناد· فإلى آراء بعض هؤلاء الفلاسفة، ترتكز وجهة نظر رورتي غير أن اعتمادها الرئيسي تستلهمه من أستاذه ديوي، غير آبه بما يلحق به من اتهّام بالنسبية· وإذا كان المقصود بهذا الاتهام عدم قدرتنا على إيجاد استعمال لمعنى الصلاحية المستقلة للسيّاق فإنه حينئذ سيكون حسب رورتي مبررا· بيد أن هذا العجز لن يؤدي إلى عدم قدرتنا على الانخراط في سياسة ديمقراطية، عدا إذا فكرنا بأن سياسة كهذه تقتضي منا إنكار المبادئ الديمقراطية والليبرالية لا تحدد إلا لعبة من ألعاب اللغة· وهذا يفيد أن مسألة الكونية تختزل في تصور ديوي في سؤال حول معرفة ما إذا كانت السياسة الديمقراطية يمكنها أن تصادق على التأكيد· وفي الوقت الذي يلح فيه هابرماس على النمط الكانطي، يقترح رورتي استبدال أسئلة كانط الساعية إلى الإفلات من قبضة التاريخ بتأكيدها على الماهية والطبيعة المشتركة والقبْلي من قبيل: ما الإنسان ؟ الواجب الأخلاقي، ضرورة المعرفة، الاستعاضة عن العقل بالعاطفة· حسب رورتي، فإن الحجة المثلى وربما الوحيدة لرفض النزعة التأسيسية· وللتغلب على فكرة الواجب الأخلاقي بمعنى نسيج وحده هي أن يكون الضروري عدم الإجابة عن السؤال:/ ما الشيء الذي يجعلنا مختلفين عن الحيوانات الأخرى بقولنا / لأننا نمتلك القدرة على المعرفة أما الحيوانات فإنها لا تقوى إلا على الإحساس// حينما يلتفت رورتي صوب اللاعقل أي إلى العاطفة والإحساس، فإنه يعتقد بصحة هذا التوجه في توسيع دائرة الإنسانية ومرجعية عبارات من مثل / نوعنا الإنساني/ و/ أناس مثلنا / ليس على أساس من العقل والعقلانية وإنما بالرهان على العاطفة التي أسقطها كل من أفلاطون وكانط من تفكيرهما· إنّ الإقرار بالعقل كسلطة عليا تجعل إمكانية تجاوز الفرد لأنانيته وتقريب رغباته الفردية (الجنس) من اعتقاده بالفكرة الأخلاقية وبثقافة حقوق الإنسان· لذا فإن أهمية غادمير بحسب رورتي تكمن في/ مساعدتنا على التوفيق بين وجهة نظر طبيعانية [يدافع عنها رورتي]... مع حدسنا الوجودي، والتي بحسبها فإن إعادة وصفنا هي أهم شيء يمكن أن نفعله·/ لأنها من دون شك، ستعيننا على تحقيق ما يشعرنا بإنسانيتنا ليس في جانبها العقلاني- وهو الجانب الذي ركزت عليه الفلسفات الحديثة- وإنما من خلال الالتفات إلى جوانب وجدانية جمالية خيالية، تعزّز من ميولنا في التضامن والتسامح والاختلاف والاعتراف بالآخر· إن أية نظرية للعقلانية ينبغي عليها أن تأخذ بعين الاعتبار أمرين اثنين: أولا إعادة بناء أو تشكيل الوحدة المزعومة للدوائر والتي تفترض فكرة الحداثة استقلاليتها· ثم بعد ذلك يجب عليها التأكيد نظريا على ألعاب اللغة التي تبدو في تعدديتها شبيهة أو قرينة بمفاضلة للعقل هذا من جهة· ومن جهة ثانية عليها إقامة الطابع الكوني- الميل الكوني- الذي ينبغي عليها وضعه بوصفه مرتبطا بشكل ما للحياة وفق ما يراه جان بيار كوميتي .Jean-Pierre Cometti وبنفس القدر الذي كانت فيه مسألة العقلانية هامة في فلسفة كانط، فإن الكونية- وهي على صلة قوية بالعقلانية- تحوز نفس القدر من الاعتناء والمركزية· وفي الواقع، فإن المجالات الفلسفية التي طرقها فيلسوف الأنوار لم تكن لتخلو من المضمون الكوني في سياق الفكرة الإنسانية التي طوّرها كانط وحيث أن المفردات الثلاث: الإنسانية، العقلانية والكونية تشكّل ركنا أساسيا في الفلسفة الكانطية· وعندما طوّر كانط فكرة /نسق الإنسانية/ في مؤلفه الأخير الأنثربولوجيا من وجهة نظر براغماتية، أعاد ما طرحه سابقا لا سيما في فكرة التاريخ الكوني من وجهة نظر كوسموبوليتية(مواطنة عالمية) مؤكدًا على معنى واجب الإنسانية الذي تتضمنه الكونية·(17) وهكذا فإن الكونية توحي لنا بثلاثة تعاليم محتواة في فكرة الإنسانية تتعلق على التوالي ب: 1- تربية الأفراد· 2- السياسة الداخلية للدول· 3- الكوسموبوليتزم أو المواطنة العالمية· مثل هذه التعاليم يتقاسمها هابرماس مع كانط، نظرا لما تحتويه من دعاوى أساسية تخص التأكيد على استقلالية الأفراد من الناحية الفردية والسياسية، وهم بحاجة إلى الحق في التربية· ثم من ناحية التأكيد على أن التشريع الذاتي لن يتاح إلا بعملية ديمقراطية من خلال الإجماع والتوافق، وكذلك في التأكيد على أن مفهوم السيادة مقترن بالتشريع الذاتي· يريد هابرماس إضفاء بعدا كونيا على العقلانية، أو إذا شئنا توسيع فكرة العقلانية-التواصلية- إلى أقصى مدى كوني لها وهو ما يمثّل في نظرنا تمسكًا بموقف عزيز على كانط· تماما مثلما أن التأويل المقدّم من قبل فيبر، يحاول تقديم وجهة نظر كونية للحداثة منفصلة عن السياق الثقافي والتاريخي، الذي تكوّنت فيه الحداثة بالنسبة للمجتمعات المعنية بهذه الظاهرة· هكذا، فإن النظرية الهابرماسية للعقلانية لا تعترف بوجهة نظر اللا ثقافية، التي ينتقدها ش· تايلور Ch. Taylor وعموم المفكرين من أمثال: ماك إنتير الذين يرغبون في تجذير العقلانية والتفكير حول العقلانية ضمن مرجعية التقاليد· لكن خلافا لمؤيّدي تعددية مفاهيم العقلانية والحداثة، يدافع هابرماس عن وضعية تُعدّ بالنسبة إليه سورا يتحصن به ضد النسبية، ويمنح دلالة كونية إلى رهانات الحداثة· لذا فإن الاعتراف بعارضية ألعابنا للغة لن يضر بالدلالة الكونية حسبه وهو الذي يدرك جيدا مدى ما تتضمنه من نسبية وتاريخانية· بالمقارنة مع نظرية فيبر في الحداثة، يرى هابرماس أن ما ينشأ عن نظرية التحديث من / تجريد له نتائج سلبية من حيث أنه يفصل الحداثة من جذورها- أوربا العصور الحديثة- ويقدمها على أنها نموذج عام من إجراءات التطور الاجتماعي، غير مبالي بإطارها المكاني- الزماني الذي تنطبق عليه· علاوة على أنه يقطع الصلة الداخلية الموجودة بين الحداثة والاستمرارية التاريخية للعقلانية الغربية بشكل يصبح معه من الصعب فهم صيرورات التحديث باعتبارها عقلانية، أي بوصفها إسقاط تاريخي للبنيات العقلية· / ولا يبدو أن رورتي مقتنع بفكرة هابرماس حول الموضوعية وإنما يعيد هذه الأخيرة إلى تذاوت يفضي إلى اتفاق من قبيل تلك الصيغة التي تحدث عنها فتغنشتاين وتتحوّل الموضوعية إلى تضامن يرفض معه رورتي فكرة الجماعة المثالية ومعها أيضا رفض العقلانية· في حين أن العقلانية من زاوية هابرماس تحمل بعدا معياريا متخطيا حدود كل جماعة باتجاه الجماعة الكونية·