رمى دور الجيش في الساحة الوطنية ومهامه في سياق التحديات الإقليمية بظلاله في مناقشات السياسيين والمرشحين وقيادات الأحزاب قبل الرئاسيات الماضية وبعدها، بين داعٍ لضرورة إشراكه في عملية ”التغيير ”، ومطالب بتحييده في عملية ”الانتقال الديمقراطي”، وبين مناشدين ضرورة جعله بمنأى عن الجدال السياسي، غير أن هذا النقاش الملتهب لم يظهر له وجود في جلسات المشاورات حول التعديلات الدستورية، وهي أهم وثيقة لضبط العلاقة بين مؤسسات الدولة الحساسة والحاكمة، بحيث لوحظ تغييب ملف ”الجيش” في مقترحات تعديل الدستور التي تداول عليها أكثر من 54 حزبا ومثلها من المنظمات والجمعيات والشخصيات الوطنية، وهو نفور وإن كان يتناقض مع أهمية الملف، فإنه يعكس رغبة السلطة في سحبه من التداول السياسي.
رغم إثارته بحدة قبل الرئاسيات وبعدها من قبل السياسيين الجيش .. ”طابو” في مشاورات تعديل الدستور لم ينتقل الجدال السياسي حول دور ومكانة الجيش في الانتقال الديمقراطي المطروح من قبل شخصيات وطنية وقيادات حزبية إلى جلسات المشاورات حول التعديلات الدستورية، وبقي ملف العسكر حبيس نقاش مغلق جارٍ في الساحة الوطنية. فهل أريد تغييب هذا الملف عن ”الدسترة”؟ أم أن السلطة لها إطارها الخاص لبحثه بعيدا عن أعين السياسيين؟ بقيت المسافة بعيدة بين ما أثير بشأن موقف المؤسسة العسكرية ودورها في الحراك السياسي القائم بين السلطة والمعارضة، وبين المقترحات التي تداولت على عرضها الأحزاب السياسية المشاركة في المشاورات حول التعديلات الدستورية، بحيث لوحظ عدم انتقال تلك المناقشات من الشارع لاحتوائها ضمن المشروع الدستوري الجاري التحضير له من قبل السلطة. لقد كشفت ندوة ”الانتقال الديمقراطي” وما تبعها من مداخلات لرئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش وحتى من قبل أحزاب الموالاة على غرار عمار سعداني، بخصوص دور الجيش ومهامه في ظل الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد، غير أن هذه المواقف والآراء لم تنعكس في مقترحات الأحزاب والشخصيات والمنظمات حول التعديلات الدستورية التي ستحكم البلاد مستقبلا. رغم الإجماع على أهمية الجيش ودوره في الحياة السياسية وسط الطبقة الحزبية والسياسية، بحيث دون ”دعم الجيش ستسقط الحكومة في أسبوع” كما يرى مولود حمروش، ومع دعوة الأمين العام للأفالان وهو حزب السلطة الأول لضرورة بناء ”دولة مدنية”، إلا أن هذا الملف ظل بعيدا عن المشاورات التي عقدها مدير الديوان بالرئاسة أحمد أويحيى طيلة 114 لقاء مع أحزاب ومنظمات وشخصيات وجمعيات وكوادر جامعية استمرت 40 يوما، بحيث ظل الملف بخصوص أهم مؤسستين في الدولة: الجيش وذراعه الأمني ورئاسة الجمهورية، في خانة الطابوهات والقضايا الممنوعة من التداول، حتى إن مقترحات قسنطيني المعلنة في المشاورات مع أويحيى لم تتضمن اقتراحه المقدم في ديسمبر 2012 بتعديل الدستور الجزائري وفق النموذج التركي، من خلال تمكين مؤسسة الجيش من صلاحية التدخل لحماية الديمقراطية، عن طريق تعديل المادة 70 من الدستور الجزائري، من أجل إدراج الجيش الوطني الشعبي كحامٍ للدستور. ومع أن الظروف الأمنية المحيطة بالجزائر جراء التغييرات التي عرفتها دول الجوار والتي فرضت عقيدة دفاعية جديدة، إلا أن هذه المعطيات لم تستنفر الطبقة السياسية وتدفعها للاهتمام بالدور المنوط مستقبلا بالمؤسسة العسكرية والمهام والصلاحيات المخولة للمجلس الأعلى للأمن، بحيث اقتصرت بعض المقترحات، على استحياء، على شاكلة المطالبة بتعيين وزير دفاع مدني، كما اقترحت لويزة حنون ورئيس حزب التجمع الوطني الجمهوري عبد القادر مرباح أن يكون وزير الدفاع مسؤولا أمام الحكومة، مثلما جاء على لسان المرشح للرئاسيات فوزي رباعين، بينما بقيت القضايا الأخرى المحيطة بالملف كالصلاحيات وخضوع العسكري للسياسي وتدخل الجيش في عمليات بالخارج غائبة أو مغيبة. هذا التهميش لملف الجيش في مشاورات الدستور قد يكون مرده إلى أن أغلبية المدعوين والمشاركين هم من المنتسبين للسلطة، بعدما قاطعت أحزاب المعارضة هذه المشاورات، وبالتالي يهمهم بقاء الأوضاع على ما هي عليه، أو أن هناك احتمالا ثانيا بأن السلطة تريد أن تنفرد بمعالجة هذا الملف مع الجيش دون تدخل أي جهة أخرى وهو الأقرب للحدوث. الجزائر: ح. سليمان
صالح يدعو إلى عدم إقحامه في السياسة وسعداني يطالب بالدولة المدنية المؤسسة العسكرية في قلب النقاش دائما ناقش أحمد أويحيى مع ضيوفه في إطار ”الاستشارة الدستورية”، طيلة شهر، قضايا كثيرة بعضها يستأثر بالاهتمام منها شكل النظام السياسي الأمثل للبلاد وضمان استقلالية القضاء وتوسيع صلاحيات البرلمان في مراقبة أعمال الحكومة وتعزيز مكانة المعارضة. أما علاقة الجيش بالحكم التي فجرت جدلا حادا منذ الهجوم ”التاريخي” لعمار سعداني على الجنرال توفيق، فلم يوجد لها أثر في ”الدردشة الدستورية”. باستثناء تبجيل الجيش والدعوة إلى تحصينه من ”التحرشات” والمطالبة بدسترة عقوبات ضد كل من يسيء للمؤسسة العسكرية، لم يجد المدعوون إلى الاستشارة أهمية في طرق الجدل الذي تعرفه الجزائر منذ ما قبل الاستقلال والذي عاد مؤخرا وهو: أيهما يطغى على الآخر، المدني أم العسكري؟ هذا الجدل أثير بقوة في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي فتح ”جبهة” مع العسكر في بداية حكمه لما أعلن أنه لن يكون ثلاثة أرباع رئيس. وظلت العلاقة بين المؤسستين الوحيدتين القائمتين في البلاد تتراوح بين مد وجزر، وكانت انتخابات 2004 محطة فارقة في هذه العلاقة، تميزت بإزاحة قائد أركان الجيش محمد العماري بسبب وقوفه ضد العهدة الثانية. وإذا كان الكثيرون يرون بأن سنوات حكم بوتفليقة كرَست غلبة مؤسسة الرئاسة على مؤسسة الجيش بحجة أن بوتفليقة استرجع لنفسه من العسكر سلطات وصلاحيات كبيرة، فإن رئيس الحكومة سابقا مولود حمروش يرى أن الجيش لا يزال يصنع الرئيس ويشاركه في اتخاذ القرارات، وعلى هذا الأساس وضع بوتفليقة مع توفيق وقايد صالح في كفة واحدة، عندما وصفهم بمفاتيح الخروج من الأزمة وحل أزمة شرعية النظام. ويعد حمروش الوحيد من المشتغلين بالسياسة من خاض في قلب الصراع بين الرئاسة والجيش في عز النقاش الذي أفرزه هجوم سعداني غير المسبوق على قائد الجهاز المخابرات ودعوته إلى دولة مدنية. وطالب حمروش من مؤسسة العسكر أداء دور في مرحلة انتقالية يقترحها للخروج من الأزمة إلى شرعية النظام. وما قاله حمروش ليس من فراغ، فهو ابن النظام بامتياز ويعلم كيف تدار لعبة الحكم بداخله. وهو ما لم يعجب أحمد أويحيى الذي قال إن دور الجيش محدد في الدستور، وهو حماية حدود البلاد من الخطر الخارجي. وتزامنت ”تطمينات” أويحيى بشأن ابتعاد العسكر عن إدارة شؤون السياسة مع إصرار بوتفليقة الشديد على تجريد آخر ما تبقى من أدوات وصلاحيات كانت للمخابرات. فبعد ”هيكلة” سبتمبر الماضي التي أحدثها في الجهاز الأمني بحل هياكل وإقالة مسؤولين وإحالة بعضهم على التقاعد، استحدث الرئيس شرطة جديدة للمخابرات وحدد لها خطا أحمر لا تقترب منه، وهو التحقيق في ملفات الفساد، محدثا بذلك خرقا فاضحا في قانون الإجراءات الجزائية الذي يمنح لضباط الشرطة القضائية التابعين للمصالح العسكرية للجيش صلاحية التحقيق في كل القضايا دون استثناء. وبذلك يحاول الرئيس تجنيب محيطه المباشر وربما عائلته وهو شخصيا التعرض للمتابعة في المستقبل. ويرى مراقبون أن هذا التصرف من جانب الرئيس بدد شكوك الكثيرين ممن كانوا لا يؤمنون بوجود صراع حقيقي بين الرئيس والمخابرات. الجزائر: حميد يس حوار
الضابط السابق في جهاز المخابرات محمد خلفاوي ل ”الخبر” ”لا تغيير دون إشراك الجيش”
الرئيس بوتفليقة لم يشاور الجيش في مسألة تعديل الدستور، هل بنظركم هذا يدل على أن الرئيس أبعد الجيش نهائيا من السياسة؟ تاريخيا، السلطة بالجزائر تتكون من ”الجيش الشعبي الوطني” ومصالح الأمن والاستعلامات، ثم من حزب الأفالان ويمثله سياسيا الرئيس بوتفليقة، ولا أعتقد أنه يمكن أن يكون هناك تغيير هادئ دون توافق القوى الثلاث المذكورة، ومنذ وصول بوتفليقة لسدة الحكم ونحن نتابع مشاهد متكررة من تقويض السلطات الرقابية والسلطات المضادة، وهذا أضر بالتوافق ”التاريخي” المذكور، بعد أن تم إخضاع السلطة التشريعية والقضائية والمجتمع المدني ومصادر المعارضة. نحن بصدد وضع استراتيجية من أجل اللااستقرار وصولا إلى تكريس ممارسة السلطة من قبل رجل واحد، ومن دون رقابة ولاتحديد للصلاحيات ولا للعهدات ولا للخطوط الحمراء. وإذا كان الرئيس يريد إبعاد الجيش، فلماذا اليوم تحديدا؟ الجيش حاليا له مقعد بمجلس الوزراء، وأقل ما يمكن قوله أن هناك أمور غير معلنة. ما رأيكم في الدعوات التي تطالب بأن يكون للجيش دور من أجل التغيير مثل دعوة مولود حمروش؟ الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني ويحمل بطبيعته قوة سياسية وعسكرية مترابطة وظيفة، ومولود حمروش هو عضو سابق في المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني ويعرف كيف يشتغل النظام السياسي، فهو كان عضوا بجيش التحرير الوطني ثم بالجيش الشعبي الوطني، ثم التحق بالعمل السياسي، وله تأمل كبير في خاصية نفوذ الجيوش في العالم الثالث في الأنظمة السياسية، فهو يعتقد أن النظام وصل إلى حدوده منذ مدة، ويعتقد أن التغيير مرتبط أيضا بإرادة السلطة القائمة، وحسب رأيي فإن حمروش ليس مع الانتقال الذي يحمل مخاطر، وليس وحده من دعا الجيش إلى لعب دور في التغيير، فمواطنو غرداية كذلك استنجدوا بالجيش الذي أصبح في نظر العديد من يمثل السيادة الوطنية. هل تعتقدون أنه يمكن للجيش أن يلعب دورا في السياسة بالجزائر حاليا من أجل انتقال ديمقراطي مثلا؟ الجيش سيكون له كلمته، وهو يتحمل على الدوام مسؤولياته، والخبراء يقولون حاليا إن أي محاولة للانتقال إلى مرحلة من حكم آخر، فإنه لا يمكن أبدا إقصاء قطاع الأمن بكل مكوناته، كشريك في مسار الانتقال، وكثيرا ما كان الواقع متناغما مع هذا التحليل. الأمين العام للأفالان سعداني يطالب بالدولة المدنية، وقائد الأركان قايد صالح يطالب بحياد الجيش، بينما هناك أصوات تطالب بإشراك الجيش في التغيير، أي نظرة أقرب لما يجب أن يكون؟ لا يمكن أن ننسى أن أول من خاض حملة مغرضة ضد جهاز الاستعلامات والأمن هو هذا الشخص من خلال تصريحات تحمل الكثير من المغالطات، وهي بالذات تحمل في طياتها استفزازات، وإذا طلب مني إعطاء قراءة في هذا الشأن، فإن الدولة المدنية يعتبر ”مطلبا” أما حياد الجيش يمكن أن يتحقق إذا أخذ بعين الاعتبار إشراك الجيش في التغيير. الجزائر: حاوره محمد شراق
الضابط المتقاعد أحمد عظيمي ل ”الخبر” ”دور الجيش انتهى عام 2005 ”
الرئيس بوتفليقة لم يشاور الجيش في مسألة تعديل الدستور، هل بنظركم هذا يدل على أن الرئيس أبعد الجيش نهائيا من السياسة؟ منطقيا، لا يستشار الجيش في أمور تتعلق بالدستور، فالدستور يحدد محتواه الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والشخصيات الوطنية والسياسية، من خلال نقاش عام ثم لجنة مستقلة عن السلطة تصوغ النسخة الأولية للدستور، أما الجيش فلا دور له ولم يعد له دور في السياسة منذ 2005، وحاليا الرئيس نفسه هو وزير الدفاع الوطني. وماذا تعني دعوة سعداني إلى دولة مدنية؟ سعداني لا يؤخذ بكلامه، فعندما نتحدث عن الجيش يجب أن نفرق بين الجيش كقيادة عسكرية وبين المخابرات التي تتبع رئيس الجمهورية في العديد من البلدان، وكما قلت فإن الجيش لم يعد له دور في السياسة، وأنا هنا أتحدث عن جنرالات توقفوا عن التدخل منذ التاريخ المذكور، ثم إن تغييرات جديدة طالت المؤسسة العسكرية خلال 15 سنة، تغييرات مست القيادة التاريخية المتكونة من الذين شاركوا في ثورة التحرير، فهؤلاء كانوا يلعبون دورا سياسيا وعسكريا في نفس الوقت، ثم غادرت هذه القيادة وحلت محلها قيادة جديدة تحمل شرعية مكافحة الإرهاب، وهذه القيادة أيضا توقف دورها بإحالة محمد العماري إلى التقاعد عام 2004، وبعدها جاءت قيادة جديدة تتكون من مثقفين ودكاترة لا تهمهم السياسة. يعني يحق للمخابرات أن تتدخل أما الجيش فلا؟ المخابرات في العالم كله تتدخل، لذلك فإن القول بإبعاد المخابرات عن السياسة يعني تسليم البلد إلى مخابرات دولة أخرى، نعم كل المخابرات لها دور في المجال السياسي، لكنها لا تتدخل في القرار السياسي، وإذا قلنا في الجزائر إن المخابرات هي التي تحكم، فمعنى هذا أن بوتفليقة يقوم بدوره، لأنه هو المسؤول عنها. قلت إن دور الجيش انتهى، معنى هذا أن حمروش مخطئ لما دعاه إلى لعب دور معين؟ لا، الجيش يمكن أن يكون له دور في المرحلة الحالية، أو إذا صح التعبير مرحلة السير نحو الديمقراطية، وفي هذه المرحلة هناك ضعف وتهلهل مؤسساتي، فلا وجود لأي مؤسسة واقفة كما ينبغي، وهناك مؤسسات غارقة في الفساد وأحزاب أضعفت على مدار السنوات الماضية، وإن بدأت المعارضة حاليا تعرف كيف تعمل بتوحد إسلاميين وعلمانيين، وفي هذه المرحلة بالذات نحتاج إلى الجيش كحام لمسار انتقال ديمقراطي، دون أن يتدخل بالقرار لمنع تزوير انتخابات أو وقف تغول الإدارة كما حدث في التشريعيات والرئاسيات، وليس من السهل أن توقف الإدارة عند حدها فهي تفعل ما تريد، خاصة مع انتشار الفساد على نطاق واسع، فبمثل هذه الظروف لا نجد أمامنا سوى المؤسسة العسكرية المعروفة بالانضباط وبإمكانها حماية الدستور وحماية أي انتقال ديمقراطي، فلا وجود لأي مؤسسة أخرى باستطاعتها أن تؤدي هذا الدور، لأنها مؤسسات ضعيفة. الجزائر: حاوره محمد شراق