اختصّ اللّه سبحانه وتعالى بمعرفة علم الغيب، وأنّه استأثر به دون خلقه، وورد ذلك في عدّة آيات قرآنية، منها قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللّه وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} النّمل:65. كما جاءت آيات أخرى تفيد أنّه سبحانه استثنى من خلقه مَن ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوَحي إليهم، وجعله معجزة لهم، ودلالة على نبوّتهم وصدقهم، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} الجن:26-27. جاء على لسان سيّدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وصحبه وسلّم الإخبار عن أمور غيبية لم يُدركها في حياته، أو لم يشاهدها، فبِوحي من اللّه تعالى، للدَّلالة على صدقه ونبوته، قال اللّه تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} النَّجم:3-4. وممّا أخبر به نبيّنا الكريم صلّى اللّه عليه وسلّم من المغيبات الّتي أطلعه اللّه عليها لتكون من دلائل وبراهين نبوّته حديثه لأصحابه عن بعضَ صفات وأحوال التّابعي أُوَيْس الْقَرْني رضي اللّه عنه الّذي كان يسكن بالكوفة، وأدرك النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يره أو يُقابله. وأويس القرني رضي اللّه عنه هو أبو عمرو أويس بن عامر بن جزء بن مالك القرنى المرادي اليماني، وهو القُدوة الزّاهد، سيّد التّابعين فى زمانه، قال عنه أبو نعيم: “فَمِنَ الطبقة الأولى من التّابعين سيَّد العُبّاد، وعَلَمُ الأصفياء من الزُّهّاد، أويس بن عامر القرني”. وقال عنه الذهبي: “..وقد كان من أولياء اللّه المتّقين، ومن عبّاده المُخلصين”. وأما قصّته في سيرة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقد رواها الإمام مسلم في صحيحه عن أسير بن جابر رضي اللّه عنه قال: “كان عمر بن الخطاب إذا أتَى عليه أمداد (الجماعة الّذين يمدّون جيوش الإسلام) أهل اليمن سألهم: أفيكُم أويس بن عامر؟ حتّى أتى على أويس فقال: أنتَ أويس بن عامر؟ قال نعم، قال: مِن مرّاد، ثمّ من قرن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأتَ منه إلّا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعتُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: “يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مرّاد ثمّ من قرن، كان به برص فبرأ منه إلّا موضع درهم، له والدة هو بها بَرّ، لو أقسم على اللّه لأبَرَّه، قال: فإنْ استطعتَ أن يستغفر لك فافْعَلْ، فاستغفِر لي، فاستغْفَرَ له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألَا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء (فقراء وعامة) النّاس أحبّ إليَّ، قال: فلمّا كان من العام المُقبل حجّ رجل من أشرافهم، فوافق عمر، فسأله عن أويس قال: تركتُه رث البيت، قليل المَتاع، قال: سمعتُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: “يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد من أهل اليمن من مرّاد ثمّ من قرن، كان به برص فبرأ منه إلّا موضع درهم، له والدة هو بها بَرٌّ، لو أقْسَمَ على اللّه لأبَرّهُ، فإنْ استطعتَ أن يَستغفر لك فافْعل”، فأتى أويسًا فقال: استغفِر لي، قال: أنتَ أحدث عهدًا بسفر صالح، فاستغْفِر لي، قال: استغفر لي، قال: أنتَ أحدث عهدًا بسفر صالح فاستغفر لي، قال: لقيتَ عمر؟، قال: نعم، فاستغْفرَ له، ففطِن له النّاس، فانطلق على وجهه”. قال أصبُغ بن زيد: “كان أويس القرني إذا أمسى يقول: هذه ليلة الرّكوع، فيَركع حتّى يَصبح، وكان يقول إذا أمسى: هذه ليلة السّجود، فيَسجد حتّى يصبح. وكان إذا أمسى تصدَّق بما في بيته من الفَضل من الطّعام والثّياب، ثمّ يقول: اللّهمّ مَن مات جوعًا فلا تُؤاخِذني به، ومَن مات عريانًا فلا تؤاخذني به”. وفي قصّة سيّدنا أويس القرني رضي اللّه عنه دليل من دلائل النّبوة، وفيها فضل برِّ الوالدين والّذي به نال أويس تلك الخيرية، وأثَر الدُّعاء والبرّ في رفع البَلاء، وفيها أيضًا فضل أهل اليمن في جهاد المسلمين وفتوحاتهم في صدر الاسلام، وجواز طلب الدّعاء والاستغفار من أهل الصّلاح، وغير ذلك.