يقول الله تعالى: {إنّ الديِّنَ عندَ اللهِ الإسْلَام}، ومعنى الإسلام في الآية الكريمة هو الاستسلام والخضوع والانقياد، أي إسلام النّفس والأمر كلّه لله تعالى. المسلم الّذي آمن بالله تعالى لا يسعه إلاّ أن يُسَلّم أمرَه إليه لأنّه هو العالم بالأمور كلّها المطلع على الخفايا وهو أعلم بنا منّا وبما يصلح لنا، لأنّ الإنسان نظره قصير، فقد يرى أشياء يظنّها خيرًا له وهي شرّ، وقد يرى أشياء يظنّها شرًّا له وهي خير، وهذا ما نبّه عليه القرآن في قوله سبحانه: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، لذلك كان جديرًا سبحانه بأن يسلّم له المسلم أمره كلّه ليختار له. جاء في الآية الكريمة: {واللهُ يَخلُق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة}، فالله هو الخالق وهو الّذي يختار لك ما الّذي ينفعك، وقد ورد هذا المعنى واضحًا في آية أخرى، يقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}، وقد بشّر الله تعالى المستسلمين لله بالفوز العظيم فقال تعالى: {وَمَن يُسْلِم وَجْهَهُ إلَى اللهِ وهُو مُحْسِنٌ فَقَد اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى وَإلَى اللهِ عَاقِبَةُ الأمُور}. وقد أعطانا الله نماذج من المستسلمين لله الّذين يأخذون أمر الله بالرِّضى دون مناقشة ولا اعتراض، ضرب لنا مثلًا بإبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام اللّذيْن امتحنَا امتحانًا شديدًا ولكنّهما سلّمَا أمرهما إلى الله لأنّه أعلم بهما فقال تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي أسلمَا أمرهما إلى الله ورضيَا بقضائه عليهما، فكانت نتيجة ذلك التّسليم والانقياد هو أن نَجّى الله إسماعيل من الذّبح وفاز الاثنان برِضَى الله عليهما، وهذا نموذج آخر للتّسليم بأمر الله تعالى. وورد في قصّة جليبيب رضي الله عنه وكان صحابيًا مغمورًا، وكان دميم الوجه، قصير القامة، وقد زوّجه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ابنة رجل من الأنصار، فكأنّ الأنصاري أبا الجارية وأمّها كرهَا ذلك، فسمعت الجارية بما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتلت قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وقالت رضيتُ وسلّمتُ لمَا يُرضي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتزوّجته، وهي تدل على مدى الرّضى والاستسلام لأمر الله ورسوله، لأنّ النّبيّ هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم أيضًا. كما علّمنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نفوّض الله في كلّ شأن من شؤوننا فعلّمنا الاستخارة في الأمور كلّها، والاستخارة هي أن تُفَوِّضَ اللهَ تعالى أن يختار لك، فلا تقضي أمرًا حتّى تستخيره سبحانه فيه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، كما يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ منَ القرآن، يقول: “إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثمّ ليَقُلْ: اللَّهمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ ارْضِنِي” قال: ويُسَمِّي حَاجَتَهُ. وهكذا يعيش المسلم في سعادة دائمة، لأنه يعلم أنّ ما أصابه من خير أو شرّ مكتوب عليه فيرضى ويشكر في السّرّاء ويرضى ويصبر في الضّرّاء، كما قال عليه الصّلاة والسّلام: “عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ”. أستاذ جامعي بالإمارات