بدأت عملية الفرز السياسي، المتصلة بالانتخابات الرئاسية، تتضح، بإعلان كل من الأرسيدي وحمس مقاطعتهما الاستحقاق، في انتظار استجلاء مواقف باقي أحزاب المعارضة، لكن، السؤال المطروح: ماذا بعد المقاطعة؟ وهل نتجه إلى مشهد تنافسي يجد فيه النظام يصارع نفسه؟ رغم أن التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، وحركة مجتمع السلم اللذين لم ينتظرا إعلان الرئيس بوتفليقة ترشحه لموعد 17 أفريل، من عدمه، ليعلنا مقاطعتهما الاستحقاق، ليسا وحدهما الفاعلين اللذين يتحكمان في المشهد الانتخابي، إلا أن اتفاق حزبين بإديولوجيتين مختلفتين تماما، على موقف واحد ضد النظام، من شأنه، أن يفك جزءا من “نسيج العنكبوت المتشابك” المتصلة بالرئاسيات، ليبقى الجزء الآخر، بيد الرئيس، وهو جزء معلق على “حقيقة” أو “وهم” العهدة الرابعة. جلس قادة الحزبين المقاطعين، يوم 19 جانفي إلى طاولة واحدة، منذ عقود لم يلتق فيها الإسلاميون والعلمانيون، لتنسيق المواقف بخصوص “عمل ميداني”، ثم أعلنا تباعا، موقفهما المقاطع للرئاسيات، لكنهما لم يقررا بعد إن كان سيتفقان على “العمل الميداني”، وهو مصطلح في هكذا مشهد انتخابي، مرادف “للمقاطعة الميدانية للانتخابات”.. بينما الاختلاف بين التشكيلتين، يكمن في “خبرة المقاطعة”، فالأرسيدي جربها في رئاسيات 2009 حينما رفض سعيد سعدي أن يجانب بوتفليقة في سباق المرادية، فيما اختارت “حمس” الوقوف إلى جانب الرئيس، في مشهد “صدامي” ارتسم بين حمس والأرسيدي، اللذين وبعد خمس سنوات، اتفقا على فتح “عدّاد المقاطعة” وأملهما في اكتمال السلسلة الى آخر حزب معارض في الجزائر، بينما الأعين مصوبة على قرار فصل من عبد الله جاب الله، رئيس “جبهة العدالة والتنمية” الذي لوح بالمقاطعة، ولم يفصل فيها بعد. وبعيدا عن سؤال تقليدي، ظل لصيقا بالعمليات الاستشارية للشعب على مر الاستحقاقات الماضية، ويظهر أن الوضع الراهن قد تجاوزه بكثير: هل المقاطعة هي الحل؟ يطرح بدله سؤال راهني: ماذا بعد المقاطعة؟ فالأرسيدي قاطع الاستحقاق الماضي، لكن ذلك لم يمنع من بقاء بوتفليقة رئيسا. فهل يبتغي المقاطعون أن يظهر السباق الانتخابي، في صورة نظام ينافس نفسه من أجل سحب المصداقية على الاستحقاق، من خلال انتخابات يقدم فيها النظام أكثر من مرشح باسمه؟ أم أن المقاطعين متخوفون من هزيمة، في حال ترشحهم ضمن كوكبة تضم بوتفليقة، اقتداء بمواعيد سابقة أسفرت نتائجها عن هوة سحيقة بين الرئيس ومنافسيه؟ وإذا تم التسليم بالفرضية الثانية، فإن معنى ذلك، أن كلا من عبد الرزاق مقري (حمس) ومحسن بلعباس (الأرسيدي) ومن سيواليهما في المقاطعة، لاحقا، على يقين أن بوتفليقة سوف يقدم نفسه مرشحا لعهدة أخرى، فهل يصدقهما القادم من الأيام؟ أما وإن لم يصدقهما، فهل يجوز عليهما الحكم أنهما قد تسرعا في قرارهما؟ مثلما لم يفعل “الأفافاس” الذي اختار “التفاوض” مع السلطة، بعدما جرب، هو الآخر، المقاطعة مرارا واستيقظ على حقيقة بأن “قافلة النظام تسير مهما علا شأن المعارضة”. المؤكد أن “صمت بوتفليقة إزاء الانتخابات الرئاسية” والضبابية المحيطة به، هو المتغير الأساسي، في قرار المقاطعة، أكثر من متغيرات الوضع السياسي الموبوء بالمجهول، خاصة منذ إعلان الرئيس عن الإصلاحات السياسية عام 2011، ما يفسر التأخر في اتخاذ القرارات بالمشاركة أم المقاطعة لدى من كان ينتظر موقف الرئيس من أجل أن يحدد هو موقفه، ومعنى هذا أن بوتفليقة استطاع تحييد معارضيه، عمدا أم عن غير قصد، حتى قبل إعلان ترشحه، مع أن السلطة يخدمها ترشح معارضيها طالما هي من يحدد سقف حظوظهم في السباق الرئاسي. المشهد الرئاسي الحالي لم تعرف الجزائر له مثيلا منذ الاستقلال، إذ أنه يرتسم وفقا لنقطة مركزية، الجميع يدور حولها، وهو التساؤل إزاء موقف الرئيس، ومن يتابع الجدال الدائر، من بعيد، بخصوص هذه النقطة، يتساءل إن كان الرئيس مخطئا لأنه لم يتكلم بشأنها؟ وهل قام بفعل مناف للدستور طالما أنه لم يتكلم؟ وهل المعارضة محقة أم مخطئة في انتقادها لصمت الرئيس حول إن كان سيترشح؟ والواقع أن الدستور لا يجبر الرئيس بالبوح بموقفه بخصوص الرئاسيات، طالما أن آجال سحب استمارات الترشح محددة قانونا، تماما كما لا يعارض الدستور ترشح الرئيس بعد إلغاء تقييد العهدات سنة 2008، وإن كان من مأخذ للمعارضة، فالمأخذ توجه للأغلبية البرلمانية الأفلانية التي مكنت من فتح العهدات. أما الرئيس فيخضع وضعه لحكم المنطق.. لا القانون، لأنه منطقيا، لا يسمح الوضع الصحي للرئيس بحكم البلاد لفترة أخرى، مثلما ترى المعارضة.. وعلى هذا النحو، وضع القانون في مواجهة المنطق إلى أن يظهر هلال “الرابعة” أو يتوارى.