سي الحواس مدرسة لا يمنح المسؤولية إلا لمن يستحقها فرنسا سيّرت وخططت لما بعد الاستقلال وزرعت الموالين لها بن بلة وبومدين يتحمّلان مسؤولية إعدام شعباني يصف طبيب الولاية السادسة التاريخية، الرائد محمد الشريف خير الدين، الذين ”استولوا على مقاليد الحكم بعد الاستقلال بالغزاة”، مؤكدا أن ”الشعب لم يكن يعرف هؤلاء الذين كانوا خارج الحدود، بل كان يعرف جيدا من جاهد من أجل تحرير الجزائر”، متهما فرنسا بالتخطيط لتسيير مرحلة ما بعد الثورة بزرع الموالين لها لفرض استعمار آخر. وحمّل المجاهد مسؤولية إعدام العقيد شعباني للذين كانوا يحكمون البلاد في تلك الفترة، واصفا سي الحواس ب«المدرسة”. وفي هذه الدردشة التي دارت بمنزله بالقنطرة في بسكرة، التي حلّ بها بمناسبة عيد الأضحى، يحاول مسؤول الصحة بهذه الولاية التاريخية العودة بذاكرته، رغم المرض والتقدم في السن إلى العديد من القضايا والملفات. يشرح المسؤول الأول عن الصحة في الولاية السادسة التاريخية، الرائد الشريف خير الدين، بدايات نضاله السياسي وظروف التحاقه بالثورة، حيث يؤكد أنه كان مناضلا في الحركة الوطنية وعمل تحت إمرة مسؤولين كبار، منهم محمد عصامي، والعربي بن مهيدي، رحمهما اللّه، حيث كان ينشط ببيع جريدة الحركة وتعليق المناشير والدعاية في الأسواق. وبحكم أنه كان يشتغل ممرضا في مستشفى ”لافيجري” (الحكيم سعدان حاليا) كان له اتصال بمسؤولي الثورة، وبعد ثلاثة أشهر من انطلاقتها من قِبل عدد من القادة، منهم بن ديحة وفرج اللّه علي ”قمباطا” وصالح مسلم ومصطفى بن شوية، أسندت له مهمة التنقل لمعالجة الجنود المصابين باستغلال معدات وأدوية المستشفى، ثم كلفته لجنة القنطرة بشراء اللباس الذي قام بتخزينه بالوكالة في السوق المركزي لمدينة بسكرة، إلا أن العدو الفرنسي أجرى عملية تفتيش عام، ولأول مرة تطال فيها جماعة بني ميزاب الذين كانوا مكلفين بجلب الأسلحة من غرداية بواسطة عائلة خبزي بن عمارة وأحمد ”الراندو”، فعثروا على مخزونات خليفة سوفي الذي بعث ابن عمه ليعلمه بالحادثة. وفي هذا الصدد يقول المجاهد خير الدين إنه بعد اختفاء آلات التشريح أدرك بحكم أنه المسؤول عليها في المستشفى، وأنه سيتم توقيفه، فكان لزاما عليه التحرك، حيث اتصل بخبزي عمارة الذي كان يملك سيارة فأخذه إلى عبد الجواد بالحاجب، وفي الصباح اتصل بآخر يسمى معمر دبّة ومكث بجواره، ثم أوصله إلى منطقة العروسين بنواحي طولڤة، أين وجد سي الحواس وحسين بولحية والصادق جغروري وتبين أنهم يعرفونه بحكم أن عالج الجنود المصابين. عمليات جراحية في الكازمات وعلاج مخلّفات ”النابالم” صعب انطلاقا من مهامه المحصورة في علاج المصابين جراء المعارك، فإن الرائد الشريف خير الدين يؤكد أنه تعامل مع الواقع وتكيّف مع ظروف الحرب، حيث يؤكد أن عملية اقتناء مستلزمات العلاج كلفت البعض حياتهم. وهنا يتذكر صيدليا يهوديا يدعى ”آزون”، كان محله قرب مقهى ”النجمة” ببسكرة، يورّد له طلباته التي يرسلها له بمقابل مادي. وفرض عليه الحصار التصرف فصنع مادة علاج الكسور (الجبيرة) ”البلاتر” من تراب الدبداب الذي كان يطحنه ويغربله في قطعة الشاش. ورغم الوضع الصعب، إلا أن محدثنا الذي كان المسؤول الأول عن الصحة بهذه الولاية قام بعمليات جراحية مختلفة، كالزائدة الدودية والأمعاء، في مستشفيات هي عبارة عن ”كازمات” في مغارات الجبال أو بيت من الشَعر في الظلام وبأبسط المعدات ودون حتى جهاز الأشعة ”الراديو”، ولم تسجل هذه الولاية تحويل مريض إلى خارج الحدود. ولعل ما كان يرهق ويتعب الشريف خير الدين هو العمليات الناجمة عن قنابل ”النابالم”. وبخصوص النظام الذي كان يعتمده للتحكم في تسيير قطاعه، يقول محدثنا إنه أنشأ في كل منطقة مستشفى ”كازمة”، فالمنطقة الرابعة بالأوراس كُلّف بها الطيب ملكمي، والثالثة بمسيف أحمد قبايلي، والرابعة العربي قحماص، والمنطقة الثانية بالجلفة يسيرها الماحي. أضف إلى ذلك أنه اعتمد نظام تبادل الأدوية تفاديا لتلفها ومراقبة وتفتيش المخزون ومواضع استعماله لمحاربة التبذير. وتطبيق القانون الداخلي للمستشفيات، سهر على إعداده بنفسه ووقّعه سي الحواس وشعباني، واتخذت إجراءات احتياطية خوفا من العدو، حيث لا يمكن البقاء أسبوعين في موقع واحد وخروج المريض الذي تمت معالجته يقابله تغيير مكان المستشفى. لجأنا إلى تكوين ممرضين رجال خوفا من انتداب المرأة يؤكد الطبيب الشريف خير الدين أنه كان ضد تجنيد المرأة كممرضة في هذه الولاية، ليكشف أن سي الحواس كانت له زيارة إلى منطقة القبائل فلاحظ وجود نساء ممرضات، وطلب منه تكوينهن في الولاية السادسة. ولما نُقل لي هذا الطلب، يقول محدثنا، لم أجد الرد المناسب خاصة وأن الرفض يعني الخيانة، وفي حالة مجيء النساء ستصبح هناك فتنة، خاصة وأن الجنود ممنوع عليهم زيارة عائلاتهم، وفي النهاية المسؤول هو من يحاكم. وحسب الرائد خير الدين، فإن الرفض لا يعني إنقاصا من دور المرأة، وحاول إقناعه بأنه ليس ضد الفكرة، واقترح عليه تكوين مجاهدين شباب شبه طبيين. ولم يجد سي الحواس سوى الضرب على أكتافه معربا له عن مساندة طرحه. وجسد هذا المشروع بالتوجه إلى الكتائب لاختيار مجاهدين بالاتفاق مع محمد زيوشي وأحمد قبايلي، وتم تكوين فروع شبه الطبي، حيث كان الممرض يخضع للعمل التطبيقي في النهار، وفي الليل يتلقى الدروس النظرية. وحسب محدثنا، فإن هذا المعطى جلب له الاتهام، إلا أنه يؤكد بأنه ليس ضد تجنيد المرأة التي خدمت الثورة دون أن تحمل السلاح في الولاية السادسة فقد كلفت بخياطة اللباس وإعداد الأكل ”الكسرة”، حيث تقوم بإعداد 200 وحدة لدرجة أنها أصيبت بالإعاقة. لجنة من وزارة الدفاع نقلت جثتي سي الحواس وعميروش لم يفوّت المجاهد خير الدين الفرصة للحديث في قضية استشهاد البطلين سي الحواس وعميروش، حيث يؤكد بأنه قبل ثلاثة أيام من وقوع معركة جبل ثامر حلّ عميروش بالمنطقة والتقى سي الحواس. وصادف ذلك تنظيم حفل منح الأوسمة حضره شعباني بجبل المهشم بنواحي طولڤة. وكان محدثنا من المكرمين بوسام شرف نظير العمليات الجراحية التي أجراها. بعد ذلك كلّف سي الحواس شعباني باستقبال نحو 200 جندي من القبائل لتدعيم الولاية السادسة لإنجاز مهمة تفجير الأنابيب. وافترق الجميع، وبعد أن توجه إلى مسيف ببوسعادة وصلهم خبر استشهاد العقيدين. وشاع في تلك الأثناء أن بعض الخونة الذين كانوا بصدد محاكمتهم تسللوا أثناء المعركة إلى القوات الفرنسية، وأبلغوا بوجود سي الحواس وعميروش فحشدت فرنسا قواتها وقضت عليهما. وبعد الاستقلال مباشرة حلّت لجنة من وزارة الدفاع الوطني، تتكون من ثلاثة أشخاص يتقدمهم مصطفى عياطة من بوسعادة، ومدعمة بأمر بمهمة واتصلت بالعقيد شعباني من أجل نقل جثتي الشهيدين، حيث استعانت بأحد الحركى ومخطط يفيد أنهما دفنا في موقع سرية العلم بوادي الشعير التابعة لمنطقة بن سرور وعثر عليهما، لكن العقيد أحمد بن شريف خزنهم في سجن بربروس في سيلون. سي الحواس يمنح المسؤولية لأهلها وشعباني بكى خوفا منها يعترف الرائد الشريف خير الدين بفضل الشهيد سي الحواس في تكوينه على غرار كل من عمل معه، إذ يؤكد أن هذا البطل مدرسة تكوين أشبه بالسربون. وفي هذا الصدد يقرّ محدثنا بأنه سئم التواجد معه نظرا لحجم العمل المكثف، وكان يتمنى أن تقع المعارك حتى يتسنى له أخذ قسطا من الراحة. وبشأن منح المسؤولية، يضيف الطبيب، كما كان يحلو لسي الحواس تسميته عند تقديمه للعروش أنه لن يسلمهما إلا لمن يستحقها. ولم يخن أي أحد عمل معه. وعن التكليف بالمسؤولية، يقول الرائد خير الدين، إن الجميع كان يخاف منها، وهنا يستحضر ما وقع لشعباني الذي زاره فجأة ووجده جالسا في بيت من الشَعر بمنطقة حمالات وحيدا يذرف الدموع فاستغرب للأمر وسأله، وبصعوبة أفصح عن السر بأن سي الحواس قلّده رتبة ملازم أول، مسؤولية يخشى أن لا يوفّق فيها وليس له الحق في رفضها، إلا أنه شجعه وأكد له بأنه قادر عليها بالنظر إلى كفاءته وحنكته، وأن الجميع سيسانده كالإخوان في الجهاد وأعراش المنطقة. تصفية شعباني كانت مبرمجة وقبره حُفر قبل النطق بالحكم يكشف الرائد خير الدين ظروف اعتقاله في قضية شعباني، رغم أنه كان نائبا في البرلمان. ففي اجتماع رسمي للحزب بولاية التيطري (المدية) طلب منه عناصر الأمن المكلّفون من الرئاسة مرافقته، فما كان عليه سوى مقاطعة الجلسة دون معرفة السبب. وعندما حلّ بالبليدة وُضعت الأصفاد في يديه، ساعاتها، يقول محدثنا ”أدركت أن الأمر خطير”، واقتيد إلى السيدة الإفريقية وزُجّ به في السجن، وهناك علم بتوقيف محمد شنوفي وعيسى مسعودي وأحمد طالب الإبراهيمي ووزير العدل أحمد بن التومي، ومحمد خبزي وزير التجارة آنذاك، وعبد الرحمان فارس إضافة إلى حسين ساسي والطاهر لعجال والسعيد عبادو ومحمد جغابة، ووصفوا ب«الخارجين عن القانون” وحُوّلوا إلى وهران. وهناك وجدوا شعباني الذي تحمّل المسؤولية وبرّأ الجميع. وعمن يتحمّل مسؤولية إعدامه، قال دون تردد: ”من كان يحكم في تلك الفترة”، في إشارة لبن بلة وبومدين، رغم أن الأول تنصّل، ”هل كان يعمل شانبيط؟”، ويضيف قائلا: ”هم استعجلوا الأمر بدليل أن قبره حفر قبل نطق الحكم. وشعباني كان آخر بطل تمّت تصفيته، ولو بقي هذا الأخير حيا لكانت الكلمة في الحكم للشعب لأنه يؤمن به”. الحكم استولى عليه ”الغزاة” يؤكد الطبيب خير الدين أن الثورة لم تسلم من المكائد، حيث كان الخونة يسيرونها وجماعة الداخل كانوا في غيبوبة لا يعلمون شيئا. وبلغة أدق يقول إن فرنسا هي من كانت تسيّر بطريقة غير مباشرة وتخطط لما بعد الحرب، حيث غرست بعض المثقفين وأرسلتهم إلى تونس والمغرب تحسبا لما بعد الاستقلال للانقضاض على الحكم. وبرأيه فإن الشعب لا يعرف هؤلاء بل يعرف جيدا من تقاسم معه ويلات الحرب، ووصف من استولى على الحكم بالغزاة الذين كانوا خارج الحدود. ولتنفيذ هذا المخطط كانت البداية بالقضاء على جماعة الداخل حتى تسهل لهم المهمة ونشر الحساسية بين الولايات، فنشبت معارك فيما بينهم وبث الحقد في الصفوف والنتيجة أن هناك من فرّ وآخرون تمت تصفيتهم، ليختم بأن هؤلاء ”وجدوها ”طايبة”.. لم يكافحوا من أجلها ولم يقدّموا أي تضحيات. أين هي مقبرة شهدائهم في تونس والمغرب وهم كثر لا يتأخرون في الظهور على شاشة التلفزيون، والمستقبل سيكشف الحقيقة.. إنه الاحتلال بصورة أخرى”.