قال الحقّ سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} الإسراء:23-24. شكاوى مقلقة، وأخبار مزعجة، تتفطَّرُ لها القلوبُ، وترتجُّ لها النّفوس، هي نذير شؤم، وعلامة خذلان، يجب على الأمّة جمعاء أن تتصدَّى لإصلاحها، كيف لا، وهذه الشّكاوى والأخبار، تتعلق بأعظم الحقوق بعد حقِّ اللّه تعالى، إنّها أخبار عقوق الوالدين. هذا يهجر والده لأتفه سبب، وأخرى تسبُّ أمَّها لأنّها منعتها من الخروج، وآخر يتجاوز ذلك بالضّرب والتّعدّي على أمّه أو أبيه، وربّما تصل القضيَّةُ إلى حدِّ القتل والعياذ باللّه. إنّنا حينما نتحدَّثُ عن عقوق الوالدين فإنّنا نتحدَّثُ عن أكبر الكبائر بعد الإشراك باللّه، كيف لا يكون كذلك وقد قرن اللّه برّهما بالتّوحيد فقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}. قال ابنُ عبَّاس رضي اللّه عنهما: ”يريد البرّ بهما مع اللُّطف ولين الجانب، فلا يُغْلِظُ لهما في الجواب، ولا يُحِدُّ النّظر إليهما، ولا يرفع صوته عليهما، بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي السيّد تذلّلاً لهما”. إنّه من المؤسف حقًّا أن نسمع بين الحين والآخر أنّ من أبناء الإسلام مَن يتنكّر للجميل، ويقابل الإحسان بالإساءة بعقوق والديه، وإنّ العاقل ليتساءل: ما سبب انتشار مثل هذه الجرائم؟ لاشكّ أنّ من أسباب انتشارها ضعف الإيمان، إذ لا يجرؤ على هذا الأمر إلّا مَن ضعُف إيمانه وخوفه من اللّه، ومن الأسباب كذلك انتشار الفساد والأفلام المقيتة بوجهها الكالح وأفكارها الهدّامة الّتي تفسد الشباب والبنات، وتجرّئهم على الآباء والأمهات، ومنها اختلاط الثقافات، وتأثّر بعض المسلمين بحياة الغربي الّذي يعيش وحده، ويهجر أسرته وقرابته فلا يراهم إلّا في المواسم والأعياد، ولا ننسى كذلك سوء التّربية أصلاً من الوالدين، فيشبّ الشّاب والفتاة على البُعد أو القصور والجفاف في علاقتهما بوالديهما. إنَّ من عظم حقّ الوالدين في الإسلام أنّه قرّر برّهما وحسن مصاحبتهما بالمعروف، حتّى وإن كانا كافرين، فعن أسماء رضي اللّه عنها قالت: قَدِمَتْ عليَّ أمِّي وهي مشركة فاستفتيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقلتُ: يا رسول اللّه إنَّ أمّي قدمت عليَّ وهي راغبة أفأصلها؟ قال: ”نعم، صلي أمَّك”. بل أوجب اللّه تعالى البرّ بهما، ولو كانا يأمران الولد ويلزمانه بالشّرك باللّه، قال تعالى: {وإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}. فإذا أمر اللّه تعالى بمصاحبة هذين الوالدين بالمعروف مع هذا القُبح العظيم الّذي يأمران ولدهما به، وهو الإشراك باللّه، فما الظنّ بالوالدين المسلمين، تاللّه إنّ حقّهما لمِن أشدّ الحقوق، وإنّ القيام به على وجهه من أصعب الأمور وأعظمها، والموفّق مَن هدي إليه، والمحروم كلّ المحروم مَن صُرف عنه. كان أبو هريرة رضي اللّه عنه إذا أراد أن يخرج من دار أمّه وقف على بابها فقال: السّلام عليك يا أمّاه ورحمة اللّه وبركاته، فتقول: وعليك السّلام يا بني ورحمة اللّه وبركاته، فيقول: رحمك اللّه كما ربيتني صغيرًا، فتقول: ورحمك اللّه كما سررتني كبيرًا، ثمّ إذا أراد أن يدخل صنع مثل ذلك. ونختم هذا الموضوع بخبر أويس القرني؛ ففي صحيح مسلم: كان عمر إذا أتَى عليه أمدادُ أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتّى أتَى على أويس بن عامر فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: مِن مُرَادٍ؟ قال: نعم، قال: كان بك بَرَصٌ فبرأت منه إلّا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعتُ رسول اللّه يقول: ”يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن مِنْ مُرَادٍ ثمّ من قَرَنٍ، كان به أثرُ بَرَصٍ فبرأ منه إلّا موضع درهم، له والدةٌ هو بارٌّ بها، لو أقْسَمَ على اللّه لأبَرَّه، فإنْ استطعتَ أن يستغفر لك فافْعَل”. إمام مسجد عمر بن الخطاب بن غازي براقي